الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
فكان جواب السلطان عليها بالإيجاز هي أن شروطي الأخيرة أن لا صلح ما دام أبناء الحسين يتوارثون الملك في الحجاز، وأنتم تعلمون أن الحجاز للعالم الإسلامي لا يخص به طائفة من المسلمين على طائفة.
وكان الحزب الوطني قد بلغ القناصل والوكلاء للدول الأجنبية في جدة بتنازل الحسين، ورفعوا برقياته إليهم برهانًا على صدقهم، وإنما فعل الحزب الوطني هذه الأفاعيل العجيبة السريعة لأن الإخوان أحاطت بهم، وبما ان الجهود قد بذلت، فنظر إلى خيبة الأمل أيقن على أنه لا طاقة له على المقاومة في مكة، لأن جيشه لا يتجاوز أربعمائة جندي، فخرج منها ليلا على حين غفلة بما لديه من قوة، ذلك بأن شراذم من الجيش النجدي قد وصلت إلى قريب مكة في 15 ربيع الأول، فما بزغت الشمس يوم الأربعاء 16 ربيع الأول إلا وقد انتشرت الإشاعات في طول مكة وعرضها بأن الحسين قد ركب الباخرة، وأن ابنه الملك علي قد بارح مكة بجيشه إلى جدة ولا يعلم إذا كان ينوي البقاء فيها أم مغادرتها أيضًا، فهلعت القلوب ووقف كل رجل حيال داره، وأخذت بادية الحجاز القريبة من مكة تفد إليها، وهاجمت دور الحكومة لسلبها وكادت تسطو على البيوت لولا أن الشريف حمزة الفعر أحد أشراف مكة أخذ ينادي فيهم بأن البلاد في أمن ابن مسعود وأنه سيتوقع أشد الجزاء على كل معتد فهدأت الحال إلى حد ما.
ذكر فتح مكة الرعب الذي ألقى الله في قلوب أهلها
لما قرب الإخوان من مكة استولى على أهلها الرعب والقلق، لما كانوا يسمعونه عن الإخوان من أنهم قساة غلاظ كما نشرت الحكومة الهاشمية في الجرائد، وزادهم هلعا القادمون من الطائف حينما كانوا يرون أخبار عجيبة مخيفة فحصل لهم كالمأتم واشتد بكاؤهم، وفي كل دار استعداد للسفر إلى جدة بل قد جلا الأغنياء وأسرتهم، وأخذوا معهم أموالهم لأنهم ظنوا الإخوان سيفعلون بهم فعلهم بالطائف، حتى كان طريق جدة كالمحشر أطفالا ونساء ورجالا وصبيانا يحملون الطعام والنقود، وما غلا ثمنا وخفَّ وزنا، حتى جاء في نقل من رأها على تلك
الحالة، قالوا وجدنا مكة كالمقبرة في الصمت الرهيب والسكون الشامل وألفينا الدكاكين مغلقة.
وكان زحف الإخوان من الطائف في يوم الاثنين الموافق 14 ربيع الأول، وفي هذا اليوم المبارك زحفت القوات النجدية إلى مكة من الطائف، وكانوا قد بعثوا سؤالا إلى علماء الرياض في أن يحرموا ويدخلوا مكة منكسي البنادق فإن لاقوا من يصدهم عن البيت قاتلوه، وإن لم يلقوا أحدا دخلوا، فمنعتهم العلماء عن ذلك، بدليل عدم جواز قصد القتال في الحرم.
وكان خروج علي حين وصولهم إلى قرية الزيمة التي تبعد ست ساعات عن مكة، وقد صمموا على الحصار واستبسلوا كأنهم الأسود في شدة السورة خيال التوحيد أخو من أطاع الله.
