الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
العين حق ودواء المصاب
خرّج البخاري ومسلم [ (1) ] ، من حديث مسلم بن إبراهيم، قال: أخبرنا وهيب عن ابن طاووس، عن أبيه، عن ابن عباس [رضى اللَّه عنهما]، عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: العين حق، ولو كان شيء سابق القدر، سبقته العين، وإذا استغسلتم فاغسلوا [ (2) ] .
[ (1) ] في (الأصلين) : «مسلم والنسائي» والصواب ما أثبتناه.
وفي هذا الحديث سرّ طبي لطيف، فإن المريض إذا تناول ما يشتهيه عن جوع صادق طبيعي، وكان فيه ضرر ما، كان أنفع وأقل ضررا مما لا يشتهيه، وإن كان نافعا في نفسه، فإن صدق شهوته، ومحبة الطبيعة يدفع ضرره، وبغض الطبيعة وكراهتها للنافع، قد يجلب لها منه ضررا.
وبالجملة: فاللذيذ المشتهى تقبل الطبيعة عليه بعناية، فتهضمه على أحمد الوجوه، سيما عند انبعاث النفس إليه بصدق الشهوة، وصحة القوة، واللَّه تعالى أعلم. (زاد المعاد) : 4/ 106.
[ (2) ]
(فتح الباري) : 10/ 249، كتاب الطب، باب (36) العين حق، حديث رقم (5740) ولفظه:
«عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: العين حق. ونهى عن الوشم» ، وأخرجه أيضا بسنده ولفظه في كتاب اللباس، باب (86) الواشمة، حديث رقم (5944) .
قوله: «العين حق» ،
أي الإصابة بالعين شيء ثابت موجود، أو هو من جملة ما تحقق كونه. قال المازري: أخذ الجمهور بظاهر الحديث، وأنكره طوائف المبتدعة لغير معنى، لأن كل شيء ليس محالا في نفسه، ولا يؤدى إلى قلب حقيقة، ولا إفساد دليل، فهو من متجاوزات العقول، فإذا أخبر الشرع بوقوعه لم يكن لإنكاره معنى، وهل من فرق بين إنكارهم هذا وإنكارهم ما يخبر به من أمور الآخرة؟
(فتح الباري) .
قوله: «العين حق ونهى عن الوشم» ،
لم تظهر المناسبة بين هاتين الجملتين، فكأنهما حديثان مستقلان، ولهذا حذف مسلم وأبو داود الجملة الثانية من روايتهما، مع أنهما أخرجاه من رواية عبد الرزاق، الّذي أخرجه البخاري من جهته، ويحتمل أن يقال: المناسبة بينهما اشتراكهما في أن كلا منهما يحدث في العضو لونا غير لونه الأصلي.
والوشم بفتح الواو وسكون المعجمة: أن يغرز إبرة أو نحوها في موضع من البدن حتى يسيل الدم، ثم يحشى ذلك الموضع بالكحل أو نحوه فيخضر (فتح الباري) .
_________
[ () ] قال الحافظ في (الفتح) : وقد ظهرت لي مناسبة بين هاتين الجملتين لم أر من سبق إليها، وهي أن من جملة الباعث على الوشم تغير صفة الموشوم لئلا تصيبه العين، فنهى عن الوشم مع إثبات العين، وأن التحيل بالوشم وغيره مما لا يستند إلى تعليم الشارع لا يفيد شيئا، وأن الّذي قدره اللَّه سيقع.
وأخرجه مسلم من حديث ابن عباس رفعه: «العين حق، ولو كان شيء سابق القدر لسبقته العين، وإذا استغسلتم فاغسلوا»
[سيأتي شرحه] .
فأما الزيادة الأولى، ففيها تأكيد وتنبيه على سرعة نفوذها وتأثيره في الذات، وفيها إشارة إلى الرد على من زعم من المتصوفة أن
قوله: «العين حق»
يريد به القدر أي العين التي تجرى منها الأحكام، فإن عين الشيء حقيقته، والمعنى أن الّذي يصيب من الضرر بالعادة عند نظر الناظر، إنما هو بقدر اللَّه السابق، لا بشيء يحدثه الناظر في المنظور.
