الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
عبد العزيز وجعل يبكي ويصف ذلك الدوران قال فدهشت لذلك، ورأى بعضهم ملائكة تطير بين السماء والأرض بعضهم على صورة الغنم، وكل هذه المنامات حوالي الوقعة.
ذكر وقعة السبلة سنة 1347 ه
ـ
لما نزل ابن سعود القصيم وكان قد ضرب لأعوانه وأحزابه من الحضر والبدو ميعادًا ليوافوه بها وكان ذلك بعد عيد الفطر، ولما اجتمعت الجموع عبأ جيشه وعزم على المسير من بريدة إلى العصاة في موضعهم في حين أن زعماء الفتنة قد جمعوا جموعهم واستعدوا لخوض غمار الحرب ضد ابن سعود حتى يقهروه، وكان ولي العهد سعود بن عبد العزيز في "النبقية" معه ثمانية آلاف من الجيوش الحضرية وعشرون ألفًا من الهجر انتظارًا لأبيه فسار صاحب الجلالة بنفسه حتى قدم على سعود ثم أنه قام البطل الغلاب عبد العزيز بن عبد الرحمن فقاد الجيش بنفسه وعسكر بالزلفي في حين أن الدويش وابن بجاد قد عسكرا بالسبلة وبين المنزلين ثلاث ساعات، هذا وما كان ابن سعود لينسى جميل أحد وماضيه بل ما زال يدخر في نفسه السمحة الطيبة ودًا لفيصل وابن بجاد ولم يقطع الرجاء ما دام يجد للصلح موضعًا فبعث إليهما بطلب منهما أن ينزلا على أمر الله ورسوله فيما أتيا من الأعمال وأخذ الرسل يروحون ويغدون بين الطرفين ثم غادر ابن سعود الزلفي إلى السبلة (1) نفسها ونزل على مقربة من جموع العصاة وقد كان العدو تحصنوا وراء جدار حصين قد تمنعوا، وجيشهم يبلغ أربعة آلاف أو يزيد.
(1) السبلة تقع في مستوى أرض يعلوه حصباء بنية يقدر طولها شمالًا وجنوبًا باثني عشر كيلو وشرقًا وغربًا بعشرة كيلو مترات ويقع في شرقيها تلال فيها مزابن اتخذها البدو البغاة، ومتاريسهم عبارة عن أكوام حجارة فوق التلال نصب الملك عبد العزيز خيامه في مستوى من الأرض يسمى "السملق" ثم مشت الجنود السعودية من الخيام إلى جهة البغاة، تحد السبلة شمالًا بكثب رمال، وجنوبًا بوادي مرخ المشهور، وغربًا بجبل يدعى طويق يخترقه الطريق بينها وبين الزلفي عشرون كيلو تقع عنه شرقًا وعن يسار الذاهب إليها من الزلفي في جبل طويق مرتفع يسمى أم الذر.
أما جيش صاحب الجلالة فقد بلغ أربعين ألف مقاتل، عشرة أضعاف جيشهم. فبينما كان في مجلسه إذ دخل عليه رسول من سلطان بن بجاد يحمل إليه كتابًا منه فلما دخل لم يسلم على ابن سعود لأنه في زعمهم مبتدع هذا الذي حمله على عدم السلام فثار ابن سعود لهذه الإهانة أنفًا على ما صدر وصاح بالرسول من أنت ألست "ماجد بن خثيلة" وأخذ يسرد عليه تاريخه أتدخل علي ولا تسلم اذهب من فورك إلى الذي أرسلك وأخبره أننا قادمون عليهم للهجوم غدًا فإذا أرادوا أن يحقنوا دماءهم فليستسلموا بلا قيد ولا شرط والشريعة هي الحكم بيني وبينهم وهؤلاء العلماء حاضرون قم واذهب إلى رفيقك فمضى ماجد إلى سلطان بن بجاد وأخبره بجواب ابن سعود الذي صمم على الحرب أو استسلام خصومه بدون قيد ولا شرط، فرأى الدويش المخادع أن يذهب بنفسه إلى ابن سعود ليرى ما عنده ويختبر قوته فلما أن وصل إلى مخيم السلطان أخذ يتملق ابن سعود ومن معه وتظاهر بالرضا والغبطة ثم طلب إليه أن يعفو عنه وعمن معه عفوًا عامًا حتى رضي بأن يعفو عن دمائهم وعن أموالهم يدع أعمالهم إلى الشرع يحكم فيها فشكره الدويش وأثنى عليه وطلب أن يبيت عنده ليبرهن على توبته وإخلاصه وعدم مشاطرته سلطانًا رأيه وعرف ابن سعود أن ذلك خدعة منه فقال له قم واذهب إلى قومك ونم عند أهلك وموعدكم شروق الشمس من غد فإن كنت صادقًا فتنح عنهم وإن لم تكن صادقًا فسترى وخامة العاقبة والله ولي الصابرين، فغادر الدويش المعسكر واعدًا بالجواب فجرًا فما رآه قومه حتى استقبلوه وسألوه عما رأى فوقف أمام الجموع شامخًا متغطرسًا، وقال لما سألوه ماذا رأيت مجيبًا لهم.
