الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
باب منه
فهذا سؤال لشيخنا العلامة الشيخ ناصر يقول السائل: ما هو حكم الشرع في تعدد هذه الجماعات والأحزاب والتنظيمات الإسلامية مع أنها مختلفة فيما بينها في مناهجها وأساليبها ودعواتها وعقائدها والأسس التي قامت عليها وخاصة أن جماعة الحق واحدة كما دل الحديث على ذلك.
الشيخ: لنا كلمات كثيرة وعديدة حول الجواب عن هذا السؤال، ولذلك فنوجز الكلام فيه.
فنقول: لا يخفى على كل مسلم عارف بالكتاب والسنة وما كان عليه سلفنا الصالح رضي الله عنهم، أن التحزب والتكتل لجماعات مختلفة الأفكار أولاً والمناهج والأساليب ثانياً ليس من الإسلام في شيء، بل ذلك مما نهى عنه ربنا عز وجل في أكثر من آية في القرآن الكريم منها قوله عز وجل:{وَلا تَكُونُوا مِنَ الْمُشْرِكِينَ * مِنَ الَّذِينَ فَرَّقُوا دِينَهُمْ وَكَانُوا شِيَعًا كُلُّ حِزْبٍ بِمَا لَدَيْهِمْ فَرِحُونَ} [الروم: 31 - 32].
فربنا عز وجل يقول: {وَلَوْ شَاءَ رَبُّكَ لَجَعَلَ النَّاسَ أُمَّةً وَاحِدَةً وَلا يَزَالُونَ مُخْتَلِفِينَ * إِلَّا مَنْ رَحِمَ رَبُّكَ} [هود: 118 - 119]، فالله تبارك وتعالى استثنى من هذا الخلاف الذي لا بد منه كونياً وليس شرعياً استثنى من هذا الخلاف الطائفة المرحومة حين قال:{إِلَّا مَنْ رَحِمَ رَبُّكَ} .
ولا شك ولا ريب أن أي جماعة يريدون بحرص بالغ وإخلاص لله عز وجل في أن يكونوا من الأمة المرحومة المستثناة من هذا الخلاف الكوني.
إن ذلك لا سبيل للوصول إليه ولتحقيقه عملياً في المجتمع الإسلامي إلا بالرجوع إلى الكتاب وإلى سنة الرسول عليه الصلاة والسلام، وإلى ما كان عليه سلفنا الصالح رضي الله عنهم، ولقد أوضح رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم المنهج والطريق السليم في غير ما حديث صحيح عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم:«أنه خط ذات يوم على الأرض خطاً مستقيماً، وخط حوله خطوطاً قصيرة عن جانبي الخط المستقيم، ثم قرأ قوله تبارك وتعالى: {وَأَنَّ هَذَا صِرَاطِي مُسْتَقِيمًا فَاتَّبِعُوهُ وَلا تَتَّبِعُوا السُّبُلَ فَتَفَرَّقَ بِكُمْ عَنْ سَبِيلِهِ} [الأنعام: 153]، ومر بإصبعه على الخط المستقيم وقال: هذا صراط الله، وهذه طرق عن جوانب الخط المستقيم، قال عليه السلام: وعلى رأس كل طريق منها شيطان يدعو الناس إليه» .
لا شك أن هذه الطرق القصيرة هي التي تمثل الأحزاب والجماعات العديدة، ولذلك فالواجب على كل مسلم حريص على أن يكون حقاً من الفرقة الناجية أن ينطلق سالكاً الطريق المستقيم، وأن لا يأخذ يميناً ويساراً، وليس هناك حزب ناجح إلا حزب الله تبارك وتعالى الذي حدثنا عنه القرآن الكريم:{فَإِنَّ حِزْبَ اللَّهِ هُمُ الْغَالِبُونَ} [المائدة: 56].