ووجه الرد: أن الحديث ظاهر في المغايرة بين القدر وبين العين، وإن كنا نعتقد أن العين من جملة المقدور، لكن ظاهره إثبات العين التي تصيب، إما بما جعل اللَّه تعالى فيها من ذلك وأودعه فيها، وإما بإجراء العادة بحدوث الضرر عند تحديد النظر، وإنما جرى الحديث مجرى المبالغة في إثبات العين، لا أنه يمكن أن يرد القدر شيء، إذ القدر عبارة عن سابق علم اللَّه، وهو لا رادّ لأمره، أشار إلى ذلك القرطبي. وحاصله لو فرض أن شيئا له قوة بحيث يسبق القدر لكان العين، لكنها لا تسبق، فكيف غيرها. (فتح الباري) .
وأخرجه الإمام مسلم في (صحيحه بشرح النووي) : 14/ 422- 424، كتاب السلام، باب (16)
الطب والمرض والرقى، حديث رقم (2187) ولفظه:«العين حق» ، وحديث رقم (2188) بزيادة:«ولو كان شيء سابق القدر سبقته العين، وإذا استغسلتم فاغسلوا» .
قال الحافظ في (الفتح) : وأما الزيادة الثانية، وهي أمر العائن بالاغتسال عند طلب المعيون منه ذلك، ففيها إشارة إلى أن الاغتسال لذلك كان معلوما بينهم، وأمرهم أن لا يمتنعوا منه إذا أريد منهم، وظاهر الأمر الوجوب، وحكى المازري فيه خلافا وصحح الوجوب وقال متى خشي الهلاك، وكان اغتسال العائن مما جرت العادة الشفاء به فإنه يتعين.
وقد وقع في حديث سهل من حنيف عند أحمد والنسائي وصححه ابن حبان من طريق الزهري عن أبى أمامة بن سهل بن حنيف «أن أباه حدثه أن النبي صلى الله عليه وسلم خرج وساروا معه نحو ماء، حتى إذا كانوا بشعب الخرار من الجحفة، اغتسل سهل ابن حنيف- وكان أبيض حسن الجسم والجلد- فنظر إليه عامر بن ربيعة فقال: ما رأيت كاليوم ولا جلد مخبأة، فلبط- أي صرع وزنا ومعنى- سهل. فأتى رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم فقال: هل تتهمون به من أحد؟ قالوا: عامر بن ربيعة، فدعا عامرا فتغيّظ عليه، فقال:
علام يقتل أحدكم أخاه؟ هلا إذا رأيت ما يعجبك برّكت؟ ثم قال: اغتسل له، فغسل وجهه ويديه ومرفقيه وركبتيه، وأطراف رجليه، وداخلة إزاره في قدح، ثم يصب ذلك الماء عليه رجل من خلفه
ولأبى داود من حديث جرير، عن الأعمش، عن إبراهيم عن الأسود، عن عائشة رضى اللَّه عنها [قالت] : كان يؤمر العائن فيتوضأ، ثم يغتسل منه المعين [ (1) ] .
وللنسائى من حديث عمار بن زريق، عن عبد اللَّه بن عيسى، عن أمية
[ () ] على رأسه وظهره، ثم يكفأ القدح، ففعل به ذلك، فراح سهل مع الناس ليس به بأس» لفظ أحمد من رواية أبى أويس عن الزهري.
(فتح الباري)، ومنه تنبيهات:
الأول: اقتصر النووي في (الأذكار) على قوله: الاغتسال أن يقال للعائن: اغسل داخلة إزارك مما يلي الجلد، فإذا فعل صبّه على المنظور إليه، وهذا يوهم الانتصار على ذلك، وهو عجيب، ولا سيما وقد نقل في (شرح مسلم) كلام عياض بطوله.
