الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
الطريق الرشيد نحو بناء
الكيان الإسلامي
السائل: فضيلة الشيخ نود وأنت تعرف الآن الشباب الإسلامي، وما يعانونه في كل مكان في سبيل العودة إلى تحقيق الكيان الإسلامي فثمة عراقيل كثيرة تعترض العودة الرشيدة، أو الخطوات الرشيدة، مما قد تصطنعه الأنظمة الجائرة، أو ينتج عن أخطاء الشباب الإسلامي كالتطرف في التدين أو التفريط
…
فما هي، في رأيك الخطوات الرشيدة التي تنصح المسلمين بالعمل بها للوصول إلى تحقيق ما ينشدونه؟
أقول وبالله التوفيق: إن وضع المسلمين اليوم من حيث إنهم محاطون بدول كافرة قوية في مادتها ومبتلون بحكام كثير منهم لا يحكم بما أنزل الله، أو لا يحكمون بما أنزل الله إلا في بعض النواحي دون بعض، مما لا يساعدهم على أن يعملوا عملاً جماعياً وسياسياً لو كان ذلك في مكنتهم وفي طوقهم. فإني أرى أن العمل الذي ينبغي على الجماعات الإسلامية أن يتوجهوا إليه بكليتهم ينحصر في نقطتين اثنتين وضروريتين ولا أعتقد أنه هناك مجال للخلاص من هذا الضعف والهوان والذل الذي عليه المسلمون، أقول ما أقول وأخص به المسلمين الثقات المتمثلين في الشباب الواعي الذي عرف أولاً مأسأة المسلمين، واهتم، ثانياً، بالبحث الصادق عن الخلاص، وبكل ما أوتيه من قوة
…
بينما الملايين من المسلمين مسلمون بحكم الواقع الجغرافي أو في تذكرة
النفوس (1)
…
فهؤلاء لا أعنيهم بالحديث.
أعود فأقول إن الخلاص على أيدي هؤلاء الشباب يتمثل في أمرين لا ثالث لهما: التصفية والتربية وأعني بالتصفية تقديم الإسلام إلى الشباب المسلم مصفى من كل ما دخل فيه على مدِّ هذه القرون والسنين الطوال من العقائد ومن الخرافات والبدع والضلالات. ومن ذلك ما دخل فيه من أحاديث غير صحيحة قد تكون موضوعة، فلابد من تحقيق هذه التصفية لأنه بغيرها لا مجال أبداً لتحقيق أمنية هؤلاء المسلمين الذين نعتبرهم من المصطفين المختارين في العالم الإسلامي الواسع. فالتصفية هذه إنما يراد بها تقديم العلاج الذي هو الإسلام الذي عالج ما يشبه هذه المشكلة حينما كان العرب أذلاء، وكانوا يستعبدون من الأقوياء ممن حولهم من فارس والروم والحبشة ونحو ذلك من جهة، وكانوا يعبدون غير الله تبارك وتعالى من جهة أخرى.
فهذا الإسلام كان هو العلاج الوحيد لإنقاذ العرب مما كانوا فيه من ذلك الوضع السيء، والتاريخ كما يقال يعيد نفسه، والعلاج إذا كان هو العلاج السابق نفسه فسيقضي حتماً-إذا استعمله المريض- على مرضه الذي هو عين المرض السابق. الإسلام هو العلاج الوحيد، وهذه كلمة لا اختلاف فيها بين الجماعات الإسلامية أبداً.
وذلك من فضل الله على المسلمين، ولكن هناك اختلافاً كبيراً بين الجماعات الإسلامية الموجودة اليوم على الساحة، ساحة الإصلاح، ومحاولة إعادة الحياة الإسلامية، واستئناف الحياة الإسلامية وإقامة الدولة الإسلامية هذه الجماعات مختلفة مع الأسف الشديد أشد الاختلاف حول نقطة البدء بالإصلاح، فنحن
(1) الجنسية أو شهادة الميلاد.
