الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
حقوقها إذا كانت لا تعيد كلما صادرته من السنابيك الرافعة العلم الإيطالي، فعقد الوزراء مجلسًا للنظر في الأمر وقرروا بعد البحث أن يجيبوا طلب الحكومة الإيطالية، فعد هذا الحادث نصرًا سياسيًا لابن سعود وهدة في جانب علي، كما أن قدوم ثلاثة آلاف من الهند حجاجًا ورجوعهم سالمين بعد الحج عن طريق رابغ هو نصر سياسي آخر، أضف إلى ذلك الحادث الذي كسر شوكة الهاشمين وهو نقل الحسين والد الأسرة إلى قبرص.
ولما قام الجيش السعودي من الجبهة في 27 ذي القعدة للذهاب للحج وأخلى الجيش محلاته في 30 ذي القعدة، استبشرت حكومة علي لما رأت الجنود النجدية منازحة عن القتال ظنًا منها أن ذلك عجز وأملت الفوز مع ما هي فيه من العسر، وكان لم يبق في جبهة جده من النجديين غير قوة صغيرة من الخيالة والهجانة لتشرف على الرغامة.
ولما كان بعد ساعتين من إخلائه توجه جند الملك علي وحصنوا تلك المحلات لأنهم ذاقوا منها ضربًا وقتلًا، وقد روي أن تحسين وزير الحربية قال للملك علي يوم قيام الجند النجدية لو كان عندي مائتا خيال للحقتهم ومحوتهم عن آخرهم، ثم بلغ به هذا الهوس أن جمع المتطوعين اليمانيين والنظامية فأرسلهم ولبث بمركز القيادة ينتظر النتيجة فما وصلت تلك القوة نقطة الرغامة إلا وقد التف جند نجد عليهم ومحاهم عن آخرهم، ولم يسلم منهم سوى اثنين لاذا بالفرار وأسر واحد.
ذكر نقل الحسين بن علي من العقبة
لما كان الحسين في العقبة يجند الجنود ويجيش مددًا لابنه علي ويرسل إليه المال والأرزاق، رأى ابن سعود أن وجوده قريبًا منه خطر عليه، فبعث صاحب الجلالة السلطان عبد العزيز جيشًا إلى حائل لمهاجمتها، وكان الأمير عبد الله بن الحسين يكتب قبل ذلك إلى أخيه علي بأن السر في عدم رضا ابن سعود عن حكومة الحجاز، وامتناع الإنكليز عن مساعدتها ووقوفها موقف الحياد من هذه الحرب القائمة، هو أنها لم تصدق بعد بصحة ذلك التنازل من الحسين بسبب وجوده بالعقبة وإمداده
للحكومة الحجازية بالمال والرجال، وأنه لا سبيل إلى فوزها إلا بإخراج الحسين منها، حتى أدخل في روع أخيه على ذلك وحمله على أن يتوسل إليه بهذه المهمة ففعل علي وقام بدور الناصح، غير أن الحسين أصرَّ على عدم مبارحة البلاد إلا أن يخرج منها بالقوة، فلم يجد الأمير عبد الله بدًا إلا أن يشير إلى بريطانيا بضرورة إخراج والده من العقبة باعتبارها من البلاد التابعة له والمشمول بالانتداب البريطاني ووجوده والده فيها قد يضر بمصالحها ويعرضها لغزو ابن سعود لها، وهذه تعد من أكبر الغش والقطيعة في حق الوالدين، فما وسع بريطانيا إلا أن تبعث إلى الحسين باخرة حربية إلى العقبة تحمل إليه البلاغ الآتي:
لما كان في يوم الخميس 5 ذي القعدة تلقى الحسين هذا البلاغ:
إلى جلالة الملك حسين من وكيل خارجية بريطانيا العظمى تبلغت حكومة جلالة ملك بريطانيا أن سلطان نجد هيأ قوة لمهاجمة العقبة وذلك لأن حكومة جلالتكم بها، ولأن حكومة الحجاز جعلت معان والعقبة بحالة عسكرية ضد ابن سعود، ولا يخفى أن حكومة جلالة ملك بريطانيا مسؤولة عن الأمن العام بفلسطين وشرقي الأردن مع معان التي تعد تحت انتدابها فهي تدعوكم إلى مغادرة العقبة لكي لا تكونوا سببًا لحصول مشاكل جديدة بين بريطانيا وسلطان نجد وتصر بإلحاح على وجوب مغادرتكم العقبة إذ لا يمكنها أن تسمح لكم بالبقاء أكثر من ثلاثة أسابيع، وكان هذا الإنذار شديد الوقع على الحسين وقد جاء في باخرة حربية بريطانية "تسمى فون فلاور" وكان قائد المدرعة قد طلب من الحسين الجواب النهائي فثار الحسين ثورة المهزوم الذي لا مفر له فما معنى هذه الملاحقة أينما ذهب ابن سعود، فيا لعثر الحظ وخيبة الأمل.