فإذاً: كل حزب ليس هو حزب الله فإنما هو من حزب الشيطان وليس من حزب الرحمن، ولا شك ولا ريب أن السلوك على الصراط المستقيم يتطلب معرفة هذا الصراط المستقيم معرفة صحيحة ولا يكون ذلك بمجرد التكتل والتحزب الأعمى على كلمة هي كلمة الإسلام الحق، لكنهم لا يفقهون من الإسلام إلا شيئاً قليلاً، فلا يكون التحزب الصحيح الفالح إلا بمعرفة هذا
الإسلام كما أنزله الله تبارك وتعالى على قلب محمد عليه الصلاة والسلام، لهذا كان من علامة الفرقة الناجية التي صرح النبي صلى الله عليه وآله وسلم بها حينما سئل عنها، فقال:«هي ما أنا عليه وأصحابي» .
فإذاً: هذا الحديث يشعر الباحث الحريص على معرفة صراط الله المستقيم أنه يجب أن يكون على علم بأمرين اثنين هامين جداً جداً، الأول ما كان عليه الرسول صلى الله عليه وآله وسلم، والآخر ما كان عليه أصحابه عليه الصلاة والسلام؛ ذلك لأن الصحابة الكرام هم الذين نقلوا إلينا أولاً هديه صلى الله عليه وآله وسلم وسنته، وثانياً: هم الذين أحسنوا تطبيق هذه السنة تطبيقاً عملياً، فلا يمكننا والحالة هذه أن نعرف معرفة صحيحة سنة النبي صلى الله عليه وآله وسلم إلا بطريق أصحابه.
ومعلوم لدى أهل العلم أن السنة تنقسم إلى سنة قولية وفعلية وتقريرية، فالسنة القولية واضح جداً تعريفها هو ما نقله الصحابي من قوله عليه السلام، والسنة الفعلية ما نقلوه عنه صلى الله عليه وآله وسلم فعلاً، أما السنة التقريرية فهو ما نقلوه عن بعضهم وليس عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم، لكن رسول الله رأى ذلك الفعل وسكت عنه، هذا السكوت ليس من قوله عليه السلام وليس من فعله، وإنما من إقراره.
ومن هنا ينبعث في نفسي أن ألفت النظر إلى أهمية هذه الضميمة التي نحن ندندن حولها في مثل هذه المناسبة، وهي أنه لا يكفي لأي جماعة إسلامية تنتمي بحق إلى العمل بالكتاب والسنة، لا يكفيهم أن يقتصروا على فهم الإسلام بناء على الكتاب والسنة فقط، بل لا بد أيضاً من معرفة تطبيق أصحاب الرسول صلى الله عليه وآله وسلم لهذه السنة.
وهناك أمثلة كثيرة وكثيرة جداً يمكن بها تقريب أهمية هذه الضميمة، وقد ذكرت في بعض المحاضرات أو الأجوبة نماذج منها، والآن يحضرني مثال آخر
ألا وهو ما جاء في صحيح البخاري وسنن أبي داود وغيرهما من أكثر من طريق واحد أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم لما أمر أصحابه أن يسووا الصفوف إذا قاموا إلى الصلاة، قال النعمان بن بشير وغيره: فكان أحدنا يطبق قدمه بقدم صاحبه، ومنكبه بمنكب صاحبه.
هذا فعل وقع من الصحابة رضي الله تعالى عنهم تطبيقاً منهم لأمر الرسول صلى الله عليه وآله وسلم بتسوية الصفوف، ومما لا شك فيه ولا ريب فيه أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم لا يمكن أن يخفى عليه ما فعله أصحابه من خلفه، من ورائه وهم يصلون مقتدين به، لا يمكن أن يخفى هذا الرص الذي طبقه أصحابه صلى الله عليه وآله وسلم تنفيذاً لأمره بتسوية الصفوف والتراص في الصفوف، ذلك لأن من خصوصياته عليه السلام ومعجزاته أنه كان وهو في صلاته يرى من خلفه كما يرى من أمامه، فلو أن هذه التسوية لهذا التراص رص الأقدام ورص المناكب لم يكن مشروعاً لكان تكلفاً، ولو كان تكلفاً لنهاه الرسول عليه الصلاة السلام عنه؛ لأنه هناك حديثاً صحيحاً أنه عليه السلام نهى عن التكلف، وإن قيل إنه من الممكن أن يخفى ذلك على النبي صلى الله عليه وآله وسلم فأنا أقول باب الإمكان واسع جداً، لكن ما نحن فيه ليس من هذا الباب لسببين اثنين ذكرت أحدهما آنفاً وهو أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم كان يرى من خلفه كما يرى من أمامه، والسبب الثاني وهو الأهم أنه إن فرض أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم لم يشهد هذا الأمر الذي فعله أصحابه خلفه في الصلاة، فرب الرسول صلى الله عليه وآله وسلم لا تخفى عليه خافية في الأرض ولا في السماء، فما قلناه آنفاً عن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم وليس له من الوظيفة إلا التبليغ عن الله عز وجل، فبالأولى والأحرى أن يقال ذلك عن رب الرسول تبارك وتعالى، فيقال: إذا كان ربنا عز وجل كما أشرنا إليه آنفاً اقتباساً من القرآن لا تخفى عليه خافية في الأرض ولا في السماء، وكان الله عز وجل لا يريد أن يشرع لعباده المؤمنين هذا التراص في الصفوف، لأمر نبيه صلى الله عليه وآله وسلم أن ينهى عن هذا التكلف.