الثاني: قال المازري: هذا المعنى مما لا يمكن تعليله ومعرفة وجهه من جهة العقل، فلا يرد لكونه لا يعقل معناه، وقال ابن العربيّ: إن توقف فيه متشرع قلنا له: قل اللَّه ورسوله أعلم- وقد عضدته التجربة، وصدقته المعاينة، أو متفلسف، فالرد عليه أظهر، لأن عنده الأدوية تفعل بقواها، وقد تفعل بمعنى لا يدرك، ويسمون ما هذا سبيله الخواص.
الثالث: هذا الغسل ينفع بعد استحكام النظرة، فأما عند الإصابة وقبل الاستحكام، فقد أرشد الشارع إلى ما يدفعه بقوله في قصة سهل بن حنيف المذكورة كما مضى:«ألا بركت عليه» ، وفي رواية ابن ماجة:«فليدع بالبركة» ، ومثله عند ابن السنى من حديث عامر بن ربيعة.
وأخرج البزار وابن السنى من حديث أنس رفعه: «من رأى شيئا. وأعجبه فقال: ما شاء اللَّه لا قوة إلا باللَّه، لم يضره» .
وفي الحديث من الفوائد أيضا: أن العائن إذا عرف يقضى عليه بالاغتسال، وأن الاغتسال من النشرة النافعة، وأن العين تكون مع الإعجاب، ولو بغير حسد، ولو من الرجل المحب، ومن الرجل الصالح.
وأن الّذي يعجبه الشيء ينبغي أن يبادر إلى الدعاء للذي يعجبه بالبركة، ويكون ذلك رقية منه، وأن الماء المستعمل طاهر، وفيه جواز الاغتسال بالفضاء، وأن الإصابة بالعين قد تقتل.
وقد اختلف في جريان القصاص بذلك، فقال القرطبي: لو أتلف العائن شيئا ضمنه، ولو قتل فعليه القصاص أو الدية إذا تكرر ذلك منه بحيث يصير عادة، وهو في ذلك كالساحر عند من لا يقتله كفرا، وقال النووي في (الروضة) : لا دية فيه ولا كفارة.
[ (1) ](سنن أبى داود) : 4/ 210، كتاب الطب، باب (15) ما جاء في العين، حديث رقم (3880)، والعائن: الّذي أصاب غيره بالعين، يراد به الحاسد، والمعين: - المصاب بعين غيره- أي المحسود.
ابن خالد، - كذا قال- عن عبد اللَّه بن عامر بن ربيعة، عن أبيه قال: خرجت أنا وسهل بن حنيف نلتمس الخمر، فأصبنا غديرا خمرا، وكان أحدنا يستحى أن يتجرد وأحد يراه، فاستتر حتى رأى أن قد فعل، نزع جبّة صوف عليه، فنظرت إليه، فأعجبني خلقه، فأصبته بعين، فأخذته فقفقة، فدعوته فلم يجبني، فأتيت النبي صلى الله عليه وسلم، فأخبرته، فقال: قوموا بنا، فرفع عن ساقيه حتى خاض إليه الماء، فكأني انظر إلى وضح ساقى النبي صلى الله عليه وسلم، فضرب صدره وقال: بسم اللَّه، اللَّهمّ أذهب حرّها، وبردها، ووصبها، قم بإذن اللَّه، فقام، فقال رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم: إذا رأى أحدكم من نفسه، أو ماله، أو أخيه شيئا يعجبه، فليدع بالبركة، فإن العين حق [ (1) ] .
