الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
وسائل النهوض بالعالم الإسلامي
مداخلة: ما هي الأسس التي ترونها خلال مرئياتكم أنه يمكن للعالم الإسلامي أن ينهض بها؟
الشيخ: الذي أعتقده هو ما جاء في النص الحديثي الصحيح وهو جواب عن مثل هذا السؤال وعن كثير من الأسئلة التي تطرح في العهد الحاضر، وهو قوله عليه الصلاة والسلام في الحديث الصحيح:«إذا تبايعتم بالعينة، وأخذتم أذناب البقر، ورضيتم بالزرع، وتركتم الجهاد في سبيل الله سلط الله عليكم ذلًا، لا ينزعه عنكم حتى ترجعوا إلى دينكم» فالأساس هو الرجوع إلى الإسلام، وهذا الأمر قد أشار إليه إمام دار الهجرة الإمام مالك رحمه الله في كلمة مأثورة عنه تكتب كما كانوا يقولون قديمًا: بماء الذهب، وهي قوله رحمه الله: من ابتدع في الإسلام بدعًة يراها حسنة فقد زعم أن محمدًا صلى الله عليه وآله وسلم خان الرسالة، اقرؤوا قول الله تبارك وتعالى:{الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ الإِسْلامَ دِينًا} [المائدة: 3] قال مالك رحمه الله: فما لم يكن يومئذٍ دينًا لا يكون اليوم دينًا، ولا يصلح آخر هذه الأمة إلا بما صلح به أولها.
هذه الجملة الأخيرة هي بيت القصيد فيما يتعلق بالجواب عن ذاك السؤال، حيث قال رحمه الله: ولا يصلح آخر هذه الأمة إلا بما صلح به أولها، فكما أن الأمة العربية في عهدها في الجاهلية ما صلح أمرها إلا بعد أن جاءهم نبيهم صلى الله عليه وآله وسلم بوحي السماء الذي أسعدهم في الدنيا وفي الأخرى.
لذلك: فالأساس الذي ينبغي أن تقوم فيه الحياة الإسلامية السعيدة في هذا الزمن ليس إلا هو إلا الرجوع إلى الكتاب وإلى السنة، غير أن هذا يحتاج إلى شيء من التفصيل لكثرة الجماعات أو الأحزاب الإسلامية الموجودة الآن في الساحة؛ لأن كل جماعة تدعي لنفسها أنها هي التي وضعت المنهج الذي به يمكنهم أن يحققوا المجتمع الإسلامي والحكم بالإسلام، فكلهم يدعي كما قيل قديمًا:
وكلهم يدعي وصلًا بليلى
…
وليلى لا تقر لهم بذاك
ونحن نعلم من كتاب الله ومن حديث رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم أن السبيل الذي به يمكن تحقيق السعادة في الدنيا ثم السعادة في الآخرة إنما هو سبيل واحد، فلا بد من تحديد هذا السبيل ليسلك عليه من كان حقًا يبتغي العمل لصالح الدعوة الإسلامية والأمة الإسلامية، هذا السبيل هو ما ذكره الله تبارك وتعالى في غير ما آية في القرآن الكريم، فربنا عز وجل يقول:{وَأَنَّ هَذَا صِرَاطِي مُسْتَقِيمًا فَاتَّبِعُوهُ وَلا تَتَّبِعُوا السُّبُلَ فَتَفَرَّقَ بِكُمْ عَنْ سَبِيلِهِ} [الأنعام: 153] فالطريق التي تؤدي إلى ما ينشده كل مسلم اليوم، ولكن الجماهير ما يعرفونه إنما هو السبيل الذي أشير إليه في هذه الآية الكريمة.
ولقد أوضح النبي صلى الله عليه وآله وسلم هذا السبيل المذكور في الآية الكريمة بمثل رائع جدًا رسمه لأصحابه على الأرض التي كان من عادته أن يجلس عليها دون أي عظمة أو كبرياء، فقد خط لهم رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم يومًا خطًا مستقيمًا على الأرض، ثم خط على جانبيه خطوطًا قصيرًة، ثم قرأ عليه الصلاة والسلام وهو يمر بإصبعه الشريفة على الخط المستقيم الآية السابقة:{وَأَنَّ هَذَا صِرَاطِي مُسْتَقِيمًا فَاتَّبِعُوهُ} [الأنعام: 153] ثم أشار إلى الخطوط التي على جانبي الخط المستقيم
بقوله بتمام الآية الكريمة: {وَلا تَتَّبِعُوا السُّبُلَ فَتَفَرَّقَ بِكُمْ عَنْ سَبِيلِهِ} [الأنعام: 153].
فاعتقادي أن الطريق هو واحد كما ينشده كل جماعة أو فرد من هذه الأمة من السعادة لها في الدنيا والآخرة فلا يوجد هناك إلا هذا السبيل، وبخاصة أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم قد أتم بيان خطورة الحيدة عن الطريق المستقيم في قوله في تمام الحديث السابق، حيث قال:«هذا صراط الله، وهذه طرق، وعلى رأس كل طريق منها شيطان يدعو الناس إليه» الدعاة إذًا كثيرون، ولكن الداعية الحق إنما هو الذي يدعو الناس أن يسيروا على ما كان عليه الرسول صلى الله عليه وآله وسلم، وما اتبعه أصحابه ثم من جاءوا من بعدهم بإحسان.