إذاً: لا ينبغي أن يتصور المسلم سكوته عليه السلام عن شيء إلا وربنا عز وجل مطلع عليه، وبالتالي إقرار الله لنبيه على هذا هو تشريع.
من هنا نتوصل إلى الإشارة إلى بعض المسائل التي جرى الخلاف فيها قديماً في بعض الأحكام الفقهية بين الحنفية والشافعية، حيث إن أحد الفريقين يحتج بما وقع في عهد النبي صلى الله عليه وآله وسلم فيرد الآخر بأن هذا الذي وقع ليس فيه بيان أن النبي عليه الصلاة السلام اطلع عليه حتى يقول أنه اطلع فأقره.
بما سبق من الكلام يرد على هذا الرد من بعض المذهبيين، أضرب لكم مثلاً أو أكثر.
جاء في صحيح البخاري أن معاذ بن جبل رضي الله تعالى عنه كان يصلي صلاة العشاء الآخرة وراء النبي صلى الله عليه وآله وسلم في مسجده ثم ينطلق إلى قبيلته فيصلي بهم الصلاة نفسها، يقول راوي الحديث وهو جابر بن عبد الله رضي الله تعالى عنه، هي له نافلة وهي لهم فريضة.
فاستدل بعض الأئمة المتقدمين بهذا الحديث على جواز صلاة المفترض وراء المتنفل، فرد ذلك بعض المذهبيين بأن هذا لا حجة فيه؛ لأنه ليس فيه أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم كان يعلم أن معاذاً بعد أن يصلي خلفه يعود إلى قبيلته فيصلي بهم نفس الصلاة هي له نافلة وهي لهم فريضة.
أظنكم الآن تعرفون الجواب؟ لأننا نقول إن كان رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم لا يعلم حقيقة أن معاذاً كان يعيد هذه الصلاة تنفلاً فربنا عز وجل كما قلنا آنفاً يعلم السر وأخفى، فلو كان فعل معاذ غير مشروع لجاء الحكم من السماء في بيان عدم شرعيته.
ومثال آخر ونقتصر به وأُعَدِّد الأمثلة لأهمية هذه الملاحظة والتي قلما نجدها
فصيحة مبينة في كتب العلماء، جاء في مسند الإمام أحمد ومستدرك الحاكم وسنن البيهقي وغيرها من كتب السنة عن جابر أيضاً رضي الله تعالى عنه قال: غزونا مع رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم غزوة أصبنا فيها امرأة من المشركين، أي: قتلناها ..
وهنا جملة معترضة أرجو أن تكون قصيرة، لا يخالف هذا الحديث الحديث الذي فيه أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم نهى عن قتل النساء والصبيان؛ لأن النهي محله في مكان وهذا القتل الذي ذكر في حديث جابر له محل آخر.
النهي ينصب على قتل النساء اللاتي لم يشتركن في قتال المسلمين، والقرينة على ذلك والصبيان، كان الصبيان ليسوا من المقاتلة، وعلى هذا فقول جابر رضي الله تعالى عنه:«أصبنا فيها امرأة من المشركين» ، يعني: أنها كانت من المقاتلة.
