الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
الفصل من الجماعات
السائل: إن بعض الجماعات الإسلامية التي تتخذ منهجها منهج السلف، قد يكون بعض المنتمين إليها قد أخطأ ووقع في خلاف فقهي أو في تقديم الدعوة وبعد ذلك فُصِل لاختلافه مع أميرهم أو رئيسهم، فهل هذا الفصل يبعده عن أصله في منهجه؟
الشيخ: أما ما أسمعه الآن في هذا السؤال من أن يُفصَل المسلم عن الجماعة والجماعة السلفية لمجرد أنه أخطأ في مسألة أو في أخرى فما أرى هذا إلاّ من عدوى الأحزاب الأخرى.
هذا الفصل هو من نظام بعض الأحزاب الإسلامية التي لا تتبنّى المنهج السلفي منهجًا في الفقه والفهم للإسلام، وإنما هو حزبٌ يغلب عليه ما يغلب على الأحزاب الأخرى من التكتّل فالتجمع على أساس دولة مصغرة من خرج عن طاعة رئيسها أُنذِر أولاً وثانيًا وثالثًا ربما ثم حُكم بفصلهِ، مثل هذا لا يجوز أن يتبناه جماعة ينتمون بحقٍ إلى كتاب الله وإلى حديث رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم وعلى منهج السلف الصالح.
فنحن نعلم جميعًا أنَّ سلفنا الصالح وعلى رأسهم أصحاب النبي صلى الله عليه وآله وسلم قد كانوا مختلفين في بعض المسائل، ولم يكن مثل هذا الاختلاف أولاً سببًا لإيجاد شيء من الفرقة بينهم، خلافًا لاختلاف الخلف فقد صاروا بسبب اختلافهم مذاهب شتى وطرائق قددا، حتى لم يَعُد الكثيرون منهم يرون جواز الصلاة وراء من
خالفهم في مذهبهم، بل صار ذلك فرعًا فقهيًا، نصوا عليه في كتبهم، فقالوا في متونها أو في متون هذا الفقه:«ولا يجوز الصلاة وراء المخالف للمذهب» ؛ هذا النص موجود في المذهب الحنفي وفي المذهب الشافعي، وفي الشرح نرى -أو الحواشي كما يقولون- نرى العجب العُجاب من التفاصيل التي لا يعرفها السلف الأول أولاً، ثم لا يتعرف عليها السلفيون ثانيًا، لأن الله عز وجل أغناهم عن أن يقعوا في مثلها بمعرفتهم التي أشرتُ إليها آنفًا أن الصحابة كانوا مختلفين في بعض المسائل ومع ذلك كانوا يصلون وراء إمام واحد، بينما الخلف نجد آثارهم في محاريبهم حتى اليوم؛ فنجد في المسجد الكبير أربعة محاريب؛ المحراب الأول للحنابلة، والثاني للشافعية، والثالث -وهو يكون في الوسط- للحنفية، والأخير إلى الشرق المحراب للمالكية؛ لأنهم أقل عددًا في تلك البلاد، فكان يؤم الناس في المسجد الكبير الإمام الحنفي إلى عهد قريب إلى عهد استعمار فرنسا للبلاد السورية، ذلك ميراث ورِثه الناس في سوريا من العهد العثماني؛ لأن العثمانيين كلهم كانوا حنفيين، فلما احتلت فرنسا سوريا ثم أقامت رئيسًا للجمهورية هو المسمّى بتاج الدين الحسيني؛ الذي هو من أولاد بدر الدين الحسيني؛ الذي كانوا يقولون في زمانه:(إنه محدث الديار الشامية) ولستُ الآن في هذا الصدد، المهم أنّ هذا الشيخ تاج الدين بن بدر الدين كان رئيس جمهورية وعلى رأسه عمامة بيضاء على [طربوش] لأنه هكذا عاش، وكان ذلك طبعًا من السياسة الفرنسية لإقرار الهدوء في البلاد المستعمرة من قبلهم، فرأوا أن ينصبوا
رئيس جمهورية على المسلمين شيخًا ذو عمامة.