وقد أكد ربنا عز وجل في آية أخرى في القرآن الكريم ما ذكر في الآية السابقة مع شرح الرسول عليه السلام لها للحديث المذكور آنفًا، فقال تعالى:{وَمَنْ يُشَاقِقِ الرَّسُولَ مِنْ بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُ الْهُدَى وَيَتَّبِعْ غَيْرَ سَبِيلِ الْمُؤْمِنِينَ نُوَلِّهِ مَا تَوَلَّى وَنُصْلِهِ جَهَنَّمَ وَسَاءَتْ مَصِيرًا} [النساء: 115].
فإذًا: السبيل دائمًا يذكر في القرآن مفردًا وليس هناك سبل تتبع، ولو أن السالكين على هذه السبل والسائرين على تلك الطرق كانت مقاصدهم ونواياهم حسنًة، وإن افترض فيهم ذلك فهم لن يصلوا إلى بغيتهم ما دام أنهم لم يسلكوا الطريق الوحيد المستقيم الذي يؤدي بهم إلى مقصدهم المشروع، ولقد جاء في الحديث الصحيح الذي تتفق عليه كل الجماعات والأحزاب الإسلامية، ولكنهم يختلفون في تطبيقه سلوكًا، أعني به قول النبي صلى الله عليه وآله وسلم: «تفرقت اليهود على إحدى وسبعين فرقة، وتفرقت النصارى على اثنتين وسبعين فرقة، وستفترق أمتي على ثلاث وسبعين فرقة، كلها في النار إلا واحدة، قالوا: من هي يا رسول الله؟ قال:
هي الجماعة» هذه هي الرواية المشهورة، وثمة رواية أخرى تفسر الأولى وهي قوله عليه السلام:«هي التي على ما أنا عليه وأصحابي» .
فإذاً: واحدة من ثلاثة وسبعين فرقة هي الفرقة الناجية كما صرح على ذلك العلماء قاطبةً، وهذه الفرقة الناجية هي فقط التي تستطيع أن تنهض بالأمة الإسلامية اليوم، وأن تحقق السعادة لهم، ثم لغيرهم من الأمم الأخرى التي لم تهتدي بهدي الإسلام، ولعل من أسباب ذلك أن المسلمين أنفسهم لم يعودوا مع الأسف كما كانوا من قبل دعاًة لأفعالهم وأعمالهم، والأقوال وحدها لا تفيد
…
لما ذكر النبي صلى الله عليه وآله وسلم أن الفرقة الناجية هي فرقة واحدة، ولكي لا يضل المسلمون عن معرفة وصفها هذا الضلال الذي يلزم منه أن يضلوا
…
أجاب عن ذاك السؤال: من هي هذه الفرقة الناجية من بين الثلاث وسبعين فرقة؟ قال: هي التي على ما أنا عليه وأصحابي، ونلاحظ هنا بوضوح تام أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم لم يقتصر في جوابه عن ذاك السؤال على قوله فقط: التي هي على ما أنا عليه، لم يقتصر ولم يقف في كلامه إلى هنا: على ما أنا عليه وفقط، لا عطف على ذلك قوله: وأصحابي.
ذلك لأن أصحاب النبي صلى الله عليه وآله وسلم هم كما لا شك ولا إشكال فيه، هم الذين تلقوا الوحي من رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم بقسميه القرآن والسنة غضًا طريًا، ثم عملوا به وطبقوه أحسن تطبيق، ثم نقلوه كما فهموه وكما طبقوه إلى من جاء من بعده، وهكذا حتى سخر الله عز وجل للمسلمين من جمع لهم السنة من بعد أن سخر للأولين من جمع لهم القرآن الكريم بين دفتين، وبذلك اجتمع الوحيان المشار إليهما في القرآن في عديد من الآيات كمثل قوله تبارك وتعالى مخاطبًا نبيه عليه الصلاة والسلام:{وَأَنزَلْنَا إِلَيْكَ الذِّكْرَ لِتُبَيِّنَ لِلنَّاسِ مَا نُزِّلَ إِلَيْهِمْ} [النحل: 44] ففي هذه
الآية نص صريح أن بيان النبي صلى الله عليه وآله وسلم هو شيء زائد عن القرآن، وأن القرآن مبين ببيانه عليه السلام، فالمبيَن شيء والمبيِن شيء آخر .. شيء زائد عليه، وإن كان لا يخرج عن أنه مستقى من مشكاة واحدة، كما جاء النص يصرح بذلك، ألا وهو قوله عليه الصلاة والسلام:«لا ألفين أحدكم متكئًا على أريكته يقول: هذا كتاب الله فما وجدنا فيه حلالًا حللناه، وما وجدنا فيه حرامًا حرمناه، ألا إني أوتيت القرآن ومثله معه» في حديث آخر: «ألا إنما حرم رسول الله مثل ما حرم الله»
…
بأن الله عز وجل كما صرح بالآية السابقة أنزل القرآن على قلب النبي عليه السلام وكلفه أن يبينه للناس، هذا البيان هو السنة.
لكن هنا شيء آخر أشارت إليه تلك الرواية السابقة حينما سئل النبي عليه السلام عن الفرقة الناجية، فقال:«هي التي على ما أنا عليه وأصحابي» فأصحاب الرسول عليه السلام ذكروا في هذا الحديث لهذه النكتة التي سبق ذكرها في قوله تعالى: {وَمَنْ يُشَاقِقِ الرَّسُولَ مِنْ بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُ الْهُدَى وَيَتَّبِعْ غَيْرَ سَبِيلِ الْمُؤْمِنِينَ نُوَلِّهِ مَا تَوَلَّى وَنُصْلِهِ جَهَنَّمَ وَسَاءَتْ مَصِيرًا} [النساء: 115].