قال: وكان زوجها غائباً، فلما رجع وأخبر الخبر حلف أن لا يدخل القرية إلا بعد أن يثأر لها ثأراً من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، فتتبع آثار الصحابة، ومعلوم أن العرب كانت عندهم هذه المعرفة تتبع الآثار التي بها وصلوا إلى اكتشاف مأوى الرسول في الغار يوم عزم على الهجرة من مكة إلى المدينة، فالأثر دلهم أن الرسول عليه السلام وصل إلى هذا المكان؛ لأنه انقطع الأثر، لكنهم أعمى الله بصرهم فلم يروا الرسول عليه السلام وصاحبه في الغار بينما صاحبه رأى أقدام المشركين فخشي ليس على نفسه، خشي على نبيه فقال:{لا تَحْزَنْ إِنَّ اللَّهَ مَعَنَا} [التوبة: 40]، وهنا لا بد من التذكير بأن ما يذكر في بعض كتب الحديث وفي كتب السيرة أن الذي صرف كفار قريش بعد أن هداهم تتبعهم للأثر إلى أن المطلوبين هما في الغار، زعموا بأنهم رأوا الحمامة قد عششت وباضت والعنكبوت أيضاً نسج خيوطه، فقالوا: لا يمكن أن يكون هنا في الغار أحد،
فانصرفوا.
هذا لم يصح على طريق أهل الحديث، لم يصح أولاً، ثم هناك رواية قوية بأن الله عز وجل أمر ملكاً بأن يغطي بجناحه فم الغار، ولذلك لم يروهما.
فالشاهد أن ذلك المشرك تتبع آثار الجيش الغازي لتلك القرية فوصل إلى المكان الذي كان قد أدركهم المساء، فنزلوا في واد وحسب النظام العسكري النبوي قال عليه الصلاة والسلام لأصحابه: من يكلؤنا الليلة، فقام رجلان من الأنصار الشابان أحدهما من الأوس والآخر من الخزرج، فقالا: نحن يا رسول الله. قال لهما: كونا على فم الشعب، فانطلقا والمشرك يراقبهما يريد أن يستغل الفرصة للوفاء بنذره، أن يأخذ بثأر زوجه، ولما وصل إلى المكان الذي هو موضع حراسة الجيش النائم، اتفق على أن يتناوبا الحراسة، هذا يحرس نصف الليل بينما الآخر ينام ثم يتبادلان، ثم بدا للحارس الذي قام منتصباً، بدا له أن يجمع بين عبادتين في وقت واحد، عبادة الحراسة وعبادة الصلاة في الليل الهادي فقام يصلي، وهنا اغتنم الفرصة المشرك الذي كان مختبئاً وراء صخرة، فرماه بحربه فوضعها في ساقه، فما كان منه إلا أن رماها أرضاً والدماء تسيل منه، ولما رأى المشرك أن هدفه لا يزال منتصباً وهذا يشعر بأنه لا يزال حياً رماه بالحربة الثانية فوضعها في ساقه، وهكذا ثلاث حراب ويصيب الهدف، ومن دقة تعبير جابر يقول: وضعها والوضع عادة يكون باليد، لكن هذا كناية لدقة الإصابة للهدف، فكأنه يضع الحربة وضعاً بيده، ومع ذلك فذلك الصحابي الجليل مستمر في صلاته لا يقطعها، والدماء تسيل منه حتى صلى ركعتين.
ثم إما أنه أيقظ صاحبه وإما أنه استيقظ، فلما رأى ما بصاحبه من الدماء هاله الأمر وسأله عن السبب، فقال: والذي نفسي بيده لقد كنت في سورة أقرؤها
ولولا أني خشيت أن أضيع ثغراً وضعني رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم على حراسته لكانت نفسي فيها.
أي: تذكر وهو يصلي بأنه في وظيفة أمره الرسول صلى الله عليه وآله وسلم أن يقوم بها وهي حراسة الجيش النائم، فلو أنه استمر في الصلاة وقد راق له الاستمرار في هذه الصلاة لحلاوة المناجاة بين يدي الله عز وجل، لولا أنه خشي أنه إن استمر في الصلاة واستمر المشرك في رميه أن يكون هلاكه في هذه الصلاة، فتضيع الوظيفة فربما يهاجم العدو المسلمين، ولذلك هو قنع من الصلاة بركعتين، ولم يقنع بذلك خوفاً من الهلاك، لا، وإنما خوفاً من هلاك الصحابة فيما إذا هو مات وغدر بهم العدو.