نخالف كل الجماعات الإسلامية في هذه النقطة، ونرى أنه لا بد من البدء بالتصفية والتربية معاً، أما أن نبدأ بالأمور السياسية، والذين يشتغلون بالسياسة قد تكون عقائدهم خراباً يباباً، وقد يكون سلوكهم من الناحية الإسلامية بعيداً عن الشريعة. والذين يشتغلون بتكتيل الناس وتجميعهم على كلمة «إسلام» عامة ليس لهم مفاهيم واضحة في أذهان هؤلاء المتكتلين حول أولئك الدعاة، ومن ثم ليس لهذا الإسلام أي أثر في منطلقهم في حياتهم ولهذا تجد كثيراً من هؤلاء وهؤلاء لا يحققون الإسلام في ذوات أنفسهم فيما يمكنهم أن يطبقوه بكل سهولة، بحيث لا أحد مهما كان متكبراً جباراً يدخل بينه وبين نفسه.
وفي الوقت نفسه يرفع هؤلاء أصواتهم بأنه لا حكم إلا لله، ولابد أن يكون الحكم بما أنزل الله. وهذه كلمة حق، ولكن فاقد الشيء لا يعطيه، فإذا كان أكثر المسلمين اليوم لا يقيمون حكم الله في أنفسهم ويطالبون غيرهم بأن يقيموا حكم الله في دولتهم فإنهم لن يستطيعوا تحقيق ذلك ففاقد الشيء لا يعطيه، لأن هؤلاء الحكام هم من هذه الأمة، وعلى الحكام والمحكومين أن يعرفوا سبب هذا الضعف الذي يعيشونه، يجب أن يعرفوا لماذا لا يحكم حكام المسلمين اليوم بالإسلام إلا في بعض النواحي، ولماذا لا يطبق هؤلاء الدعاة الإسلام على أنفسهم، قبل أن يطالبوا غيرهم بتطبيقه في دولهم؟ ! .
الجواب: واحد، وهو إما أنهم لا يعرفون الإسلام، ولا يفهمونه، إلا إجمالاً، وإما أنهم لم يربوا على هذا الإسلام في منطلقهم، وفي حياتهم، وفي أخلاقهم، وفي تعاملهم مع بعضهم ومع غيرهم
…
والغالب، كما نعلمه بالتجربة، أنهم يعيشون في العلة الأولى الكبرى وهي بُعدهم عن فهم الإسلام فهماً صحيحاً، كيف لا وفي الدعاة اليوم من يعتبر السلفيين بأنهم يضيعون عمرهم في التوحيد،
ويا سبحان الله، ما أشد إغراق من يقول مثل هذا الكلام في الجهل لأنه يتغافل، إن لم يكن غافلاً حقاً، عن أن دعوة الأنبياء والرسل الكرام كانت {أن اعبدوا الله واجتنبوا الطاغوت} بل إن نوحاً-عليه الصلاة والسلام أقام ألف سنة إلا خمسين عاماً لا يصلح ولا يُشَرِّع، ولا يقيم سياسة
…
بل يا قوم اعبدوا الله، واجتنبوا الطاغوت
…
!
هل هناك إصلاح؟ هل هناك تشريع؟ هل هناك سياسة؟ ! لا شيء، تعالوا يا قوم اعبدوا الله واجتنبوا الطاغوت فهذا أول رسول، بنص الحديث الصحيح، أرسل إلى الأرض، استمر في الدعوة ألف سنة إلا خمسين لا يدعو إلا إلى التوحيد، وهو شغل السلفيين الشاغل .. فكيف يسف كثير من الدعاة الإسلاميين وينحطون إلى درجة أن ينكروا ذلك على السلفيين؟ !
إن من فضائل السنة أنها توضح مشاكل قد تعترض الأمة فيضع لها العلاج مسبقاً بعد أن ينبههم على مرضهم وعلتهم، وكلنا يعلم قول الرسول صلى الله عليه وآله وسلم:«ستتداعى عليكم الأمم كما تداعى الأكلة على قصعتها، قالوا: أومن قلة نحن يومئذ يا رسول الله؟ قال: لا بل أنتم يومئذ كثير، ولكنكم غثاء كغثاء السيل، ولينزعن الله الرهبة من صدور عدوكم وليقذفن في قلوبكم الوهن؟ قالوا: يا رسول الله وما الوهن؟ قال: حب الدنيا وكراهة الموت» (1).
ففي هذا الحديث بيان مرض من الأمراض التي ستصيب المسلمين ويكون ذلك سبباً أو سنة كونية شرعية في آن واحد، أن يتسلط على المسلمين الأعداء، وأن يهجموا عليهم من كل صوب كما تتداعى الأكلة على قصعتها، أقول في هذا
(1) رواه أبو داود عن ابن عمر رضي الله عنهما وأحمد والطبراني في الكبير وابن عدي وأبو نعيم في الحلية وهو صحيح.