ولمالك، عن ابن شهاب، عن أبى أمامة بن سهل بن حنيف، أنه قال:
رأى عامر بن ربيعة سهل بن حنيف يغتسل، فقال: ما رأيت كاليوم ولا جلد مخبّأة، فلبط سهل، فأتى رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم، فقيل: يا رسول اللَّه هل لك في سهل بن حنيف؟ واللَّه ما يرفع رأسه، فقال: هل تتهمون له أحدا؟
قالوا: نتهم عامر بن ربيعة، قال: فدعا رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم عامرا، فتغيظ عليه وقال: علام يقتل أحدكم أخاه؟ ألا [برّكت] ؟ اغتسل له، فغسّل عامر وجهه، ومرفقيه، وركبتيه، وأطراف رجليه، وداخلة إزاره في قدح، ثم صبّ عليه، فراح سهل مع الناس ليس به بأس [ (2) ] .
[ (1) ] راجع تعليق رقم (3) .
[ (2) ](شرح الزرقاني على الموطأ) : 4/ 406، كتاب الجامع، باب (650) الوضوء من العين، حديث رقم (1810) عن مالك عن محمد بن أبى أمامة، وحديث رقم (1811) عن مالك عن ابن شهاب عن أبى أمامة.
قوله: «جلد مخبأة» بضم الميم وخاء معجمة وموحدة والهمز: وهي المخدرة المكنونة، التي لا تراها العيون، ولا تبرز للشمس فتغيرها، يعنى أن جلد سهل كجلد المخبأة إعجابا بحسنة. (الزرقانى) .
وفي (النهاية) : المخبأة، الجارية التي في خدرها لم تتزوج بعد، لأن صيانتها أبلغ ممن قد تزوجت.
لم يذكر يحى في هذا الحديث غسل اليدين، وقال القعنبيّ، وابن بكير، وجماعة الرواة عن مالك: فغسل وجهه، ويديه، ومرفقيه. قال أبو عمر بن عبد البر: ليس في حديث مالك هذا في غسل العائن عن النبي [عليه السلام] أكثر من قوله: اغتسل له، وفيه كيفية الغسل من فعل عامر بن ربيعة [ (1) ] .
ورواه معمر عن الزهري، عن أبى أمامة بن سهل بن حنيف قال: رأى عامر بن ربيعة سهل بن حنيف وهو يغتسل، فتعجب منه، فقال: تاللَّه إني رأيت كاليوم ولا جلدة مخبأة في خدرها، أو قال: جلد فتاة في خدرها، قال: فلبخ به حتى ما يرفع رأسه، قال: فذكر ذلك لرسول اللَّه صلى الله عليه وسلم فقال:
هل أحدا [تتهمون] ؟ قالوا: لا يا رسول اللَّه، إن عامر بن ربيعة قال له:
كذا، وكذا، فدعا عامرا فقال: سبحان اللَّه! علام يقتل أحدكم أخاه؟ إذا رأى منه شيئا يعجبه، فليدع له بالبركة، قال: ثم أمره، فغسل وجهه، وظهر عينيه، ومرفقيه، وغسل صدره، وداخل إزاره، وركبتيه، وأطراف قدميه ظاهرهما في الإناء، ثم أمره فصبه على رأسه، وكفأ الإناء من خلفه،
[ (1) ] قال الزهري: وهذا من العلم، يغتسل العائن في قدح من ماء، يدخل يده فيه، فيمضمض ويمجه في القدح، ويغسل وجهه فيه، ثم يصب بيده اليسرى على كتفه اليمنى، ثم باليمنى على كتفه اليسرى، ثم يدخل يده اليسرى فيصب بها على مرفق يده اليمنى، ثم بيده اليمنى على مرفق يده اليسرى، ثم يغسل قدمه اليمنى، ثم يدخل اليمنى فيغسل قدمه اليسرى، ثم يدخل يده اليمنى فيغسل الركبتين، ثم يأخذ داخلة إزاره فيصب على رأسه صبة واحدة، ويضع القدح حتى يفرغ.
هكذا رواه ابن أبى ذئب عن الزهري، عن ابن أبى شيبة، وهو أحسن ما فسّر به، لأن الزهري راوي الحديث.