فنحن نقول: في هذه الآية حكمة بالغة، كالحديث السابق: وأصحابي، فذكر في الحديث عطفًا على سنته عليه السلام
…
أصحابه الكرام، كذلك هنا في الآية الكريمة عطف سبيل المؤمنين على ما جاء به الرسول، فقال تعالى:{وَمَنْ يُشَاقِقِ الرَّسُولَ مِنْ بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُ الْهُدَى وَيَتَّبِعْ غَيْرَ سَبِيلِ الْمُؤْمِنِينَ} [النساء: 115] لم يقل رب العالمين: ومن يشاقق الرسول من بعد ما تبين له الهدى نوله ما تولى ونصله جهنم وساءت مصيرًا .. وإنما أدخل جملة عطفها على ما قبلها فقال تعالى: {وَمَنْ يُشَاقِقِ الرَّسُولَ مِنْ بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُ الْهُدَى وَيَتَّبِعْ غَيْرَ سَبِيلِ الْمُؤْمِنِينَ} [النساء: 115] كأن النبي صلى الله عليه وآله وسلم حينما قال: أنا وأصحابي، كان إن لم يكن
ذلك وحيًا من الله مباشرًة منه تعالى إليه، كان اقتباسًا من الآية التي كان الله عز وجل أوحى بها إليه حين قال:{وَمَنْ يُشَاقِقِ الرَّسُولَ مِنْ بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُ الْهُدَى وَيَتَّبِعْ غَيْرَ سَبِيلِ الْمُؤْمِنِينَ} [النساء: 115] ما هي النكتة، وما هي الحكمة في ذكر الله عز وجل في هذه الآية سبيل المؤمنين، وفي عطف الرسول عليه السلام أصحابه على نفسه في الحديث السابق؟
الجواب: أن هؤلاء الصحابة الكرام كما أشرنا سابقًا هم الذين تلقوا الوحيين من رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم مبينًا منه لهم مباشرًة دون واسطة كما هو شأن من جاء من بعدهم، ولا شك أن الأمر كما قال عليه الصلاة والسلام في حديث معروف:«الشاهد يرى ما لا يرى الغائب» ولذلك كان إيمان الصحابة الأولين أقوى من إيمان من جاء من بعدهم، وقد أشار عليه السلام إلى ذلك بقوله في الحديث الصحيح بل المتواتر:«خير الناس قرني، ثم الذين يلونهم، ثم الذين يلونهم» وعلى ذلك فلا يستطيع مسلم أن يستقل بفهم الكتاب والسنة بشخصه، بل لا بد أن يستعين على فهمهما بالرجوع إلى الأصحاب الكرام الذين تلقوا ذلك عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم مفسرًا مبينًا تارًة بقوله عليه السلام وتارًة بفعله وتارًة بتقريره.
ولعلكم تعلمون جميعًا أن السنة تنقسم إلى هذه الأقسام الثلاثة: قول، وفعل، وتقرير، فإذا ما صرف صارف ما نظره عن هذه السنة وأراد أن يستقل بفهم القرآن مقتصرًا على ذلك باللغة العربية فسوف لا يستطيع أن يصل إلى فهم مراد الله تبارك وتعالى من آياته، وأكبر دليل على ذلك أن هناك بعض الآيات يتردد فيها لفظ معين، كاليد مثلًا في آية التيمم، واليد في آية حد السارق ونحو ذلك، فتجد الآية تفسر على ضوء ما جاء في السنة، فلا يجوز حينئذٍ أن يستقل إنسان ما لفهم الآية دون أن يستعين على ذلك بسنة النبي صلى الله عليه وآله وسلم بأقسامها الثلاثة التي ذكرتها آنفًا.
فآية مثلًا: {وَالسَّارِقُ وَالسَّارِقَةُ فَاقْطَعُوا أَيْدِيَهُمَا} [المائدة: 38] اليد في اللغة إذا أطلقت فقد يراد: الكف، وقد يراد: الكف والذراع، وقد يراد ما فوق ذلك إلى المنكب، فبأي هذه المعاني يستطيع من لا يعود إلى السنة التي هي بيان للقرآن كما ذكرنا آنفًا أن يفسر مثل هذه الآية، ثم كلمة السارق وهي تشمل كل سارق مهما كانت قيمة ما سرق منحطًا وقليلًا ولا قيمة لها تذكر، لا بد في هذا وفي هذا وكثير من ذلك أن يرجع إلى السنة بأقسامها الثلاثة.
وأوضح مثل معروف عند العلماء بها: الصلاة التي أمرنا بها في القرآن الكريم، والحج، والصيام، والزكاة ونحو ذلك، لا يستطيع أحد مطلقًا أن يفهم هذه الأركان التي أمرنا بها في القرآن إلا على ضوء بيان الرسول عليه السلام لها بقوله وفعله وتقريره.
إذ الأمر كذلك فلا بد من الرجوع إلى السنة مع القرآن؛ لأن السنة تبين القرآن كما ذكرنا آنفًا في الآية الكريمة: {وَأَنزَلْنَا إِلَيْكَ الذِّكْرَ لِتُبَيِّنَ لِلنَّاسِ مَا نُزِّلَ إِلَيْهِمْ} [النحل: 44].