الحديث بيان مرض من الأمراض التي تؤدي بالمسلمين إلى هذا الوضع المشين ألا وهو «حب الدنيا وكراهة الموت» وهذا له علقة بما قلت آنفاً من أنه لابد من «التصفية والتربية» .
والشطر الثاني من هذه الكلمة يعني أنه لا بد من تربية المسلمين اليوم تربية على أساس ألا يُفْتَنوا كما فُتِن الذين من قبلهم بالدنيا، ويقول الرسول صلى الله عليه وآله وسلم:«ما الفقر أخشى عليكم ولكن أخشى عليكم أن تفتح عليكم زهرة الحياة الدنيا فتهلككم كما أهلكت الذين من قبلكم» ولهذا نرى أنه قل من يتنبه لهذا المرض فيربي الشباب، لا سيما الشباب الذين فتح الله عليهم كنوز الأرض وأغرقهم في خيراته تبارك وتعالى وفي بركات الأرض، قلما ينبه إلى هذا، مرض يجب على المسلمين أن يتحصنوا منه، وأن لا يصل إلى قلوبهم «حب الدنيا وكراهة الموت» ، إذاً فهذا مرض لابد من معالجته وتربية الناس على أن يتخلصوا منه.
نعود إلى الشق الأول، وهو الأهم بلا شك، وهو قولنا إنه لابد أن يكون البدء بالتصفية مقرونة بالتربية. وثمة حديث للرسول صلى الله عليه وآله وسلم يشير فيه إلى هذه التصفية، ألا وهو قوله عليه الصلام والسلام:
في هذا الحديث وصف الداء والدواء، إنه يقول في أول الحديث «إذا تبايعتم بالعينة» والعينة بيع من البيوع الربوية، وهي، مع الأسف، قائمة اليوم في بعض البلاد الإسلامية بل العربية، وهي البلدان التي يفترض فيها أن تفهم كتاب الله وسنة رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم خيراً مما يفهمه الأعاجم المسلمون، «العينة» أن يشتري الشاري حاجة من التاجر بثمن أكثر من ثمن النقد، يشتري به إلى أجل أو ما
يسمونه اليوم بالتقسيط، بثمن أكثر من ثمن النقد، والحقيقة أن فاعله ما جاء ليشتري، وإنما جاء ليأخذ الدراهم أو الدنانير ليشتغل بها ولتكون نواة لعمل له.
ونظراً لفساد المجتمع وانفكاك الرباط الديني الذي يربطهم بالإسلام لو كانوا به عاملين، يضطر المحتاج إلى أن يضمن لنفسه مالاً يعمل به عن طريق الاحتيال على ما حرم الله، فيأتي هذا المحتاج إلى التاجر ويشتري منه، على سبيل المثال سيارة بمبلغ عشرين ألفاً مثلاً، تقسيطاً
…
بينما هي في حقيقة الأمر تساوي أقل من ذلك
…
ومكمن المصيبة في الخطوة التالية وهي أن المشتري المحتاج لا يتسلم السيارة وإنما يبيعها «نقداً» للبائع بمبلغ أقل، سبعة عشر ألفاً مثلاً
…
ويقبض هذا الثمن ثم يبقى عليه أن يسدد الأقساط الكبيرة التي اتفق عليها أولاً وذلك على سنة أو ستة أشهر
…
! !
هذا هو بيع العينة وهذا أمر واقع اليوم في بعض البلاد كما ذكرنا آنفاً. يقول الرسول صلى الله عليه وآله وسلم: «إذا تبايعتم بالعينة» أي احتلتم على ما حرم الله فاستحللتموها، وبالإضافة إلى ذلك أخذتم أذناب البقر، ورضيتم بالزرع، وهذا من التكالب على الدنيا وأدى ذلك إلى ترك الجهاد في سبيل الله ماذا تكون عاقبة هؤلاء المسلمين الذين يحتالون على أحكام الله ويستحلون حرمات الله بأدنى الحيل ثم يعرضون عن القيام بواجبهم، كالجهاد في سبيل الله التهاءً منهم بالتكالب على الدنيا وما مصيرهم؟
العاقبة والمصير أن يسلط الله عليهم ذلاً لا ينزعه منهم حتى يرجعوا إلى دينهم. إذاً وبصورة عامة فإن الأمراض التي يبتلى بها المسلمون تتلخص في ناحيتين:
الأولى: معروف ومعلوم من الدين بالضرورة كالجهاد في سبيل الله بسبب
تكالبهم على الدنيا.