وزاد ابن حبيب في قول الزهري: هذا يصب من خلفه صبة واحدة يجرى على جسده، ولا يوضع القدح في الأرض، ويغسل أطرافه المذكورة كلها، وداخلة الإزار في القدح. قاله في (التمهيد) .
زاد في (الإكمال) : الزهري أخبر أنه أدرك العلماء يصفونه، واستحسنه علماؤنا، ومضى به العمل. (الزرقانى) .
قال: وأمره فحسا منه حسوات، قال: فقام فراح مع الركب،
فقال جعفر بن برقان للزهري: ما كان نعدّ هذا حقا، فقال بل هي السنة. قال أبو عمر:
وأحسن شيء في تفسير الاغتسال للمعين [حقا] ما وصفه الزهري، وهو راوي الحديث [ (1) ] .
وذكر عن طريق قاسم بن أصبغ، حديث ابن أبى ذؤيب، عن الزهري، عن أبى أمامة بن سهل، عن أبيه، أن عامرا مرّ به وهو يغتسل، فقال: ما رأيت كاليوم ولا جلدة مخبّأة، قال: فلبط به، حتى ما يعقل لشدة الوجع، فأخبر بذلك رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم، فتغيظ عليه، فدعاه النبي [عليه السلام] فقال: قتلته؟ علام يقتل أحدكم أخاه؟ ألا برّكت؟ فأمر النبي [عليه السلام] بذلك، فقال: اغسلوه، فاغتسل، فخرج مع الركب.
قال: وقال الزهري: إن هذا من العلم، يغتسل له الّذي عانة، [يؤتى] بقدح من ماء، فيدخل يده في القدح، فيمضمض، ويمجه في القدح، ويغسل وجهه في القدح، ثم يصب بيده اليسرى على كفه اليمنى، ثم بكفه اليمنى على كفه اليسرى، ثم يدخل يده اليسرى، فيصب بها على مرفق يده اليمنى، ثم بيده اليمنى على مرفق يده اليسرى، ثم يغسل قدمه اليمنى، ثم يدخل [يده] اليمنى، فيغسل قدمه اليسرى، ثم يدخل يده اليمنى فيغسل الركبتين، ثم يأخذ داخلة إزاره، فيصب على رأسه صبه واحدة تجرى على جسده، ولا يوضع القدح حتى يفرغ [ (2) ] .
[ (1) ] راجع التعليق السابق.
[ (2) ] سبق ذكر ذلك في التعليقات السابقة.
وحديث الاغتسال للمعين ذكره ابن ماجة في (السنن) : 2/ 1160، كتاب الطب، باب (32) العين، حديث رقم (3509)، وأخرجه ابن أبى شيبة في (المصنف) : 5/ 49، كتاب الطب، باب (27) من رخص في الرقية من العين، حديث رقم (33585) ، وفيه صفة الوضوء عن الزهري
_________
[ () ] وحديث رقم (33586) ، عن عائشة رضى اللَّه عنها أنها كانت تأمر العائن أن يتوضأ فيغسل الّذي أصابته العين، وحديث رقم (33587)
عن ابن عباس قال: قال رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم: «العين حق، وإذا استغسل أحدكم فليغتسل» .
والبيهقي في (السنن الكبرى) : 9/ 352، كتاب الضحايا، باب الاغتسال للمعين.
قال العلامة ابن القيم في (زاد المعاد) : والعين عينان: عين إنسية، وعين جنية،
فقد صح عن أم سلمة أن النبي صلى الله عليه وسلم رأى في بيتها جارية في وجهها سعفة، فقال صلى الله عليه وسلم: «استرقوا لها فإن بها النظرة [أخرجه البخاري في الطب، باب رقية العين، ومسلم في السلام باب رقية العين،
والسفعة- بفتح السين ويجوز ضمها- سواد في الوجه، ومنه سفعة الفرس: سواد ناصيته، وعن الأصمعي: حمرة يعلوها سواد، وقيل: صفرة، وقيل: سواد مع لون آخر، وقال: ابن قتيبة: لون يخالف لون الوجه، وكلها متقاربة] .