يبقى هناك شيء آخر وهو بيت القصيد الآن من كلمتي هذه في آخر هذه الكلمة أو هذا الجواب، وهو: الصحابة الذين نقلوا إلينا أقواله عليه السلام وأفعاله وتقاريره، أقواله صلى الله عليه وآله وسلم ما نعرفها من القرآن الذي مروي بالتواتر كما هو معلوم، وإنما نعرف ذلك من السنة، تقاريره عليه السلام رأى شيئًا فأقره، لا نعرف ذلك إلا من نقل الصحابة وليس من قوله عليه السلام، فإذًا: كان من الضروري جدًا أن نضم إلى الدعوة إلى الكتاب والسنة كما نقول دائمًا في مثل هذه المناسبة: وعلى ما كان عليه سلفنا الصالح، إعمالًا لما سبق ذكره في بعض الآيات والأحاديث المتقدمة، حينما ذكر الله سبيل المؤمنين، وذكر نبيه الكريم
أصحابه، لم يكن ذلك إلا لحكمة بالغة، وهي: أنه يجب الرجوع إلى فهم الكتاب والسنة على ما كان عليه سلفنا الأول الصحابة رضي الله عنهم أجمعين.
على هذا: يأتي هنا شيء هام جدًا يغفل عنه كثير من الجماعات الإسلامية أو الأحزاب الإسلامية القائمة اليوم على وجه الأرض، ألا وهو: ما هو السبيل إلى معرفة ما كان عليه الرسول عليه السلام من قول أو فعل أو تقرير، ثم معرفة ما كان عليه أصحابه من فهم وتطبيق لهذه السنة؟ لا سبيل إلى ذلك إلا بالرجوع إلى علم يعرف عند العلماء قاطبةً بعلم الحديث، علم مصطلح الحديث، وعلم الجرح والتعديل، له قواعده وله اصطلاحاته بها يتمكن العلماء من أن يعرفوا ما صح عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم مما لم يصح، أكثر الجماعات الإسلامية لا يرفعون اليوم رؤوسهم أولًا إلى ما يعرف بالسنة، والسنة في لغة الشرع أعم وأشمل منها في عرف الفقهاء؛ ذلك لأن الفقهاء يطلقون لفظة السنة على ما كان من العبادات غير المفروض على المسلم ففريضة وسنة، لكن السنة في لغة الشرع هي الطريقة والمنهج والسلوك الذي سلكه الرسول عليه السلام في تفسيره في بيانه للقرآن وتطبيقه إياه.
وعلى هذا جاء قوله عليه السلام في الحديث الصحيح والمتفق عليه بين الشيخين من حديث أنس بن مالك رضي الله تعالى عنه عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم أنه قال: «من رغب عن سنتي فليس مني» فليس المقصود هنا: من رغب عن سنتي سنة الفجر .. سنة الظهر القبلية والبعدية إلى آخر ما هنالك من السنن الرواتب، ليس هذا هو المقصود في هذا الحديث، وإنما المقصود به السنة والطريقة التي جاء بها النبي عليه السلام لهذه الأمة، كبيانه للقرآن كما سبق عليه الكلام.
والذي يؤكد لنا هذا المعنى شيئان اثنان: أحدهما يتعلق بسبب ورود الحديث،
والشيء الآخر: اتفاق الأمة أن من حافظ على الفرائض وانتهى عن المحرمات فهو إن شاء الله من أهل الجنة كما جاء في صحيح مسلم: «أن رجلًا قال يا رسول الله! أرأيت إن أنا صليت الصلوات الخمس، وصمت رمضان، وحللت الحلال، وحرمت الحرام، أأدخل الجنة؟ قال: نعم، إن أنت صليت الصلوات الخمس، وصمت رمضان، وحللت الحلال، وحرمت الحرام فأنت من أهل الجنة» فإذًا: هنا لا شيء مما يسمى في اصطلاح الفقهاء بالسنة يمنع من قام بما سبق ذكره في الحديث من الفرائض يحول تركه للسنة بينه وبين دخول الجنة، لكنه على العكس من ذلك إذا ترك السنة بمعناها الشرعي فلازم ذلك أنه حاد عن سبيل الرسول عليه السلام التي هي سبيل المؤمنين.
أما سبب الحديث وهو الشيء الأول الذي يدل على المعنى الصحيح لهذه الجملة: «فمن رغب عن سنتي .. »
…
تقالوها، أي: وجدوا عبادته عليه السلام قليلة، وجدوها قليلة بالنسبة لما كان يدور في ذهنهم من أن الرسول عليه السلام ينبغي أن يكون أعبد العباد فيما يتصورون هم العبادة، وهو بلا شك أعبدهم جميعًا، لكن ليست العبادة بكثرة صلاة وصيام إنما هي بكثرة الإتيان من العبادات حسب ما جاء به الرسول عليه السلام، فبناءً على ما كان قائمًا في أذهانهم من المبالغة في العبادة وجدوا عبادته عليه السلام قليلة، وكأنهم شعروا بأن هذا نقص في حق الرسول عليه السلام فجاءوا بتعليل من أبطل ما يكون نرجو أن الله عز وجل يغفره لهم بسبب صحبتهم لنبيهم صلى الله عليه وآله وسلم حيث قالوا بعد أن تقالوا العبادة: هذا رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم قد غفر الله له ما تقدم من ذنبه، كأنهم يقولون: لماذا يتعب الرسول صلى الله عليه وآله وسلم نفسه، ولماذا يجهدها ويتعبها وقد حصل غاية المنى ألا وهو كما قال الله عز وجل:{إِنَّا فَتَحْنَا لَكَ فَتْحًا مُبِينًا * لِيَغْفِرَ لَكَ اللَّهُ مَا تَقَدَّمَ مِنْ ذَنْبِكَ وَمَا تَأَخَّرَ} [الفتح: 1 - 2].