يا قوم رأيت حضريًا ترتعد فرائصه من الخوف وكل من معه طبابيخ لا يعرفون إلا النوم على الدواشح أبشروا يا إخوان بالغنائم بالكسب فلقد وجدت لديهم حلالًا كثيرًا يعني أنعامًا ورأيت عندهم أموالًا عظيمة فأبشروا بالغنيمة التي لم تغنموها من قبل ابشروا بالكسب الذي لا تحلمون به غدًا سنقهر هذا الطاغوت ونستولي على ماله، وانتظر ابن سعود جواب الدويش حتى الصباح حتى الشروق
فلم يأته جوابه بل رأى جموع الأشقياء مستعدة للقتال، أين الدويش أين الجواب تالله إنها لحالة مزعجة فعند ذلك أمر ابن سعود جنوده بالاستعداد وعبأ جيوشه ونشر راياته المنصورة فوثب هو إلى فرسه وتقلد بندقيته وشد على وسطه حزامه وتمنطق بسيفه المشهور "رقبان" الذي مزق به كل خصومه، وجمع جنوده ورتبهم ترتيبًا عسكريًا فجعلهم صفًا واحدًا على مسافة طولها ثلاث ساعات، وأما الخيالة فقد قسمهم قسمين قسمًا جعله جناحًا أيسر تحت قيادة أخيه البطل الشجاع محمد بن عبد الرحمن وقسمًا آخر جناحًا أيمن وجعله تحت قيادة ابنه الليث الباسل سعود وأشار إليهما أن لا يدخلا المعركة إلا بأمر منه، أما هو فقد وضع نفسه في القلب وحوله أبناؤه الصناديد المغاوير وأبناء اخوته والأمراء من آل سعود والمماليك.
وكان ترتيب العصاة كذلك خط طويل عليه جنودهم وجناحان للخيالة وقد عزموا على أن لا تردد غير أنه ما ثم إلا الواقعة ثم يظفرون، ولمن سواهم سيغلبون، ولمن في وجوههم سيقهرون وامتلأت تلك الصدور من الأماني وهيئوا الأسلحة التي بزعمهم القواضي، فلما كان في الساعة الأولى من صباح يوم السبت الموافق 19 شوال برز ابن سعود على "الصوتية" أحب أفراسه إليه يختال في السير بين الصفين "ورقبان" الصمصامة يهتز في يده ثم تراجع بفرسه خطوات ثم تقدم ثم تأخر ثم صاح بها صيحة الحرب المدوية فإذا "بالصوتية" كالبرق وخلفها الأبطال آل سعود المقدمين على خيولهم العربية الكريمة يطيرون، وكان قد عزم على أن يتولى القيادة، ولما رأى أبناء الملك واخوته وأسرته أنه يريد أن يخوض المعركة بنفسه لم يقدروا على مصارحته ثم اجتمعوا وبكوا أمامه وإنهم سيكفونه ذلك إن شاء الله فذهب إلى ربوة وأحرم بركعتين، وهجم الجيش السعودي خلف القائد العام فالتحمت المعركة ووصلت في الدقيقة العاشرة وقد حمى الوطيس واستعرت الحرب وثبت العصاة للوثبة الأولى ولم ينكسر صفهم المتماسك ثم صاح الجيش السعودي صيحة أخرى أشد دويًا وهولًا وأعظم رعبًا من الأولى وجالت قواد الجيش السعودي في الميدان فجعلت بنادق الجيش السعودي وسلاحه تفلق الهام وتطيح الرءوس وتسيل الأرواح في وقت أظلم فيه الجو وطاشت سهام العدو بين السماء
والأرض وجعلت السهام السعودية تسدد إلى العدو فما تقع إلا على لحم فما كان إلا نصف ساعة حتى صارت الهزيمة على الدويش وأتباعه فولوا الأدبار منهزمين لا يلوي أحد على أحد بعد ما كادت القوات تحصدهم حصدًا، وأراد الجيش الباسل السعودي المنصور أن يلتهم العدو التهامًا وأن يتتبع الفارين فمنع صاحب الجلالة من ذلك تأدبًا مع الشريعة في قتال البغاة، وولى سلطان بن بجاد ناجيًا بنفسه ويصيح للمنهزمين بالفرار، وتقدم "صالح بن محمد المردسي" حامل راية أهل بريدة بأمر الأمير لجيشها وقائد غزاتها حمود بن صالح بن مشيقح فنصبت الراية بين خيام العدو، وقد ظن صاحب الجلالة أن هذه الضربة قاضية على العدو.