الثانية: الاحتيال على ما هو معلوم تحريمه من السنة كبيع العينة باسم أنه بيع وهذا مثال، والأمثلة كثيرة جداً، فهناك حتى اليوم كما نذكر في هذه المناسبة من يفتي بإباحة «نكاح التحليل» الذي قال فيه الرسول عليه السلام:«لعن الله المحلل والمحلل له» . وحجتهم في ذلك التمسك في الظاهر بأن هذه المطلقة ثلاثاً رضيت بهذا الرجل الذي يريد أن يحللها لزوجها الأول، رضيت بدلاً زوجاً، وكذلك ولي الأمر وكلهم متواطئون على أن هذا الزواج إنما قصد به استحلال ما حرم الله ومخالفة قوله تبارك وتعالى:{الطلاق مرتان فإمساك بمعروف أو تسريح بإحسان} ، {فإن طلقها فلا تحل له من بعد حتى تنكح زوجاً غيره} .
فجاؤوا بمن سماه الرسول صلى الله عليه وآله وسلم بالتيس المستعار، وسموه زوجاً؛ وهو ليس بزوج لأنه لا يتزوجها ليحصِّن نفسه بها وتُحَصِّن نفسها به وإنما لتحليل ما حرم الله من أن هذه المرأة لا يجوز لها أن تعود لمُطَلِّقها ثلاثاً حتى تتزوج زوجاً على الطريقة الشرعية نفسها التي تزوجها بها الزوج الأول. وقد أشار إلى ذلك ربنا في قوله تعالى:{وجعل منها زوجها ليسكن إليها} ، {وجعل بينكم مودة ورحمة} فهو يتزوجها ولا يسكن إليها ولا تسكن إليه وإنما يقضي معها تلك الليلة وينزو عليها كما ينزو التيس على العنزة فإذا أصبح الصباح أخلى سبيلها لأنه لم يتزوجها لهذه الغاية الشريفة، وإنما استحلالاً لما حرم الله عز وجل.
فقوله صلى الله عليه وسلم: «إذا تبايعتم بالعينة» ذكره كمثال لما قد يقع فيه المسلمون من استحلال ما حرم الله والاحتيال عليه وليس هكذا صراحة، كما يستحل المسلمون اليوم الربا، ويحتال له بعض المسلمين فتكون مصيبتهم مصيبتين:
أولاً: ارتكاب المحرم، وثانياً: اللَّف والدوران حول استحلاله، وقد ذكرت منذ زمن قريب أن هناك من ألَّف رسالة ذكر فيها متفاخراً بأن الحيلة في أن لا يقع المسلم في الربا أن ينذر لله أنه كلما استقرض من إنسان مالاً أن يعطيه عشرة في المائة شكراً لله، فإن نوى هذا في نفسه أصبح هذا قدراً واجب الوفاء
…
! ! نعم إلى هذا الحد وصل الأمر ببعض المشايخ أن يلفوا ويدوروا حول أحكام الإسلام واستحلال ما حرم الله .. وهذا هو سبيل اليهود لا غير في التعامل الربوي، هو سبيل خطيرة الآثار، بعيدة الخطر
…
لهذا حذر الرسول عليه الصلاة والسلام من أن من يفعل ذلك يسلط الله عليه ذلاً لا ينزعه عنه حتى يرجع إلى دينه. والرجوع إلى الدين قضية العصر، وهو قضية كبرى، ولابد من شيء من التفصيل فيها
…
ذلك أن بعض الكُتَّاب والدعاة يرون-مع الأسف الشديد- أن الدين ذو مفاهيم عدة مختلفة، والاختلاف فيها اختلاف في الفروع لا في الأصول. ولكننا نقول: إن الاختلاف قائم في الأصول كما هو قائم في الفروع
…
وحين أذكر الخلاف فأول من أعني به العلماء من كل الفرق، ومن ثم الخلاف بين عامة المسلمين
…
ولو أننا عدنا إلى هذه الفرق-قديمها وحديثها-لوجدنا الخلاف نفسه قائماً
…
وهو خلاف في الفروع كما هو في الأصول
…