وما أسفر صباح اليوم 17 الموافق ليوم الخميس إلا وقد دخل الإخوان مكة محرمين لهم زجل بالتلبية وقد نكسوا البنادق، فطافوا وسعوا واستولوا بعد حل الإحرام على البلد المقدس وهم ينادون فيه الأمان، فساد السكون بمكة بخلاف تلك الفرصة التي بين خروج علي ودخول قوات الجيش السعودي، فإن بعضا من أوباش مكة ونزرا يسيرا من أهل الغطغط كادوا أن يجوسوا خلالها وانبعثوا يسألون أهل مكة أين بيت أبي خيشة ولكن المكيين لا يعرفون من أبي خيشة فكانوا يجيبون لا نعرف وأخيرا عرفوا صاحب هذه الكنية وأنهم يريدون الحسين سموه أبا خيشة.
فلا غرابة من خشونة البدو، وأنهم أجلاف، فنهبوا ما وجدوا في بيت الحسين من علب المربيات، والساعات والمفروشات وكل غال ورخيص، وباعوا بثمن بخس، ولولا أنهم كانوا في مكة منكمشين لا يستطيعون أن يقتلوا أو ينهبوا كما فعلوا بالطائف، لأن أوامر ابن سعود قاسية شديدة إلى القائدين، خالد وسلطان وبلغاها الجيش ونصحاه بلزوم السكينة والهدوء، فمن أذنب وأجرم فلا يلومن إلا نفسه، لكانت لهم غير هذه الحالة، ولكنهم يرقبون القائد الأعظم لأنهم عرفوا أن عين الأسد حمراء.
وأما ما حصل من خوف الأهالي وظنهم السيء فيأبى الله لصاحب الجلالة والمهابة أن يهمل أمر البوادي ويتركهم سدى، بل دخل الإخوان أم القرى حاسرين الرؤوس قد ملؤا الفجاج بالتلبية، ما بين قال لكتاب الله ومصل، وطائف وراكع، وساجد، وجعلوا يصرخون بالأمان وما جرى منهم أذى على أحد، ولو استمرت القيادة يومئذ في الزحف غربا لدخلت جدة بسرية صغيرة دون أن تلقى من الحكومة فيها أو من الأهالي أقل مقاومة ولكنها وقفت في مكة عملا بالأوامر العالية التي كانت مجهولة في جدة.
أما غالب الذين فروا من مكة إلى جدة ومن ضمنهم بعض الجنود فجعلوا ينتظرون الباخرة الأولى للفرار، ولكن الباخرة الأولى وصلت في 19 ربيع الأول من العقبة "رضوى" نقل كتيبة من الجنود عددهم ثلثمائة قدموا من شرقي الأردن، ومائة من عرب شمر النازحين إلى الشرق العربي بقيادة أمير اللواء تحسين باشا الفقير؛ قد جندهم الأمير عبد الله بمساعدة بعض الأنصار في فلسطين نجدة للملك علي، فأنعشت هذه النجدة آمال الملك علي فشدت أزر جنوده المنهزمين إلا أنها لم تغير في نفسية المدينة، ولا أضرمت في الأهالي شيئًا من الحماسة، وما كان قولهم إلا أن قالوا الإخوان ظافرون والجنود منهزمون وعلي متأهب للرحيل فما لنا أذن غير التسليم وخير البر عاجله.
ولما رأى القناصل الذين في جدة خطورة الأمر كتبوا إلى قواد الجيش النجدى كتابا معناه انه لا دخل لهم بأحد، ومن واجباتهم احترام أشخاص رعاياهم فإذا وقع عليهم ما يسوؤهم فهي على عاتق جيشكم لأننا على الحياد.
فجاءهم الجواب من قواد الجيش النجدي ما معناه: بإنه وصل إلينا كتابكم ولا يخفاكم أنا معاشر العرب لم نقصد ملككم ولا رعاياكم، بل قصدنا محاربة من حال بيننا وبين البيت الذي جعله الله مثابة للناس وأمنًا، سنبذل في حمايته المال والنفس، وأهل مكة مؤمنون على دمائهم وأموالهم وجدة وأقطارها لا غرض لنا فيها وإن حصل على شيء منها تعدي فعرفونا نمنعه.
وبعث خالد بن منصور وسلطان بن ابجاد بشخصيتهما كتابا آخر إلى القناصل معناه: أن ليس لنا في رعاياكم قصد، بقي مسألة، وهي وجود علي بن الحسين ومكثه الذي هو ساع بالفساد وقطع السبل، وغير ذلك، إن كان لكم قدرة على إخراجه من جدة فأخرجوه، وإلا ميزوا رعاياكم ومن التحق بهم، عرفونا بمحلهم ونحن به أبصر .. إلخ. الجواب مطلوب بحال السرعة، فجاءهما الجواب.