هذا الرجل كان شافعيًا فغير نظام الصلاة فجعل الإمام الشافعي يصلي قبل الإمام الحنفي، هذا من آثار التعصب المذهبي والبحث هنا طويل الذيل، وإنما حسبي الآن الإشارة السريعة، أما سلفنا الصالح فقد كانوا يدًا واحدةً وكتلةً واحدةً، يصلّون وراء إمامٍ واحد مهما كان هذا الإمام مخطئًا في رأيه، لقد وجد
فيهم من قال بأكثر من الخلاف الذي لا يزال قائمًا بين الحنفية والشافعية مثلاً، فالحنفي يرى أن خروج الدم من أي مكان من البدن بمقدار الألِف؛ جاوز مقدار الألِف فقد انتقض وضوؤه، بينما الشافعية يرون أنه لا ينقض الوضوء، لكن وُجِد في السلف من يرى ما يراه جمهور الصحابة وعليه إجماع الأمة فيما بعد أن الرجل إذا جامع أهله ولم ينزل لا يجب عليه الغسل؛ رأى هذا بعض الصحابة الكبار خلافًا للجمهور من الصحابة الذين يقولون بما قاله الرسول عليه السلام:«إذا مس الختان الختان فقد وجب الغسل أنزل أم لم ينزل» ، هذا الحديث كان ناسخًا لقوله عليه السلام:«إنما الماء من الماء» فبعض الصحابة بلغهم هذا الحديث الثاني: «إنما الماء من الماء» فكان يفتي أن الرجل الذي يجامع زوجته ولم ينزل فما عليه إلا الوضوء أما الغسل فليس واجبًا عليه، لكن الصحابة قد بلغهم الحديث الآخر وهو قوله عليه السلام:«إذا مس الختان الختان فقد وجب الغسل أنزل أم لم ينزل» ، ومع ذلك فكنتَ ترى هؤلاء يصلون وراء ذاك الذي يقول:«لا غسل عليه» ، هذا يشبه كثيرًا من الاختلافات الموجودة بين المذاهب حتى اليوم، لكننا نرى الفرق الكبير بين الخلاف السلفي والخلاف الخلفي، الخلاف السلفي كان اجتهادًا وكان فكريًّا ولكنه لم يكن بدنيًّا؛ لم يكن يفرقهم، ولذلك كانوا يصلون وراء إمام واحد، لذلك جاء في كتب العقائد السليمة أن من عقائد السلف التي توارثها الخلف:«الصلاة وراء كلّ برٍ وفاجر» كما أنه تجب الصلاة على كل برٍّ وفاجر، فنحن الآن نقولُ بأن بعض
الصحابة كان يخالف الخليفة في رأيه وفي اجتهاده ومع ذلك هل فُصِل عن جماعة المسلمين؟ حاشا لله رب العالمين.
مثاله: لقد كان عمر رضي الله عنه يجتهد في بعض المسائل فيصيب في غالبها ويخطئ في أقلّها، من هذا القليل أنه نهى المسلمين أن يجمعوا بين العمرة والحج وأمرهم بأن يُفردوا الحج مع أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم قد أقرَّ ضم أو الجمع بين الحج
والعمرة على طريقتين اثنتين: الطريقة الأولى: هو القِران، لكن إنما أقرَّه عليه السلام لمن كان قد ساقَ الهديَ من الحِلّ، أما من لم يسق الهدي من الحِلّ فقد أمرهُ بالفسخ، هذا نوع من التمتّع أن يقرن بين الحج والعمرة مع سوق الهدي هذا تمتّع، والتمتع الآخر والأعمّ والأشمل معنًى ورفعًا للحرج؛ هو تقديم العمرة بين يدي الحج وهذا النوع هو الذي انتهى إليه الرسول عليه السلام في تبليغه الناس في حجة الوداع كما هو معلوم من قوله عليه السلام المشهور:«لو استقبلت من أمري ما استدبرت لما سُقت الهدي ولجعلتها عمرة فأحلوا أيها الناس» قال جابر: «فأحلّ الناس وسطعت المجامر وأتوا النساء» ، هذا الذي قاله الرسول عليه السلام في حجّة الوداع، وهي الحجة الوحيدة