إلى هنا تنتهي القصة، والشاهد منها أن بعض الأئمة يحتجون بحق بأن الدم لا ينقض الوضوء؛ لأنه لو كان ناقضاً لما استمر هذا الرجل في الصلاة، فيرد المخالف ويقول: هذا تصرف شخصي منه.
يقول للمردود عليهم: نعم، لكن هذا هو من أصحاب الرسول عليه السلام، ويجيبون فيقولون: ليس في الحديث أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم اطلع على ذلك، هنا الشاهد.
نحن نجيب بجوابين اثنين: على نحو ما سبق من الجواب عن قصة معاذ رضي الله عنه، ولكن هنا في شيء أقوى في أحد الجوابين مما سبق، وذلك هذا موظف من رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم بوظيفة فيصاب بهذه الجراحات وفي حالة من العبادة والصفاء النفسي، هل يمكن هذا أن يخفى على قائد الجيش، لو كان قائداً عادياً، فكيف وهو رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، مستبعد جداً جداً أن يخفى وضع هذا الإنسان على رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم.
إذاً: الراجح أنه عليه السلام اطلع على واقع هذا الإنسان، وبناء على ذلك لو
كان خروج الدم ناقضاً لبين ذلك، لما هو معلوم من أصول الفقه أنه لا يجوز تأخير البيان عن وقت الحاجة، فإن استمر المخالف في المكابرة وفي ادعاء لا ليس هناك نص أن الرسول صلى الله عليه وآله وسلم اطلع، نقول له حسبك أن رب الرسول صلى الله عليه وآله وسلم اطلع، وهذا لا يمكن إنكاره، فإذ لم ينزل شرع يبين أن خروج الدم ناقض للوضوء، كانت القصة حجة لمن يحتج بها على أن خروج الدم لا ينقض الوضوء.
الشاهد من هذا ومن ذاك أن فهم الإسلام فهماً صحيحاً لا سبيل إليه إلا بمعرفة سيرة الصحابة وتطبيقهم لهذا الإسلام العظيم الذي تلقوه عنه صلى الله عليه وآله وسلم إما بقوله، وإما بفعله، وإما بتقريره.
لذلك نعتقد جازمين أن كل جماعة لا تقوم قائمتها على هذا الأساس من الكتاب والسنة ومنهج السلف الصالح دراسة واسعة جداً محيطة بكل أحكام الإسلام كبيرها وصغيرها، أصولها وفروعها، فليست هذه الجماعة من الفرقة الناجية ومن التي تسير على الصراط المستقيم الذي أشار إليه الرسول صلى الله عليه وآله وسلم في الحديث الصحيح.
وإذا فرضنا أن هناك جماعات متفرقة في البلاد الإسلامية على هذا المنهج، فهذه ليست أحزاباً وإنما هي جماعة واحدة ومنهجها منهج واحد، وطريقها طريق واحد، فتفرقهم في البلاد ليس تفرقاً فكرياً عقدياً منهجياً، وإنما هو تفرق لتفرقهم في البلاد بخلاف الجماعات والأحزاب التي تكون في بلد واحد، ومع ذلك فكل حزب بما لديهم فرحون.
هذه الأحزاب لا نعتقد أنها على الصراط المستقيم، بل نجزم بأنها على تلك الطرق التي على رأس كل طريق منها شيطان يدعو الناس إليها.
ولعل في هذا جواباً لما سبق.
مداخلة: ومثل ذلك وإن كان فيه فارق بعض الشباب ينكر على من يقوم للقادم، فإذا كنا في مجلس وقدم أحد فقمنا للسلام عليه أنكر ذلك وذكر الحديث الوارد فيه.