فإذًا: الرسول عليه السلام قد غفر الله له ما تقدم من ذنبه وما تأخر فلم يبق هناك ما يدعوه إلى أن يقوم الليل كله، ويصوم النهار كله، ويبتعد عن النساء بكله، ولذلك عادوا إلى أنفسهم: أما نحن فلم نظفر بعد بمغفرة الله فيجب أن نسعى إلى عبادة الله عز وجل لعل الله يغفر لنا، فتعاهدوا بينهم، فقال أحدهم: أما أنا فأقوم الليل ولا أنام، وقال الثاني: أما أنا فأصوم الدهر ولا أفطر، والثالث قال: أما أنا فلا أتزوج النساء، وانصرفوا متعهدين على هذا.
ولما جاء الرسول عليه السلام إلى أزواجه وأخبرنه خبر الرهط، صعد عليه السلام المنبر وخطب في أصحابه قائلًا:«ما بال أقوام يقولون كذا وكذا وكذا» يعيد أقوال كل منهم، هذا يقول أصوم النهار الدهر ولا أفطر، وذاك يقول: أقوم الليل ولا أنام، والثالث يقول: لا أتزوج النساء، وهذا من أدبه عليه السلام أنه يكني ويعرض ولا يصرح فيقول: ما بال فلان قال كذا وفلان قال كذا لا، ما بال أقوام يقولون كذا وكذا؛ لأن المقصود ليس هو التشهير، وإنما هو التعليم.
فقال عليه السلام: «أما أنا فإني أخشاكم لله وأتقاكم لله، أما إني أصوم وأفطر، وأقوم الليل وأنام، وأتزوج النساء، فمن رغب عن سنتي فليس مني» هذا موضع هذا الحديث، وهذا هو سبب ورود هذا الحديث:«فمن رغب عن سنتي فليس مني» أي: من جاء بعبادة يتعبد الله بها ويتقرب إلى الله زلفى لم أتعبد الله بها فهو قد رغب عن طريقي وعن منهجي فهو ليس مني، لو أن رجلًا لم يقم الليل مطلقًا ولم يصم من الدهر شيئًا أكثر من شهر رمضان فهو الذي يستحق أن يكون من أهل الجنة بشهادة ذلك الحديث، ولا يقال فيه: قد رغب عن سنة الرسول عليه السلام، ولكنه لو صام مع رمضان صام كل الأيام التي ينهى الشارع الحكيم عن صيامها، ثم قام الليل في السنة كلها والليل كله بطوله فهو الذي رغب عن سنته
عليه السلام.
ولذلك فشتان ما بين القانع بالفرائض والذي يزيد على السنن ظانًا بأنه قد زاد في الطاعة والعبادة، والواقع أنه قد خالف منهج الرسول وسيرته؛ لأجل ذلك قال عليه السلام في الحديث الصحيح:«من أحدث في أمرنا هذا ما ليس منه فهو رد» .
إذا عرفنا أن سنة الرسول عليه السلام التي نقلها إلينا أصحابه الكرام وجب علينا أن نعرفها كما لو كنا نحياها معه عليه السلام، وكذلك بيان الصحابة لما بينه الرسول عليه السلام لهم، كان لا بد من الرجوع كما قلت آنفًا إلى علم الحديث، وعلم الحديث علم مستقل عن سائر العلوم الشرعية، ولا سبيل إلى التفقه في الدين وإلى فهم القرآن الكريم إلا بطريق هذه السنة.
لذلك أعتقد وهذا إن شاء الله يكون نهاية هذا الجواب: أنه لا بد للمسلمين اليوم، أو بعبارة أوضح: للمسلمين الذين يريدون أن يعيدوا العز للإسلام والمجد للإسلام والحكم للإسلام، لا بد لهؤلاء أن يحققوا أمرين اثنين:
أن يعيدوا إلى أذهان المسلمين شريعة الإسلام مصفاةً من كل ما دخل فيها مما لم يكن منها يوم أنزل الله تبارك وتعالى قوله: {الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ الإِسْلامَ دِينًا} [المائدة: 3] إعادة هذا الأمر اليوم كما كان في العهد الأول، هذا بلا شك يحتاج إلى جهود جبارة من عديد من علماء المسلمين في مختلف أقطار الأرض ينشرون العلم الصحيح الذي هو القرآن ببيان السنة وبنقل الصحابة وفهمهم لها.
إن الرجوع إلى ما كان عليه الصحابة في فهم الشريعة أمر هام جدًا هذا الشيء الأساسي في إعادة المفهوم الصحيح للإسلام بعد أن تفرقت السبل وتعددت
الطرق حتى قال بعض غلاة الصوفية: إن الطرق الموصلة إلى الله تبارك وتعالى هي بعدد أنفاس الخلائق؛ لأن ذلك يعني أنهم ليسوا بحاجة إلى أن يدرسوا علم الكتاب وعلم السنة، بل يخلو أحدهم في خلوة ويشترط فيها أن تكون مظلمة ولا يكتفي في ذلك، بل يغمض عينيه، ولا يقتصر على ذلك بل يضع رأسه بين ركبتيه ظلمات بعضها فوق بعض، مع ذلك فهو يهيئ نفسه بزعمه أن يتلقى لا يقولون الوحي؛ لأنهم إن قالوا ذلك خرجوا من دائرة الإسلام، لكن يقولون: يتلقى الإلهام من رب الأنام، فهو يعمل بمقتضى هذا الإلهام، فإذًا: هم ليس عندهم طريق واحدة توصل إلى الله تبارك وتعالى، خلافًا لكل ما سبق بيانه.
