الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
حول حديث: (يوشك أن تداعى
عليكم الأمم
…
) (1)
[السؤال]:
ورد المجلة سؤال من أحد الأساتذة المحامين في بغداد يرجو فيه التحقيق من قبل الأستاذ ناصر الدين الألباني في صحة الحديث المشهور: «تتداعى عليكم الأمم
…
» ويقول:
«إنني أرتاب في صحة هذا الحديث لسببين:
الأول: أنه يخبر عن الغيب، ولا يعلم الغيب غير الله.
والثاني: يهدف إلى حمل الناس على الرضا بما نحن فيه والبقاء عليه وعدم العمل على تغييره».
ثم يستنتج من ذلك أنه:
«لابد أن يكون الحديث من وضع عدو للإسلام ولدينهم» .
[الجواب]:
وجواب الأستاذ الألباني: إن الحديث صحيح بلا ريب، وهو يخبر عن أمر غيبي بإطلاع الله تبارك وتعالى له عليه، وهذا أمر سائغ جائز لا غبار عليه بل هو
(1)«مجلة التمدن الإسلامي» (24/ 421 - 426).
من مستلزمات النبوة والرسالة، والحديث يهدف إلى خلاف ما ظنه السائل، هذا مجمل الجواب، وإليك التفصيل:
1 -
صحة الحديث:
لا يشك حديثي في صحة هذا الحديث البتة، لوروده من طرق متباينة وأسانيد كثيرة، عن صحابيين جليلين:
الأول: ثوبان مولى رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم.
والثاني: أبو هريرة-رضي الله تعالى عنه- الذي حفظ لنا ما لم يحفظه غيره من الصحابة-رضوان الله عليهم- من سنة النبي صلى الله عليه وآله وسلم فجزاه الله عن المسلمين خيراً.
أما ثوبان-رضي الله عنه فله عنه ثلاث طرق:
1 -
عن أبي عبد السلام، عن ثوبان، قال قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم:«يوشك الأمم أن تداعى عليكم كما تداعى الأكلة إلى قصعتها» ، فقال قائل: ومن قلة نحن يومئذ؟ قال: «بل أنتم يومئذ كثير، ولكنكم غثاء كغثاء السيل، ولينزعن الله من صدور عدوكم المهابة منكم وليقذفن في قلوبكم الوهن» ، فقال قائل: يا رسول الله وما الوهن؟ قال: «حب الدنيا، وكراهية الموت» .
أخرجه أبو داود في سننه (2/ 210) والروياني في مسنده (ج 25/ 134/2) من طريق عبد الرحمن بن يزيد بن جابر عنه، ورجاله ثقات كلهم غير أبي عبد السلام هذا فهو مجهول، لكنه لم يتفرد به بل توبع-كما سيأتي- فالحديث صحيح.
2 -
عن أبي أسماء الرحبي، عن ثوبان مثله.
أخرجه أحمد (5/ 287) ومحمد بن محمد بن مخلد البزار في «حديث ابن
السمان» (ق 182 - 183) عن المبارك بن فضالة، حدثنا مرزوق أبو عبد الله الحمصي، أنا أبو أسماء الرحبي به، وهذا إسناد جيد رجاله كلهم ثقات، وإنما يخشى من المبارك التدليس، وقد صرح بالتحديث (1) فأمنا تدليسه.
3 -
عن عمرو بن عبيد التميمي العبسي، عن ثوبان مختصراً.
أخرجه الطيالسي في مسنده (ص 123)، (2/ 211) من ترتيبه للشيخ البنا وسنده ضعيف لكنه قوي بما قبله.
فالطريق الثاني حجة وحده لقوة سنده، وبانضمام الطريقين الآخرين إليه يصير الحديث صحيحاً لا شك فيه.
وأما حديث أبي هريرة فأخرجه أحمد في المسند أيضاً (2/ 259) عن شبيل بن عوف، عنه، قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم يقول لثوبان:
«كيف أنت يا ثوبان إذا تداعت عليكم الأمم
…
» الحديث نحوه وسنده لا بأس به في الشواهد، وقال الهيثمي في «مجمع الزوائد» (7/ 287):«رواه أحمد والطبراني في الأوسط بنحوه، وإسناد أحمد جيد! » .
وجملة القول: إن الحديث صحيح بطرقه وشاهده، فلا مجال لرده من جهة إسناده، فوجب قبوله والتصديق به.
2 -
إخباره صلى الله عليه وآله وسلم عن الغيب:
من المستغرب جداً عندنا الشك في صحة الحديث بدعوى «أنه يخبر عن الغيب، ولا يعلم الغيب إلا الله» ومن المؤسف حقاً أن تروج هذه الدعوى عند
(1) في الأصول «بالتدليس» والصواب ما أثبته كما هو واضح. (طالب).
كثير من شبابنا المسلم فقد سمعتها من بعضهم كثيراً، وهي دعوى مباينة للإسلام تمام المباينة، ذلك لأنها قائمة على أساس أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم بشر كسائر البشر الذين لا صلة لهم بالسماء، ولا ينزل عليهم الوحي من الله تبارك وتعالى.