أجاب بريطانيا: بأنني ما زلت محافظًا على الود ومخلصًا في الولاء لحكومة جلالة ملك بريطانيا وأنه إلى أن قال وأني فاديت بكل شيء وتخليت عن الملك وغادرت وطني حبًا في السلم وحقن الدماء وأتيت العقبة لأبرهن للعالم أجمع بأنه
لا مطمع لي سوى سعادة أقوامي وتحرير بلادي بعد أن قمت بواجباتي ولم آل جهدًا في سبيل المحافظة على حقوق العرب والسعي وراء الوحدة العربية والتمسك بنص المعاهدة وانتظار تنفيذها، ولم ينقطع الأمل من الحكومة البريطانية بشأن إنجاز وعدها والوفاء بعهدها استنادًا على شرف تقاليدها، وها أنا اليوم كما تراني مقيم في إحدى قرى الحجاز معتزلًا عن العالم ومبتعدًا عن كل ما من شأنه أن يوجب الشغب وسوء التفاهم، ولما كان هذا الاعتزال والابتعاد لم يخلصني من أمثال تلك الشوائب فلا شك في أنني أينما ذهبت لا يخلو الأمر من حدوث شيء مما في التبليغات الأخيرة وربما كنت أشد هولًا من موقفي الحالي إذ لا أضمن هياج الشعب العربي وقتئذٍ وحدوث ما لا تحمد عقباه نحو الحليفة وغيرها، ولهذا فإنني لا أرى مندوحة من بقائي في مكاني، وإن شاءت حكومة جلالة الملك فلتبعث بي إلى عالم المريخ فإني مستعد لإنفاذ رأيها في هذه البعثة في أول دقيقة التبليغ أو أنها إذا نسيت ورأت عظمتها لأن تبعث إحدى وسائطها الحربية لتهلكني وعائلتي وخلاص الجميع من هذه الغوائل، ولن أزال أساعد الحكومة الحجازية بمالي الخاص الذي ادخرته لمستقبلي المجهول، لأن من لا خير فيه لوطنه لا يرجى منه الخير لحلفائه وأصدقائه، ولي الشرف أيضًا بكوني ثبت على مبدئي وأخلصت في عملي وقمت بواجباتي، فما علي من غيري فيما إذا لم يف بوعده ولم يقم بإنجاز عهده، ونفذ مطامعه بقوة مدرعاته وبرؤوس حربه، فهناك يكون الحكم لمن غلب، ثم احتج على بريطانيا بأمور وإن ابن سعود قد هاجم شرقي الأردن غير مرة في أواخر العام المنصرم دون أن يكون لحكومة الحجاز أو لحكومة معان أقل دخل فيها.
فماذا لم تعرفه حده لتوقفه عنده، ثم صرح بأنه لم يعترف بالانتداب على البلاد العربية من أساسه، وأنه ما زال يحتج على الحكومة البريطانية التي جعلت فلسطين وطنًا قوميًا ليهود -وشمالي سوريا تحت الانتداب ومأوى للأرمن، وأنه ليعجب من تغافل الحكومة البريطانية عما حل بالحجاز بل بالطائف من السحق
والمحق في الأموال والأنفس والدمار الذي لا يمكن تلافيه إلا بعد عشرات السنين، ثم اهتمامها بمحافظة معان والعقبة الأمر الذي لا يبقى محل لإطالة البحث فيه، ثم قال ولا يمكنني مغادرة العقبة إلا بعد إبلاغي لغوه وبعدئذ أذهب إلى حيث تريد حكومة جلالة الملك بشرط أن يكون محل إقامتي ضمن البلاد العربية وأن لا أكون مسؤولًا عما عساه قد يحدث من شغب أو هياج شعب تطمع نفسه لرفع نير الاستعمار وتجديد النهضة فيما إذا مست الحاج وإلا فإني لا أبرح العقبة ولو أدى الأمر لهلاكي ومحو عائلتي من الوجود.