وعلى سبيل المثال لا الحصر أذكر بما تعتقد به طوائف كبيرة من المسلمين في شتى بقاع الإسلام اليوم من أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم هو أول خلق الله، وتحتج هذه الطوائف بحديث لا أصل له
…
في السنة الصحيحة «أول ما خلق الله نور نبيك يا جابر» وتجد عامة أهل العلم، وهم يسمعون هذه الضلالة، بل وهي تعلن من على رؤوس المنابر، تصغي ولا تنكر، وتؤمن بذلك على الرغم من وضوح الضلالة فيه
…
ولا يتصدى لذلك سوى السلفيين الذين نصبوا أنفسهم لإنكار مثل هذه الخرافات، وهذه الضلالات. وهذا الخلاف بين علماء المسلمين-كما هو
ظاهر- خلاف في العقيدة وليس في فرع فقهي
…
ولو أردنا الإطالة فالأمثلة كثيرة ولكني أفضل عدم الخوض
…
وأؤثر أن أنتقل إلى الخلاف القائم بين العلماء الذين يرون أن ما هو قائم في الفروع فحسب وأنه لا يضر
…
ونحن أمام شقين: الخلاف في الفروع، وهذا الخلاف في الفروع لا يضر
…
وكلاهما خاطئ وغير صحيح:
أولاً: الخلاف في الفروع خاطئ: لتوضيح هذا أُذَكِّر بالخلاف القائم بين الحنفية من جهة، وسائر المذاهب الأخرى من جهة ثانية في قضية الإيمان؛ هل يزيد وينقص أو أنه ثابت لا يزيد ولا ينقص؟
إن الخلاف في الحقيقة قائم بين «الماتريدية» من جهة، والأشاعرة وأهل الحديث من جهة أخرى؟ ! !
وعن هذا التساؤل يتفرع تساؤل آخر: هل الإيمان يزيد وينقص أو أنه ثابت لا يزيد ولا ينقص؟ ؟
والحقيقة أن القرآن الكريم يعلن أن الإيمان يزداد: {وليزداد الذين آمنوا إيماناً} وثمة آيات كثيرة في هذا المجال .. وكذلك السنة فهي تزيد دلالات الآيات في زيادة الإيمان وضوحاً، ومن ذلك قول الرسول صلى الله عليه وآله وسلم في الحديث المتفق عليه بين الشيخين:«الإيمان بضع وستون وشعبة أعلاها شهادة أن لا إله إلا الله وأدناها إماطة الأذى عن الطريق» ومع ذلك فإننا نجد الماتريدية اليوم، وهم من الناحية الفرعية حنفية، يصرحون بأن الإيمان لا يزيد ولا ينقص، بل يذكرون عن إمامهم بأنه كان يقول:«إيماني كإيمان جبريل عليه السلام» وهذا يعني أن إيمان أفجر الناس قد يكون من يصرح بذلك فيهم بأنه يساوي إيمان جبريل عليه السلام، وهذا الكلام-وإن كان خطأ- منسجم مع اعتقادهم في أن
الإيمان لا يقبل زيادة ولا نقصاناً. وهم يقولون: إذا قلنا بأن الإيمان يزيد فهو ينقص، وإذا نقص الإيمان فذلك مما يخرج صاحبه عن الإيمان
…
وهذا الكلام ينسجم تماماً مع ما يعتقدونه من أن الإيمان اعتقاد فقط.
أما اعتقاد أهل السنة من الأشاعرة وأهل الحديث في أن الإيمان يزيد وينقص بحسب العمل الصالح وزيادته بالطاعة ونقصانه بالمعصية فهذا من الخلاف الذي حدث قديماً واستمر إلى اليوم، ثم نشأ من وراء ذلك خلاف عقائدي آخر، ارتبط به كلام عملي ألا وهو: هل يقول المسلم أنا مؤمن إن شاء الله أو يخضع بقوله أنا مؤمن ولا يستثني؟ من قال إن الإيمان يزيد وينقص يقول أنا مؤمن إن شاء الله لأنه يخشى على نفسه أن يكون مقصراً في أعماله الصالحة. ومن قال إن الإيمان لا يزيد ولا ينقص قطع بقوله: أنا مؤمن، ولا يقول إن شاء الله، إذ أنه إذا قال: إن شاء الله فمعنى ذلك عنده أنه شك في اعتقاده الذي يستقر في قلبه.