وعن أبى سعيد، أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يتعوذ من الجان، ومن عين الإنسان [أخرجه الترمذي، والنسائي، وابن ماجة، وحسنه الترمذي، وتمامه: فلما نزلت المعوذتان أخذ بهما وترك ما سوى ذلك] .
فأبطلت طائفة ممن قلّ نصيبهم من السمع والعقل أمر العين، وقالوا: إنما ذلك أوهام لا حقيقة لها، وهؤلاء من أجهل الناس بالسمع والعقل، ومن أغلظهم حجابا، وأكثفهم طباعا، وأبدعهم معرفة عن الأرواح والنفوس، وصفاتها، وأفعالها، وتأثيراتها.
وعقلاء الأمم على اختلاف مللهم ونحلهم لا تدفع أمر العين ولا تنكره، وإن اختلفوا في سببه وجهة تأثير العين.
فقالت طائفة: إن العائن إذا تكيفت نفسه بالكيفية الرديئة، انبعث من عينه قوة سمّيّة تتصل بالمعين فيتضرر. قالوا: ولا يستنكر هذا كما لا يستنكر انبعاث قوة سمية من الأفعى تتصل بالإنسان، فيهلك، وهذا أمر قد اشتهر عن نوع من الأفاعي أنها إذا وقع بصرها على الإنسان هلك، فكذلك العائن.
وقالت فرقة أخرى: لا يستبعد أن ينبعث من عين بعض الناس جواهر لطيفة غير مرئية، فتتصل بالمعين، وتتخلل مسام جسمه فيحصل له الضرر.
وقالت فرقة أخرى: قد أجرى اللَّه العادة بخلق ما يشاء من الضرر عند مقابلة عين العائن لمن يعينه، من غير أن يكون منه قوة ولا سبب ولا تأثير أصلا، وهذا مذهب منكري الأسباب والقوى والتأثيرات في العالم، وهؤلاء قد سددوا على أنفسهم باب العلل والتأثيرات والأسباب، وخالفوا العقلاء أجمعين.
_________
[ () ] ولا ريب أن اللَّه سبحانه خلق في الأجسام والأرواح قوى وطبائع مختلفة، وجعل في كثير منها خواص وكيفيات مؤثرة، ولا يمكن لعاقل إنكار تأثير الأرواح في الأجسام، فإنه أمر مشاهد ومحسوس.
فأنت ترى الوجه كيف يحمر حمرة شديدة إذا نظر إليه من يحتشمه ويستحى منه، ويصفر صفرة شديدة عند نظر من يخافه إليه، وقد شاهد الناس من يسقم من النظر وتضعف قواه، وهذا كله للروح.
والأرواح مختلفة في طبائعها، وقواها، وكيفياتها، وخواصها، فروح الحاسد مؤذية للمحسود أذى بينا، ولهذا أمر اللَّه تعالى رسوله صلى الله عليه وسلم أن يستعيذ من شره، وتأثير الحاسد في أذى المحسود أمر لا ينكره إلا من هو خارج عن حقيقة الإنسانية، وهو أصل الإصابة بالعين: فإن النفس الخبيثة الحاسدة تتكيف بكيفية خبيثة، تقابل المحسود، فتؤثر فيه بتلك الخاصية.