وكان "رقبان" سيف ابن سعود لما ضرب رجلًا من العدو على عنقه نفذه السيف كلمح البصر والرأس في مكانه فظن ابن سعود أن الضربة أخطاته فرفع السيف وقبل أن يهوي به انتفض القتيل وسقط الرأس لكنه لما ضربه أخرى مرادفة بعد سقوط الرأس عن جسمه قدته نصفين وشطرت القلب شطرين، وقد أبيد معظم البغاة.
ولما فر القائدان فيصل الدويش وسلطان بن بجاد قصدا الأرطاوية ثم رأى الفارون منهم أن لا ملجأ لهم من ابن سعود بعد الله إلا إليه وهم رءوس الشر والفتنة فكتبوا إليه يطلبون العفو والأمان ويذكرونه بماضيهم الجميل وبعثوا إليه يستعطفونه ويتوسلون فأجابهم ابن سعود بأنه لا ينكر ماضيهم الجميل ولا ينسى حاضرهم القبيح وذكر لهم أنه عفو كريم ولا سيما عند القدرة على أخذهم ومحو آثارهم وسيكل أمر عملهم إلى الشرع الشريف.
ولما جاءهم الجواب خافوا على أنفسهم كما قيل "أسأت لي فاستوحشت منى" فبعث الدويش وابنه النساء والأطفال إلى ابن سعود في مقره بالسبلة مستشفعين مستعطفين ولما أن وصل النساء والذرية في صباح اليوم العشرين من شوال إلى مقر ابن سعود في بكاء وعويل رق قلبه لهم ولم يتمالك نفسه من البكاء فأصدر أمره
السامي بالعفو عن الدويش وابنه (1) واشترط عليه أن يسلم ابنه حالًا وأن يبقى هو بالأرطاوية حتى يشفي من جراحه ثم يسلم نفسه وأن لا تكون له علاقة ما بعد الآن بقبيلة مطير، فرضي الدويش واستسلم ابنه عبد العزيز فسلّم نفسه إلى ابن سعود، وظل فيصل الدويش المثخن بالجراح يعالجه طبيب ابن سعود الخاص يعنى بأمره ويسهر عليه.
أما سلطان بن بجاد فإنه لما علم بعفو ابن سعود عن زميله، وأن سيد الجزيرة قد منَّ عليه استسلم هو إلى ابن سعود وبعث إليه بكتاب يستأذنه فيه بأن يسمح له بمقابلته، وليصنع به بعد ما يشاء، فأجابه ابن سعود بأن الجنود حانقون عليه ومتبرمون، ويخشى إن قدم عليه أن يناله منهم مكروه، فإن كان صادقًا في طلبه وكلامه فليمض إلى شقراء أو ليسر إلى الرياض فيسلم نفسه لحاكمها، فذهب ابن بجاد إلى شقراء وسلم نفسه، فأمر ابن سعود أن يسجن لأنه كان خطرًا على الأمن العام ويخشى انتفاضه، لأنه قد طالما كابد منه ومن أمثاله نكث العهود وتمزيق المواثيق، ففي إطلاقه ومنحه الحرية تمهيد للعبث والفتنة من جديد، فرأى أن يبقيه معتقلًا اكتفاء لشره حتى يتوب، وقد كفانا فعل زميله، فقضى في السجن بقية حياته رحمه الله تعالى، ثم مضى بعد ذلك ابن سعود إلى الحجاز للحج.
(1) سيأتي في الجزء الخامس في ترجمة الملك عبد العزيز لما ذكرنا أخلاقه ومعاملته لأعدائه قصة عجيبة في معاهدة الدويش لما استجار بابن سعود وانطرح بين يديه تشفع له نسائه وأطفاله، وكيف عامله الله بنقيض قصده وهي حالة مزعجة، نسأل الله العافية، فعلى من عاهد بالله وأطعا به أن يفي بالعهد لأن لا يحيق به مكره لأن الله تعالى قال:{وَلَا تَقْرَبُوا مَالَ الْيَتِيمِ إِلَّا بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ حَتَّى يَبْلُغَ أَشُدَّهُ وَأَوْفُوا بِالْعَهْدِ إِنَّ الْعَهْدَ كَانَ مَسْئُولًا (34)} [الإسراء: 34]، ويقول صلى الله عليه وسلم عن الله تبارك وتعالى: "ثلاثة أنا خصمهم يوم القيامة، ومن كنت خصمه، رجلٌ أعطى بي ثم غدر .... الخ.