وبناءً على ذلك الخلاف نشأ خلاف آخر وهو هل يجوز الاستثناء أو لا يجوز؟ ولم يقف الخلاف في هذه المسألة الفقهية عند جواز القول باستثناء أو عدمه، بل تعداه إلى مسألة خطيرة مَزَّقت المسلمين شر ممزق، حتى أدى الأمر إلى أن يشبه المسلم بالكافر. فقد جاء في بعض كتب الحنفية سؤال: هل يجوز للمرأة الحنفية أن تتزوج من الرجل الشافعي؟ وكان الجواب بالرفض لأن الحنفية يشكون في إيمان الشافعيين. وقد عمل المسلمون بهذه الفتوى في بلاد ما وراء النهرين سنين طوالاً لا يبيح أهلها لبناتهم أن يتزوجوا من الرجل الشافعي.
وظل الأمر كذلك إلى أن جاء رجل من كبار علماء الحنفية، يعرف بمفتي الثقلين، وهو صاحب التفسير المعروف باسمه وهو تفسير أبو السعود، الذي
واجه القضية وأفتى فيها بجواز أن تتزوج الحنفية من الشافعي ولكن بتعليل لا أدري ماذا أقول فيه.
لقد أجاز أبو السعود ذاك زواج الحنفي من الشافعية تنزيلاً لها منزلة أهل الكتاب وقياساً على ما تعامل به المرأة اليهودية أو النصرانية! ! فأعجب يا أخي المسلم
…
أنه يجيز هذا ولكنه لا يجيز العكس
…
لقد حصل هذا في بلاد المسلمين وما يزال يحدث إلى اليوم، فهذا رجل من عامة الناس، سمعته بنفسي يبدي إعجابه، وهو الحنفي المذهب، بأحد خطباء مسجد بني أمية بدمشق الشام ويقول: لولا أنه شافعي لزوجته ابنتي! وأرجو أن لا يتسرع أحد الغافلين ويتهمني بالتجني ويقول: إنما هذه خلافات انقضت ومضى عهدها، فإلى هذا وأمثاله قدمت هذا المثل الذي عرفته بنفسي دليلاً على استمرار هذه الخلافات. هذا على مستوى العرب فإذا انتقلت إلى المسلمين الأعاجم لوجدت ما هو أمر وأقسى من هذه الخلافات العجيبة.
ثانياً: الخلاف في الفروع لا يضر:
أما قولهم الخلاف في الفروع لا يضر، فنقول، الضرر واضح في كون الخلاف في الأصول، كما أسلفت، وبناءً على هذا فإن الضرر ينتقل إلى الفروع
…
ويكفي ضرراً أن هذا الخلاف يسبب تفرق الأمة وتمزقها على ما وضحنا.
ونتساءل الآن: ما هو الحل؟
الحل وارد في ختام حديث الرسول صلى الله عليه وآله وسلم الذي أوردته، وهو «حتى ترجعوا إلى دينكم» .. الحل يتمثل في العودة الصحيحة إلى الإسلام
…
الإسلام بالمفهوم الصحيح الذي كان عليه رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم وصحابته. وتحديداً للإجابة عن السؤال الوارد في بداية هذا الرد أعود فأقول: لابد أن نبدأ بالتصفية والتربية،
وإن أي حركة لا تقوم على هذا الأساس لا فائدة منها إطلاقاً.
ولكي ندلل على صحة ما نذهب إليه في هذا المنهج، نعود إلى كتاب الله الكريم، ففيه آية واحدة تدل على خطأ كل من لا يتفق معنا على أن البداية تكون بالتصفية ومن ثَمَّ التربية.
يقول تعالى: {إن تنصروا الله ينصركم} هذه هي الآية المقصودة، وهي التي أجمع المفسرون على أن معنى نصر الله إنما هو العمل بأحكامه، ومن ذلك أيضاً، الإيمان بالغيب الذي جعله سبحانه وتعالى الشرط الأول للمؤمنين {الذين يؤمنون بالغيب ويقيمون الصلاة}
…
فإذا كان نصر الله لا يتحقق إلا بإقامة أحكامه فكيف يمكننا أن ندخل في الجهاد عملياً، ونحن لم ننصر الله وفق ما اتفق عليه المفسرون؟ !