بعد الاحترام وصلنا كتابكم ولا يخفا كما أن حكوماتنا ملتزمة الحياد التام في الحرب القائمة بين نجد والحجاز وعلى ذلك فنحن محايدون ولا يمكننا التدخل بأي وجه كان في هذا الخصام، وقد أخذنا عليكما أمرًا محكما بأن ليس لكما نظر في رعايانا، ونؤيد مضمون كتابنا الأول والآخر بهم والسلام، 4 نوفمبر معتمد قنصل جلالة ملك بريطانيا، نايب قنصل ملك هولندا، قنصل جنرال جلالة ملك إيطاليا، وكيل قنصل جلالة شاه إيران.
ثم أنه بعث الحزب الوطني إلى خالد بن منصور المنشور الذي فيه القسم المغلظ تاريخ 7/ 3 الذي قدمنا فبعث الجواب الآتي:
بسم الله الرحمن الرحيم، والصلاة والسلام على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.
إلى محمد الطويل واتباعه من الأعضاء المذكورين وكافة أهل جدة وسكانها، سلام على عباد الله الصالحين، أما بعد.
فقد وصل إلينا منشوركم وما أشرتم به كان لدينا معلوم، وتعلمون أن ليس لنا معشر المسلمين قصد إلا امتثال أمر الله تعالى وفرائضه التي أمرنا بها، ومحبة من قام بها وإن كان عبدا حبشيا، وإن كان أبعد الأبعدين ومعاداة الكفار والمشركين؛ وإن كانوا أقرب الأقربين، ثم ذكر آيات من آيات الولاء والبراء، فقال بعدها فمن قام منكم بما ذكرتم فطريقه طريق المسلمين، له ما لهم وعليه ما عليهم، وأما تأمينكم فقد أتاكم كتاب الإمام وبه الكفاية وهذا زيادة تأكيد منا لخواطركم كافة لمن أتى أو بقي فعلية ذمة المسلمين، يكون آمنا مطمئنا يكون معلوما حرر في 20/ 3 وبعث في طيه
خطاب جلالة الملك عبد العزيز بن سعود الذي قد وجه إلى أهل الحجاز قاطبة قبل أن يتم له الاستيلاء على مكة وهذا نصه:
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ من عبد العزيز بن عبد الرحمن الفيصل إلى كافة من يراه من إخواننا، أهالى مكة وجدة وتوابعها من الأشراف والأعيان والمجاورين والسكان وفقنا الله وإياكم لما يحبه ويرضاه آمين، سلام عليكم ورحمة الله وبركاته؛ أما بعد.
فإن الموجب لهذا الكتاب هو شفقتنا على المسلمين، والصلاح في أحوالهم، في أمر دينهم ودنياهم، ولم نزل نكرر على الحسين النصائح على ما يجمع شمل العرب لتكون كلمتهم واحدة، ولكن الطبع يغلب التطبع ولا يحتاج تطويل الشرح بما انطوى عليه، إن أكبر شاهد على ذلك ما رأيتموه منه، وشاهدتموه من أقواله وأفعاله في هذه البقع المباركة التي هي مهابط الوحي، مما ينكره عقل كل مسلم، وعلاوة على ذلك ينكره كل من يحب المسلمين ولو لم يكن منهم، فالرجل ترك مزايا الانصاف وهي ما انتسب في هذا البيت الكريم؛ وأهمل حقوق هذه البقعة المباركة عليه في عدم ركوب طريقة السلف الصالح التي هي شرفه وشرف المسلمين خصوصًا وشرف العرب عموما، ولاشك أنه من ترك ما كان عليه النبي الكريم عليه أفضل الصلاة وأتم التسليم، وخلفائه وأصحابه، وهو يتسمى باسم الإسلام، وبالخصوص إن كان من أهل البيت الشريف وطمح إلى غيره من