فأنا أقول: أنه لا بد لعلماء المسلمين حقًا أن يقربوا هذا الإسلام مصفًى من كل ما دخل فيه .. ما دخل في العقائد .. ما دخل في الأحاديث في السنة من أحاديث ضعيفة وموضوعة .. ما دخل في الفقه من آراء فجة وأقوال غريبة جدًا، فالإسلام يتبرأ منها براءة الذئب من دم ابن يعقوب كما كان يقال، ثم ما دخل في السلوك والأخلاق من انحراف مما كان عليه الرسول عليه السلام وأصحابه من الاعتدال .. ما دخل في السلوك من الغلو في الزهد في الدنيا والانصراف عن الناس، والرسول عليه السلام يقول: إن المؤمن الذي يخالط الناس ويصبر على أذاهم خير من الذي لا يخالطهم ولا يصبر على أذاهم.
هؤلاء العلماء يُصَفُّون الإسلام من كل شائبة ومن كل دخيل في هذا الإسلام من أي جانب كان، سواء في العقائد أو في الفقه أو في الحديث أو في السلوك، ثم الشيء الثاني مع هذه التصفية ينبغي أن يقترن العمل بهذا العلم، ولذلك أنا أُلخِّص ذلك بكلمتين، لا بد للجماعة المسلمة حقًا أن تقوم بواجب أمرين اثنين: التصفية والتربية، تصفية الإسلام مما ذكرنا آنفًا، بحيث يعود المسلمون إلى فهم
دينهم كما لو كانوا بصحبة نبيهم، أو على الأقل بصحبة أصحابه عليه الصلاة والسلام، يجدون الإسلام غضًا طريًا كما أنزل.
ثم يكونون حريصين على تطبيق هذا الإسلام المصفى تطبيقًا عمليًا صحيحًا، فيوم يهيأ للمسلمين مثل هذه التصفية ويوجهون ويربون على أساس العمل بها، يومئذٍ أعتقد يفرح المؤمنون بنصر الله تبارك وتعالى.
هذا ما يمكنني أن أقوله بهذه المناسبة، ونسأل الله لنا ولعامة المسلمين أن يفهمنا الإسلام فهمًا صحيحًا على ضوء الكتاب والسنة الصحيحة، وعلى ما كان عليه سلفنا الصالح، وأن يوفقنا للعمل بذلك، إنه سميع مجيب والحمد لله رب العالمين.
مداخلة: يا شيخ! هناك من يوجه حديث: «ما أنا عليه وأصحابي» وبالطائفة المنصورة في جماعة من الجماعات، يعني: الموجودة في الساحة الآن، فهم يوجهون هذا الحديث كما وجهه بعض أئمة الحديث بأنهم إن لم يكونوا هم أهل الحديث فلا أدري كما قال بذلك الإمام أحمد والإمام البخاري وعلي بن المديني، ويقول: هم أهل الحديث مما لا شك فيهم السلفيون، فمن لم يكن على هذا المنهج فهو خارج من هذا الحديث، فما رأي فضيلتكم؟
الشيخ: نحن نعتقد هذا جازمين؛ لأن كل من يدعي دعوى لا بد أن يخرج عن دعواه بالدليل، والحقيقة: أن كل جماعة نلاحظ اليوم أن هناك صحوة عامة، وصحوة خاصة، الصحوة العامة: تشمل كل المسلمين الذين كانوا من قبل من الراقدين فربتهم الحوادث والتجارب سواء كانت تجارب شخصية أو جماعية أنه لا بد للمسلمين من أن يعودوا إلى دينهم، فعاد الكثيرون منهم إلى دينهم، لكن كلمة الدين بالمفهوم العام، لكن نحن يهمنا المفهوم الخاص للدين، وهو كما
قلنا في الحديث السابق: «ما أنا عليه وأصحابي» هذا الفهم الخاص هو الذي يفيد المؤمنين فهو الذي يخلصهم من هذا الذل الذي أصابهم وران عليهم.
لما وجدت هذه الصحوة بدأنا منذ عهد قريب جدًا نسمع ممن كنا لا نسمع منهم من قبل كلمة الكتاب والسنة، وإنما كنا نسمع منهم كلمة الإسلام والدين وكلمات عامة، أما الرجوع إلى الكتاب والسنة فأصبحت ممكن أن أقول: موضة العصر الحاضر، أي: إن بعض الجماعات التي لا تتبنى الإسلام دينًا لها وسياسةً لها وإلى آخره يقولون: نحن على الكتاب والسنة، ولكنك لو نظرت إليهم في أعمالهم وأقوالهم وعقائدهم لوجدتهم أبعد الناس عن الكتاب والسنة؛ لأنهم ليس عندهم من معرفة بالكتاب والسنة إلا ما يشترك معهم عامة الناس، أما أن يكون عندهم علم تفصيلي أولًا بالخلافات التي توارثناها في هذه القرون الطويلة، ثم معرفة الراجح من المرجوح من هذه الموروثات، فهذا الواقع لا نكاد نجد أحدًا من هذه الجماعات من يقوم بتحقيق ذلك إلا من ينتمي إلى أهل الحديث وإلى أهل السلف، ولذلك ففاقد الشيء لا يعطيه.