التي جاء بها الرسول عليه السلام بعد نزول الوحي عليه وصرح بهذا الحكم الصريح المبين، مع ذلك كان عمر رضي الله عنه يرى حرصًا منه على إكثار الأقدامِ، وتكثير الأسفار إلى بيت الله الحرام، كان يرى الفصل بين العمرة والحج بسفرتين لكي تتكرر زيارة الناس إلى المسجد، وفي ذلك ولا شك مصلحة دينية للأمة الإسلامية يومئذٍ، أنا لا يهمني الآن أن أقول هل هذا الاجتهاد منه صوابٌ أم خطأٌ مثل اجتهاده في جعل الطلاق بلفظ الثلاث في مجلس واحد ثلاثًا، هل هذه السياسة الشرعية صحيحة أم لا؟ ما يهمنا ذلك؛ لأن السياسة الشرعية قد تكون زمنية آنيّة؛ إما في زمن واحد ومكان واحد، أو في زمن واحد وأمكنة أخرى ثم تزول هذه السياسة بزوال المقتضي لها، لا يهمّنى
هذا، لكن يهمني هل يصحّ أن تُتّخَذ سياسة عمر في كل من المسألتين شريعة يستمرّ عليها المسلمون إلى يوم القيامة وتنعكس الشريعة، فيقال أن الطلاق بلفظ الثلاث هو طلقة واحدة، مع العلم أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم رُفع إلى الرفيق الأعلى وهذا الطلاق يعتبر طلقة واحدة، لا يمكن أن يقول مسلم بهذا الحكم المخالف للشرع، حسبه أن يقول إنّه اجتهاد من عمر أصاب في هذا الاجتهاد في زمنه، أما فيما بعد فلا يجوز اللجأ إليه.
الشاهد أنه منع من التمتع في العمرة إلى الحج مع أنه صريح القرآن: {فَمَنْ تَمَتَّعَ بِالْعُمْرَةِ إِلَى الْحَجِّ فَمَا اسْتَيْسَرَ مِنَ الْهَدْيِ} [البقرة: 196] إلى آخر الآيه، ثم مات عمر رضي الله عنه على هذه السياسة التي رآها، وإن كان قد رُوي عنه روايه «لو كان الدين بالهوى» لتمنينا أن تكون هذه الرواية صحيحة، فإنها تقول بأنَّ عمر تمنى ثلاثة أشياء:«أن يكون سأل رسول الله عن الكلالة، وأن يكون رجع عن قوله في الطلاق الثلاث بأنه ثلاث، وعن نهي الناس عن التمتع بالعمرة إلى الحج» رواية ضعيفة نأمل أن تكون صحيحة في واقعها، لكن هذا ما لا نستطيع الجزم به وبخاصة أن عثمان رضي الله عنه ورث هذه السياسة من سلفه والخليفة الثاني عمر بن الخطاب، جاء في صحيح مسلم أن عليًا رضي الله عنه جاء إلى عثمان وقد بلغهُ أنّه ينهى الناس عن التمتع، قال:«مالك وللناس تنهاهم عن التمتع وقد فعلناه في عهد رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم لبيك اللهم بعمرة» جابهه مجابهه وهو خليفة وهو تابع له ومبايع له، هل حكم عثمان رضي الله عنه على هذا الصحابي بفصله؟ ليس لأنه خالفه بل وواجهه بتخطئته إياه؛ أنت تنهى الناس عن الاعتمار في أشهر الحج، عن الجمع بين الحج والعمرة، فأنا أقول: لبيك اللهم بحجةٍ وعمرة، ما فصله؛ لأن هذا الفصل خطير جدًا يشبه:«أن من خرج عن الجماعة مات ميتة جاهلية» وهذا من شؤم تبنّي السياسة لبعض الأحزاب بأنها تشبه السياسة الكبرى ويرتبون عليها أحكامًا كأنها أحكام السياسة الكبرى والإمامة الكبرى، يُوجبون المبايعة ثم يرتبون عليها وجوب الوفاء بها، ثم يرتبون عليها فصل من لم يفِ بشيء منها، هذا ابتداع في الدين ما أنزل الله به من سلطان والحمد لله رب العالمين.
(فتاوى جدة- أهل الحديث والأثر 32/ 01: 58: 26).