وقد حاول أصدقائه وابنه عبد الله على أن يقبل الإنذار البريطاني، ولكنه ظل حتى الدقيقة الأخيرة متمسكًا برأيه حتى همس في أذنه أحد رجال شرقي الأردن أنه يجدر به أن لا يكون سببًا في نكبة شرق الأردن، كما كان سببًا في نكبة الحجاز فأذعن وانقاد، ثم أتت مدرعة على أثر ذلك اسمها "دلهي" وكانت أكبر من الأولى في يوم السبت 7 ذي القعدة، فلما رست في مياه العقبة قبيل الظهر وبعد مضي 17 يومًا أبلغه قائد المدرعة البريطانية في يوم الثلاثاء 24 ذي القعدة أن يستعد للسفر إلى الجهة التي اختيرت له في يوم غد وقال له مشافهةً: إذا أبى وقاوم فسيتخذ تدابير أخرى، فطلب الحسين حيفا، أو يافا، فأبرق القائد إلى لندن فجاءه الجواب بذهابه إلى قبرص، ولما طلب إمهال يومين أجبره القائد على السفر يوم الخميس فأجاب بأنه مستعد للسفر إلى المريخ إذا أرادت بريطانيا وما دامت تريد إرساله إلى قبرص فهو لا يعارض لأن المسألة قوة، وإنما طلب إمهاله يومين ليعد فيهما عدة السفر، فلم يمكنه القائد البريطاني وأجبره على السفر في اليوم المذكور وبينما "رضوى" و"الرقمتين" تنتظران لحمله إلى جدة حسب ما طلب إذا بالقائد يلزمه بأن لا عدول عن السفر بالبارجة دلهي المخصصة لركوبه.
ولما كان في صبيحة يوم الأربعاء نزل الحسين بن علي من منزله الذي كان يقيم فيه بالعقبة ومعه حرمه التركية وبنتاه منها وكاتب بسيط كان قد ثبت على خدمته وطاهية وخدمه، ورافقه اللواء جميل باشا الراوي، وعند صعوده إلى الباخرة استقبل
فيها بكل ترحاب وخصص له جناح خاص له ولعائلته، وسارت بهم الباخرة إلى قبرص، وعندما رست الباخرة في ميناء السويس صعد إليها عبد الملك الخطيب معتمده بمصر، وأخوه عبد الحميد وحبيب لطف الله الذي أنعم عليه الحسين من قبل بلقب الإمارة واعتبره أمير هاشميًا واسكندر بك طراد وكيل إدارة أطيانه في مصر فقابلهم رجال الباخرة وحاشية الملك بكل احترام وأبلغوهم أنه آوى إلى فراشه وسيستقبلهم في صباح الغد فناموا، وفي الصباح أقلعت الباخرة وهي تسير الهوينا وتعبر قنال السويس فاستيقظ من نومه وصلى الفجر، ثم دعا بضيوفه لمقابلته، فكان أول كلمة تكلم بها مخاطبًا لهم:
مشيناها خطًا كتبت علينا
…
ومن كتبت عليه خطا مشاها
ثم وجه خطابه إلى معتمده بمصر فقال له هكذا شاء أصحابك يعني الإنكليز يا عبد الملك وأنا أعترف أن ذنبي معهم إنما هو عدم تساهلي معهم في أمر المعاهدة التي جاء بها "ناجي الأصيل" وعدم إقراري بوعد بلفور ولأن أضحي بالتاج خير لي من أن يسجل التاريخ تفريطي في شيء من حقوق العرب أو اعترافي بالوطن القومي لليهود في فلسطين، ولكن لا يظن أصحابك أن ما رفضته أن سيقبله عربي واحد في الوجود، ولئن يتم لهم ما يريدون وما أنا إلَّا ضحية بريئة ولقد كنت مخلصًا لهم عندما نصحتهم بالوفاء بتعهداتهم للعرب وتنفيذ مقررات النهضة ولكن لا يحبون الناصحين يقولون أن وجودي في العقبة هو السبب في عدم التفاهم مع ابن سعود والإنكليز وها أنا ذاهب وسأرى ما يكون.