إذا كان كل جماعة الآن تدعي أنها على الكتاب والسنة لماذا؟ لأنه صار معروفًا عند جميع المسلمين أن الدعوة إلى الكتاب والسنة هو الإسلام، فلم يعد يتمكن أحد من الدعاة مهما كان اقترابه أو ابتعاده عن منهج الكتاب والسنة أن يغض النظر عن الدعوة إلى الكتاب والسنة، فإذا ما ادعى مدعون أنهم على الكتاب والسنة قلنا لهم: ذلك ما نبغي أولًا وهاتوا برهانكم إن كنتم صادقين ثانيًا.
ونحن في حدود ما علمنا واطلعنا من الجماعات الموجودة اليوم على وجه الأرض لا نجد من يحاول الاقتراب من الكتاب والسنة إلا الذين إما أن يطلق
عليهم اسم أهل الحديث، أو اسم أنصار السنة في بعض البلاد، أو السلفيين في بلاد أخرى، أو أهل الحديث في بعض أخرى وهكذا.
أما الذين ينتمون إلى جماعات أخرى لا يتردد على ألسنتهم الاستدلال بالكتاب والسنة في كل شؤون حياتهم الذاتية الشخصية أو العامة أو الفكرية أو السياسية أو نحو ذلك، ما نجد عندهم من يدندن دائمًا حول الكتاب والسنة إلا كلمة الكتاب والسنة، نحن معكم على الكتاب والسنة! لكن هاتوا ما عندكم من دليل على أنكم على الكتاب والسنة، فلا
…
جوابًا.
إن بين أيدينا الآن مثالًا قريب العهد ومؤسفًا في وقت واحد: هذا الغزالي المصري، هو لا يتبرأ من الكتاب والسنة، ولا يقول أنا لا أدعو إلى الكتاب والسنة؛ لأنه لو قال ذلك انفضح أمره وانكشفت سريرته، فهو يقول على الكتاب والسنة، لكن الكتاب والسنة ما هو عنده، إن كان من السنة فهو السنة ما صح عنده في منظاره الشخصي العقلي وليس ما صح عند علماء الحديث الذين كرسوا حياتهم طيلة هذه القرون الطويلة لمعرفة السنة الصحيحة من الضعيفة، كل هذه الجهود في كل هذه القرون مثل هذا الإنسان وأمثاله كثيرون مع الأسف الشديد، لا يقيم لهذه الجهود وزنًا! كل ما في الأمر الحديث الذي يوافق هواه أو منطقه أو ثقافته فهو صحيح، وما خالف ذلك فهو الضعيف ولو أخرجه البخاري ومسلم .. ولو اتفقت الأمة على تلقي هذا الحديث بالقبول! مثل هذا النوع كمثال لا يقول: أنا لست على الكتاب والسنة ولكن الكتاب والسنة بريئان منه؛ لأن السنة عنده تبعًا لهواه، والقرآن يفسره أيضًا تبعًا لهواه، الفرق عنده أن القرآن لا يجرؤ أن يقول هذا لا يصح، لكن يقول: هذا الفهم لا يصح، بينما هذا الفهم هو الذي جاءنا عن الصحابة وعن السلف، أما الحديث فما أجرأه على الإنكار لأنه أهون وأخف
…
عنده لهدم السنة أن يقول كما يقول غيره كثيرون من الدعاة زعموا: هذا حديث آحاد، وحديث الآحاد لا تثبت به عقيدة، ولذلك ترد بهذا
المعول وتهدم أحاديث صحيحة لا إشكال عند علماء الحديث في صحتها.
فإذًا: ليس المهم ادعاء طائفة من الناس أو حزب أو جماعة من الناس أننا على الكتاب والسنة؛ لأننا نقول لهم: نريد أفعالًا ولا نريد أقوالًا، هاتوا برهانكم إن كنتم صادقين، ونحن نعلم أن الجماعات التي تنتمي إلى أسماء معينة أو أحزاب سياسية أو نحو ذلك فهذه لا تهتم بدراسة السنة إطلاقًا بل قد يصرحون بأن هذه الدراسة تفرق الأمة وتفرق الجماعة، وأن البحث في أن هذا حديث صحيح أو غير صحيح .. أن هذا سنة وهذا بدعة، هذا سابق لأوانه، فبعضهم يقولون في مثل ذلك: هذه ليست من اللباب إنما هي من القشور.
فلا شك ولا ريب أن الدليل الناهض على أن الذين يصدق عليهم أنهم من الفرقة الناجية كما جاء في الحديث الصحيح آنفًا إنما هم الحريصون كما قلنا آنفًا على فهم الكتاب والسنة في كل شؤون حياتهم، ويطبقون ذلك حسب قدرتهم وطاقتهم، فهي الجماعة والفرقة الناجية، ومن علامة هؤلاء أنهم لا يتحزبون لحزب واحد، ولا ينتمون لرأس واحد يأمرهم بما يشاء وينهاهم عما يشاء، إنما مرجعهم كلهم إلى قول الله تبارك وتعالى:{فَإِنْ تَنَازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إِلَى اللَّهِ وَالرَّسُولِ إِنْ كُنتُمْ تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ ذَلِكَ خَيْرٌ وَأَحْسَنُ تَأْوِيلًا} [النساء: 59].