وأشبه الأشياء بهذا الأفعى، فإن السم كامن فيها بالقوة، فإذا قابلت عدوها انبعثت منها قوة غضبية، وتكيفت بكيفية خبيثة مؤذية، فمنها ما تشتد كيفيتها وتقوى حتى تؤثر في إسقاط الجنين، ومنها ما تؤثر في طمس البصر، كما
قال النبي صلى الله عليه وسلم في الأبتر وذي الطفيتين من الحيات: «إنهما يلتمسان البصر ويسقطان الحبل» [أخرجه البخاري في بدء الخلق، باب قول اللَّه تعالى: وَبَثَّ فِيها مِنْ كُلِّ دَابَّةٍ، ومسلم في السلام، باب قتل الحيات وغيرها، من حديث ابن عمر،
والطّفيتان: هما الخطّان الأبيضان على ظهر الحية، والأبتر: قصير الذنب، وقوله: يلتمسان البصر، قال الخطابي: فيه تأويلان، أحدهما: معناه يخطفان البصر ويطمسانه بمجرد نظرهما إليه، بخاصية جعلها اللَّه تعالى في بصريهما إذا وقع على بصر الإنسان، والثاني: أنهما يقصدان البصر باللسع والنهش، والأول أصح وأشهر] .
ومنها ما تؤثر في الإنسان كيفيتها بمجرد الرؤية من غير اتصال به، لشدة خبث تلك النفس، وكيفيتها الخبيثة المؤثرة، والتأثير غير موقوف على الاتصالات الجسمية، كما يظنه من قلّ علمه ومعرفته بالطبيعة والشريعة.
بل التأثير يكون تارة بالاتصال، وتارة بالمقابلة، وتارة بالرؤية، وتارة بتوجه الروح نحو من يؤثر فيه، وتارة بالأدعية والرقى والتعوذات، وتارة بالوهم والتخيل.
ونفس العائن لا يتوقف تأثيرها على الرؤية، بل قد يكون أعمى فيوصف له الشيء، فتؤثر نفسه فيه، وإن لم يره، وكثير من العائنين يؤثر في المعين بالوصف من غير رؤية.
وقد قال تعالى لنبيه صلى الله عليه وسلم: وَإِنْ يَكادُ الَّذِينَ كَفَرُوا لَيُزْلِقُونَكَ بِأَبْصارِهِمْ لَمَّا سَمِعُوا الذِّكْرَ [القلم:
51] ، وقال: قُلْ أَعُوذُ بِرَبِّ الْفَلَقِ* مِنْ شَرِّ ما خَلَقَ* وَمِنْ شَرِّ غاسِقٍ إِذا وَقَبَ* وَمِنْ شَرِّ
وزاد ابن حبيب في قول الزهري: هذا يصب من خلفه صبة واحدة، تجرى على جسده، ولا يوضع القدح في الأرض، ويغسل أطرافه المذكورة كلها، وداخلة إزاره في القدح. انتهى كلام ابن عبد البر [ (1) ] .
[ () ] النَّفَّاثاتِ فِي الْعُقَدِ* وَمِنْ شَرِّ حاسِدٍ إِذا حَسَدَ [سورة الفلق] .
فكل عائن حاسد، وليس كل حاسد عائنا، فلما كان الحاسد أعم من العائن، كانت الاستعاذة منه استعاذة من العائن، وهي سهام تخرج من نفس الحاسد والعائن نحو المحسود والمعين تصيبه تارة وتخطئه تارة، فإن صادفته مكشوفا لا وقاية عليه، أثرت فيه، ولا بدّ وإن صادفته حذرا شاكي السلاح لا منفذ فيه للسهام، لم تؤثر فيه، وربما ردّت السهام على صاحبها، وهذا بمثابة الرمي الحسي سواء.
فهذا من النفوس والأرواح، وذاك من الأجسام والأشباح، وأصله من إعجاب العائن بالشيء، ثم تتبعه كيفية نفسه الخبيثة، ثم تستعين على تنفيذ سمّها بنظرة إلى المعين، وقد يعين الرجل نفسه، وقد يعين بغير إرادته، بل بطبعه، وهذا أردأ ما يكون من النوع الإنساني.
وقد قال أصحابنا وغيرهم من الفقهاء: إن من عرف بذلك، حبسه الإمام، وأجرى له ما ينفق عليه إلى الموت، وهذا هو الصواب قطعا. (زاد المعاد) : 4/ 164- 168.
[ (1) ] المرجع السابق.