وهنا أراد السيد عبد الملك أن يعجم عوده: فقال له حقًا يا مولاي ما تقول ولكني أعلم أن الإنكليز كانوا يقولون لنا أن مثلنا معكم كمثل دائن ومدين يقول المدين للدائن خذ هذا القدر الذي أستطيع دفعه لك الآن وانتظر حتى أعطيك الباقي على التراخي، فهلا ترون جلالتكم أننا لو رضينا بذلك وأتبعنا سياسة إيجابية، أما كان خيرًا لنا من اتباع تلك السياسة السلبية التي سلكناها، فأجابه الحسين لا، لا با بني إن التساهل في الحقوق سبب لضياعها، أم زوال الملك فإنه لا
يؤثر في الحق شيئًا، وإني لم أتعاقد مع بريطانيا باسمي بل باسم العرب أجمعين، فماذا أقول لهم إذا أن فرطت في حقوقهم تثبيتًا لعرشي واحتفاظًا بملكي، فهل سبعة عشر عامًا مررت بهذا القنال في طريقي إلى الحجاز لأتولى الإمارة فيه، وإذا كنت قد تركته اليوم واعتزلت الحكم فإن للبيت ربٌّ يحميه وفي العرب ولله الحمد من يستطيع أن يجاهد في سبيل تشييد ما أسست، وإكمال ما به بدأت على أنني أعرف نفسي أنني ما أخطأت في سياستي إلا لأني وثقت بوعود بريطانيا، وحسبت من أخلاق الأوربيين مراعاة الشهامة وتقدير قيمة الإخلاص، ومع كلٍ فإن ذلك لم يكن مني إلا عن حسن نية.
وهنا تكلم عبد الملك الخطيب قائلًا: لقد كانت الخلافة يا مولاي شؤمًا علينا لأنها أثارت الرأي العام الإسلامي ضدنا فلم تجد بريطانيا من مصلحتها تأييدنا بعد أن اتهمت بأنها هي التي تريد ذلك، فأجابه الحسين ألا تعلم أنني لم أطلب الخلافة، وإنما العرب في شرق الأردن وسوريا هم الذين اختاروني لها، وعبد الله هو الذي ألح علي بقبولها وقال إنها تعزز مركزنا وتحمل بريطانيا على الوفاء بتعهداتها لنا والإذعان لمقررات النهضة فقبولي لها ما كان إلا لخدمة القضية العربية، وفي سبيل نجاحها، ودعا الحسين ضيوفه للغداء معه على ظهر الباخرة، ودعا معهم قائد البارجة التي أعرب عن تقدير البريطانيين لموقف الملك الحسين من الحلفاء في الحرب العامة وأنه بتنازله بقبوله السفر إلى أي جهة تعينها له بريطانيا لدليل على عظيم ثقته بها ولذلك فإنه سيكون موضع الإجلال والاحترام في أي بلد يحل فيها كما أن في نقله على هذه الباخرة التي سبق أن استقلها جلالة الملك جورج الخامس أثناء زيارته للهند لدليل على إكبار بريطانيا لجلالة الملك الحسين وفي المساء ودع المعتمد ورفاقه الحسين في مشهد أليم حيث كانت الدموع تتقاطر من عيون الجميع، ونزلوا من الباخرة وهم يرددون:{قُلِ اللَّهُمَّ مَالِكَ الْمُلْكِ تُؤْتِي الْمُلْكَ مَنْ تَشَاءُ وَتَنْزِعُ الْمُلْكَ مِمَّنْ تَشَاءُ} إلى آخر الآية.
رجعنا إلى ما نحن في صدده فنقول: كان الأمير عبد الله بعدما انتقل والده