الزخارف التي هى أكبر شؤم على الإسلام خصوصًا وعلى العرب عموما فهو لا خير فيه، فمنذ دخل الحجاز يجعل أكبر همه الإيقاع بنجد والنجديين، وقد تظاهر بذلك منذ أن تفرد بالحكم، وقبض على زمام الأمور فيها، وقد بلغ منه التهور أن قد منع أهل نجد قاطبة عن حج بيت الله الحرام، وهو أحد الأركان الخمسة، فهذا فضلا عما يأتيه هو وعماله من المظالم والمعاملات القاسية تجاه حجاج بيت الله الحرام الذين يأتون من مشارق الأرض ومغاربها، وفي هذه المدة قد تركنا التدخل في أمور الحجاز لأجل احترام هذا البيت ورجاءًا للسلم والأمان، ولكن من الأسف أننا لم
نحظ منه بذلك، وفي هذه الأيام الماضية في سفره إلى الأردن بانت نواياه ومقاصده للمسلمين نحونا حينما طلب تجزئة بلادنا وتشتيت شملنا، حتى لقد يئسنا من الوصول إلى حسن التفاهم معه لجمع كلمة العرب، ولا والله نعلم شيئًا له من النقم علينا إلا كما قال الله تعالى:{وَمَا نَقَمُوا مِنْهُمْ إِلَّا أَنْ يُؤْمِنُوا بِاللَّهِ الْعَزِيزِ الْحَمِيدِ} ولكننا ولله الحمد لسنا بآسفين على شيء إذا سلم لنا شرفنا في أمر ديننا ودنيانا، فليس لنا قصد في زخارف الحسين وأتباعه لا في ملك ولا في خلافه، ولكن غاية قصدنا وما ندعوا إليه هي أن تكون كلمة الله هي العليا ودينه هو الظاهر، ويسلم شرف العرب، فلذلك لحقتنا الغيرة الإسلامية والحمية العربية أن نفدي في أموالنا وأنفسنا فيما يقوم به دين الله، ويحمي به حرمه الشريف الذي أمر بتطهيره وتعظيمه كما قال الله تعالى:{وَإِذْ بَوَّأْنَا لِإِبْرَاهِيمَ مَكَانَ الْبَيْتِ أَنْ لَا تُشْرِكْ بِي شَيْئًا وَطَهِّرْ بَيْتِيَ لِلطَّائِفِينَ وَالْقَائِمِينَ وَالرُّكَّعِ السُّجُودِ} وقد أرسلنا سرية من المسلمين لاحتلال الطائف لأجل القرب للتفاهم بيننا وبين إخواننا، فأحببت أن أعرض عليكم ما عندي فإن أجبتمونا فنعم المطلوب، وإن أبيتم فهذا الذي يعذرنا عند الله وعند المسلمين، وأبرء إلى الله أن أتجاوز شيئًا منها حرمته الشريعة خصوصا في هذا الحرم الشريف الذي قال الله فيه {وَمَنْ يُرِدْ فِيهِ بِإِلْحَادٍ بِظُلْمٍ نُذِقْهُ مِنْ عَذَابٍ أَلِيمٍ} وحرمة هذا البيت معلومة حتى عند المشركين الأولين كما قال الشاعر:
إن الفضول تعاقدوا وتعاهدوا
…
أن لا يقر ببطن مكة ظالم
وأما الأمر الذي عندي لكم فهو أني أقول عليكم يا أهل مكة وأتباعها من أشراف، وأهل البلد عموما والمجاورين والملتجئين من جميع الأقطار، عهد الله وميثاقه على أموالكم ودمائكم، وأن تحترموا بحرمة هذا البيت كما حرمه الله على لساني خليله إبراهيم ومحمد عليهما أفضل الصلاة والتسليم، وأن لا نعاملكم بعمل تكرهونه، وأن لا يمضي فيكم دقيق أو جليل إلا بحكم مشروع لا في عاجل الأمر ولا في آجله، وأن نبذل جدنا وجهدنا فيما يؤمن هذا الحرم الشريف وسكانه وطرقه للوافدين إليه، الذي جعله الله مثابة للناس وأمنا، وأن لا نولي عليكم من