3 -
هدف الحديث:
عرفنا مما سبق أن الحديث المسؤول عنه صحيح الإسناد عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم، وأن ما فيه من الإخبار عن أمر مغيب إنما هو بوحي من الله تعالى إليه صلى الله عليه وآله وسلم، فإذا تبين ذلك استحال أن يكون الهدف منه ما توهمه السائل الفاضل من «حمل الناس على الرضا بما نحن فيه
…
» بل الغاية منه عكس ذلك تماماً، وهو تحذيرهم من السبب الذي كان العامل على تكالب الأمم وهجومهم علينا، ألا وهو «حب الدنيا وكراهية الموت» فإن هذا الحب والكراهية هو الذي يستلزم الرضا بالذل والاستكانة إليه والرغبة عن الجهاد في سبيل الله على اختلاف أنواعه من الجهاد بالنفس والمال واللسان وغير ذلك، وهذا هو حال غالب المسلمين اليوم مع الأسف الشديد.
فالحديث يشير إلى أن الخلاص مما نحن فيه يكون بنبذ هذا العامل والأخذ بأسباب النجاح والفلاح في الدنيا والآخرة، حتى يعودوا كما كان أسلافهم «يحبون الموت كما يحب أعداؤهم الحياة» .
وما أشار إليه هذا الحديث قد صرح به حديث آخر فقال صلى الله عليه وآله وسلم: «إذا تبايعتم بالعينة (1)، وأخذتم أذناب البقر، ورضيتم بالزرع، وتركتم الجهاد؛ سلط الله
(1) هي أن يبيع من رجل سلعة بثمن معلوم إلى أجل مسمى ثم يشتريها منه نقداً بأقل من الثمن الذي باعها به.
عليكم ذلاً لا ينزعه حتى ترجعوا إلى دينكم» (1).
فتأمل كيف اتفق صريح قوله في هذا الحديث «لا ينزعه حتى ترجعوا إلى دينكم» مع ما أشار إليه الحديث الأول من هذا المعنى الذي دل عليه كتاب الله تعالى أيضاً، وهو قوله:{إِنَّ اللَّهَ لا يُغَيِّرُ مَا بِقَوْمٍ حَتَّى يُغَيِّرُوا مَا بِأَنفُسِهِمْ} [الرعد: 11].
فثبت أن هدف الحديث إنما هو تحذير المسلمين من الاستمرار في «حب الدنيا وكراهية الموت» ، ويا له من هدف عظيم لو أن المسلمين تنبهوا له وعملوا بمقتضاه لصاروا سادة الدنيا، ولما رفرفت على أرضهم راية الكفار، ولكن لابد من هذا الليل أن ينجلي، ليتحقق ما أخبرنا به رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم في أحاديث كثيرة، من أن الإسلام سيعم الدنيا كلها، فقال عليه الصلاة والسلام:
(1) أخرجه أبو داود (2/ 100) وأحمد (رقم 4825، 5007، 2562) والدولابي في «الكنى» (52) والبيهقي (5/ 316) من طرق عن ابن عمر، صحح أحدها ابن القطان، وحسن آخر شيخ الإسلام ابن تيمية في «الفتاوى» (3/ 32، 278). [منه]
(2)
أخرجه أحمد (4/ 103) والطبراني في «المعجم الكبير» (1/ 126/2) والحاكم (4/ 430) وابن بشران في «الأمالي» (60/ 1) وابن منده في «كتاب الإيمان» (1/ 102) والحافظ عبد الغني المقدسي في «ذكر الإسلام» (2/ 126) من طريق أحمد عن تميم الداري مرفوعاً، وسنده صحيح، وصححه الحاكم أيضاً ووافقه الذهبي وقال المقدسي:«حديث حسن صحيح» ، وله شاهدان: أحدهما عن المقداد بن الأسود أخرجه ابن منده والحاكم وسنده صحيح، والآخر عن أبي ثعلبة الخشني أخرجه الحاكم (1/ 488). [منه]
ومصداق هذا الحديث من كتاب الله تعالى قوله عز وجل: {يُرِيدُونَ أَنْ يُطْفِئُوا نُورَ اللَّهِ بِأَفْوَاهِهِمْ وَيَأْبَى اللَّهُ إِلَاّ أَنْ يُتِمَّ نُورَهُ وَلَوْ كَرِهَ الْكَافِرُونَ* هُوَ الَّذِي أَرْسَلَ رَسُولَهُ بِالْهُدَى وَدِينِ الْحَقِّ لِيُظْهِرَهُ عَلَى الدِّينِ كُلِّهِ وَلَوْ كَرِهَ الْمُشْرِكُونَ} [التوبة: 32 - 33].
وصدق الله العظيم إذ يقول: {وَلَتَعْلَمُنَّ نَبَأَهُ بَعْدَ حِينٍ} [ص: 88].
«مقالات الألباني» (157 - 163)