فالفرقة الناجية هي فرقة أهل الحديث والسنة، وليست هي أهل السنة والجماعة كما يقولون اليوم؛ لأن هذا الاسم اصطلحوا على أن يدخلوا تحته .. تحت أهل السنة والجماعة يدخل الأشاعرة .. يدخل الماتريدية .. أخيرًا يدخل أهل الحديث الذي ينبغي أن يذكروا مقدمًا وسلفًا، بينما هؤلاء لا يتبنون الرجوع كما نتبناه إلى الكتاب والسنة وعلى منهج السلف الصالح، أعني: الأشاعرة والماتريدية، فهم من علماء الكلام الذي اضطروا أن يقولوا كلمة حق لكن يراد
بها باطل، وهي قولهم: علم السلف أسلم، وعلم الخلف أعلم وأحكم، إذًا: نسبوا الجهل إلى السلف ونسبوا العلم إلى الخلف، وهذا عكس لكل ما ذكرنا آنفًا ولغير ذلك من النصوص:
فأهل الحديث هموا أهل النبي وإن
…
لم يصحبوا نفسه أنفاسه صحبوا
ونسأل الله أن يجعلنا من أهل الحديث العارفين بكتاب الله ثم بصحيح سنة رسول الله، ثم العاملين بذلك على منهج أصحاب رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم.
مداخلة: بعض الإخوة الذين ينتسبون إلى هذه الدعوة، وأعني بها الدعوة السلفية يقولون: نحن الآن في زمان يكاد يكون اتصل العالم بعضه ببعض، وصار من الإدارة والتخطيط وإلى غير هذا من ما ينكر به الإسلام ويكيدوا له، فيقولون: مما لا شك فيه أننا لا نستطيع أن نواجه هذه الدعوة المضادة للإسلام عمومًا وللدعوة السلفية خصوصًا إلا بعمل منظم، كما هم منظمون يعني: أعداء الإسلام منظمون، فيتأولوا ويقولون: لا بد لنا من أن نقوم بعمل منظم .. عمل ما يسمونه، فيرتبون العمل على أن يكون هناك رئيس وهناك أسر تكون، هناك أشياء سرية للغاية لا يعرفها إلا خواص المنتسبون لهذا
…
أو هذا التنظيم، فكيف السبيل في توجيه هؤلاء الإخوة، الذي نعلم أنهم حريصون على الدعوة السلفية وعلى دعوة الناس إلى الخير الكتاب والسنة.
الشيخ: إذا كان المقصود بالتنظيم تنظيم الدعوة هذا لا شك أمر لا يختلف فيه اثنان ولا ينتطح فيه عنزان كما قيل في قديم الزمان، أما إذا كان المقصود بالتنظيم للجماعة السلفيين تنظيمًا سريًا كما وقع فيه قديمًا الإخوان المسلمون ثم لاقوا مصيبتهم التي أرجعت لدعوتهم القهقرى، فالتنظيم ما بحاجة إليه اليوم إطلاقًا، وأنا في اعتقادي أن واجب الدعاة السلفيين أن يستمروا في طريقة الدعوة إلى الكتاب وإلى السنة هكذا علنًا لا خفاء فيها إطلاقًا؛ لأن هذه الدعوة من طبيعتها
أنها أقرب قبولًا وألصق بالقلوب الصافية الفطر السليمة، ولا شك في أن الأمر في النهاية ستكون الدولة لها وليس بحاجة أن يعملوا سرًا.
ويوم تجتمع قلوب المسلمين كما أشرنا آنفًا على فهم الإسلام فهمًا صحيحًا وتطبيقه تطبيقًا صحيحًا يومئذٍ ستقوم قائمة الدولة الإسلامية المنشودة لدى الجميع وتحكيم الكتاب والسنة كما هو أيضًا مقصود الجميع، أما العمل السياسي والسري سواء حتى لو كان عملًا سياسيًا جهرًا لا سر فيه أنا أعتقد أنه من الصوارف التي تصرف الدعاة إلى الله عن دعوتهم إلى الله إلى اشتغال بالأمور السياسية، ستصرفهم عما هو أوجب واجب عليهم من الدعوة، أنا قلت آنفًا: أن أوجب ما يجب على علماء المسلمين أن يصفوا هذا الإسلام مما دخل فيه، وأن يقترن ذلك بتربية الذين صفي الإسلام لهم على هذا الإسلام المصفى، أين هذه الجماعة التي قامت بالواجب الأول ثم بالواجب الثاني ولم يبق عندهم إلا العمل السياسي؟ أنا لا أجد هذا الآن ولن أجده مهما طال بي الزمان؛ لأن هذا يحتاج إلى زمن كبير وكبير جدًا؛ لأنني أنظر إلى النبي صلى الله عليه وآله وسلم والذي كان ممدودًا بحبل السماء ومشدودًا قواه بالقوي الأمين جبريل عليه السلام ظل في قومه ثلاث وعشرين سنة يدعو إلى الله، في آخر أمد من حياته استطاع أن يضع النواة للدولة المسلمة، ثم بارك الله فيها بأصحابه الذين ورثوا الخلافة من بعده، وانتشر الإسلام كما هو معلوم لدى الجميع، فلا فائدة من التكرار، هكذا التاريخ يعيد نفسه، فأنا لا أجد الآن على وجه الأرض جماعة إن كانوا مثلًا مائة أو كانوا ألفًا، أو ألوفًا أو يزيدون على ذلك، إنهم على قلب رجل واحد فهمًا للإسلام فهمًا صحيحًا وتربيًة لأنفسهم ..
(فتاوى جدة- أهل الحديث والأثر (1) /01: 58: 26)