كيف ندخل الجهاد وعقيدتنا خراب يباب؟ كيف نجاهد وأخلاقنا تتماشى مع الفساد؟ ! ! لابد إذاً، قبل الشروع بالجهاد، من تصحيح العقيدة، وتربية النفس
…
وأنا أعلم أن الأمر لن يسلم من المعارضة، لمنهجنا في التصفية والتربية، فثمة من سيقول: إن القيام بالتصفية والتربية أمر يحتاج إلى سنين طويلة .. ولكني أقول: ليس هذا هو الهام في الأمر، بل الهام أن ننفذ ما يأمرنا به ديننا وربنا العظيم
…
والهام أن نبدأ بمعرفة ديننا أولاً ولا يهم بعد ذلك أن يطول الطريق أو يقصر، إنني أتوجه بكلامي إلى رجال الدعوة المسلمين، وإلى العلماء والموجهين وأدعوهم إلى أن يكونوا على علم تام بالإسلام الصحيح، وعلى محاربة لكل غفلة أو تغافل، ولكل خلاف أو تنازع {فلا تنازعوا فتفشلوا وتذهب ريحكم} وحين نقضي على هذا التنازع وعلى هذه الغفلة، ونحل محلهما الصحوة والائتلاف والاتفاق نتجه إلى تحقيق القوة المادية {وأعدوا لهم ما استطعتم من قوة ومن
رباط الخيل ترهبون به عدو الله وعدوكم} فتحقيق القوة المادية أمر بديهي، إذ لابد من بناء المصانع ومصانع الأسلحة وغيرها
…
ولكن لابد قبل كل شيء من العودة الصحيحة إلى الدين كما كان عليه الرسول صلى الله عليه وآله وسلم وأصحابه في العقيدة، وفي العبادة، وفي السلوك، وفي كل ما يتعلق بأمور الشريعة
…
ولا تكاد تجد أحداً في المسلمين يقوم بهذا سوى السلفيين فهم الذين يضعون النقط على الحروف، وهم وحدهم ينصرون الله بما أمرهم به من تصفية وتربية توجد الإنسان المسلم الصحيح
…
وهم وحدهم الذين يمثلون الفرقة الناجية من النار من الفرق الثلاث والسبعين التي سئل عنها الرسول، وقال: هي في النار
…
!
ولهذا أعود فأقول: ليس من طريق للخلاص سوى الكتاب والسنة، وسوى التصفية والتربية في سبيلهما
…
وهذا يستدعي المعرفة بعلم الحديث وتمييز الصحيح من الضعيف كي لا نبني أحكاماً خاطئة كتلك التي وقع بها المسلمون بكثرة بسبب اعتمادهم على الأحاديث الضعيفة، ومن ذلك مثلاً ما تقع به بعض الدول الإسلامية حين تطبق قانوناً إسلامياً، كما تسميه، ولكنه ليس مدعوماً بالسنة المحمدية، فتقع في بعض الأخطاء القانونية والجزائية ومن ذلك أن عقوبة المسلم تكون القتل حين يقتل ذمياً ينضوي في لواء هذه الدولة المسلمة إذا كان القتل عمداً، وككون دية القتيل الذمي هي دية المسلم نفسها إن قتله المسلم خطأ
…
وهذا خلاف ما جرى في عهد الرسول صلى الله عليه وآله وسلم فكيف، بعد هذا، يمكن أن نقيم الدولة ونحن في ظل هذا التخبط وهذه الأخطاء، وهذا البعد عن الدين؟ ؟ ! !
هذا على صعيد العلم، فإذا انتقلنا إلى التربية وجدنا أخطاء قاتلة؛ فأخلاق المسلمين في التربية خراب يباب ولا بد من التصفية والتربية والعودة الصحيحة إلى الإسلام، وكم يعجبني في هذا المقام قول أحد الدعاة الإسلاميين، من غير
السلفيين، لكن أصحابه لا يعملون بهذا القول يقول:«أقيموا دولة الإسلام في قلوبكم تقم دولته في أرضكم»
…
إن أكثر الدعاة المسلمين يخطئون حين يغفلون مبدأنا هذا، وحين يقولون: إن الوقت ليس وقت التصفية والتربية وإنما هو وقت التكتل والتجمع
…
إذ كيف يتحقق التكتل والخلاف قائم في الأصول وفي الفروع
…
إنه الضعف والتخلف الذي استشرى في المسلمين
…
ودواؤه الوحيد يتلخص فيما أسلفت في العودة السليمة إلى الإسلام الصحيح أو في تطبيق منهجنا في التصفية والتربية ولعل في هذا القدر كفاية والحمد لله رب العالمين.
«حياة الألباني وآثاره وثناء العلماء عليه» (1/ 377 - 391)