ومع أن هذه المسألة وإن كنت لا أقول إنها موضع اتفاق، لكن الأقرب أنه يجوز إنما كان هذا على سبيل الإكرام للقادم، ويعجبني في هذا المجال فتوى سماحة الشيخ عبد العزيز بن باز وقد سئل عن المسألة، فقال إن هذا من مكارم الأخلاق، فما دامت عادة أهل البلد القيام للقادم لمصافحته والترحيب فيه وعرض المجلس الذي أنت فيه عليه لأن يتفضل في مكانك، فهذا من مكارم الأخلاق التي لا يظهر والله تعالى أعلم ما نع منها.
أنت سمعت الشريط.
مداخلة: سمعته.
الشيخ: وفهمته؟
مداخلة: تقريباً.
الشيخ: أنا أريد تحديداً.
مداخلة: فهمته.
الشيخ: تحديداً؟
مداخلة: أي نعم.
الشيخ: ما رأيك فيه.
مداخلة: في ظني إذا كان القيام من باب العادة
…
مما هو من باب الشرع.
الشيخ: السؤال ما رأيك فيه أصاب أم أخطأ؟
مداخلة: على حسب ما أعرف أنه أخطأ.
الشيخ: ما أدري لماذا الناس يعملون هذه الركيزة، يعني دائماً عندما نسأل الشخص عن رأيه يقول: حسب ما أعلم! فهل هو على حسب ما أعلم أنا؟ ! هو المتكلم حسب ما يعلم هو.
فإذاً: ترى أن رأيه صواب؟
مداخلة: غير صواب.
الشيخ: غير صواب.
مداخلة: نعم.
الشيخ: طيب ألا يلتقي هذا مع حديثك.
مداخلة: أنه جعلها عادة، القيام جعله على حسب.
مداخلة: السلام عليكم.
الشيخ: وعليكم السلام ورحمة الله وبركاته.
ما هو الشيء الذي جعله عادة؟
مداخلة:
…
القيام للقادم، جعل عادة على حسب ما تعارف عليه أهل ذلك البلد.
الشيخ: حسناً، فأنت ماذا تريد؟
مداخلة: أنها تقيد بقيود.
الشيخ: لا ما يقابل العادة، يقابل العادة العبادة.
مداخلة: أي نعم.
الشيخ: فهل تريد أن تجعلها عبادة.
مداخلة: قد يكون ..
الشيخ: بلاش قد، لأن قد، قد تقابل بقد أخرى.
مداخلة: ليس على الإطلاق.
الشيخ: يعني مسار للتشكيك في الموضوع.
مداخلة: أي نعم.
الشيخ: أحد شيئين هو قال عادة، فأنت قلت أنه في وجهة نظرك أخطأ، فيقابل كونها عادة عبادة، فهل أنت تريد أن تقول أن القيام للقادم عبادة.
مداخلة: لا، ليس على الإطلاق.
الشيخ: يا أخي إذاً أفهم من كلامك عبادة، لكن بقيد.
مداخلة: بقيد.
الشيخ: فهي إذاً عبادة.
مداخلة: مقيدة.
الشيخ: أنا قلت لك هذا، لكن قبل كل شيء نريد أن نفهم في وجهة نظرك أنها عبادة.
مداخلة: أي نعم.
الشيخ: لكنها بقيد.
مداخلة: أي نعم.
الشيخ: ترى هو يطلق هذه العادة أو يضع لها أيضاً بعض القيود ولا بد.
مداخلة: على حسب ما سمعنا ما قيدها.
الشيخ: على حسب لكن المفروض أنه ليس هناك شيء عائم مطلق.
مداخلة: فعلاً.
الشيخ: المهم، الآن نتفاهم معك في الموضوع.
ما هو الدليل على كون هذا الشيء عبادة؟ ثم نسمع منك القيد.
مداخلة: نهي النبي عليه الصلاة والسلام.
الشيخ: نحن نقول ما هو الدليل على كون هذا الشيء عبادة، ثم نسمع منك القيد الذي تريد أن تقيده.
مداخلة: أنا أقصد عدم القيام، ليس القيام نفسه، إذاً أنا فهمتك خطئاً.
الشيخ: عجيب، طيب.
مداخلة: لأنه ليس مجرد القيام عبادة لا ما أقول بهذا أبداً.
الشيخ: إذاً ..
مداخلة: لا، ما أقول بهذا أنها عبادة، أنا قلت بعدم القيام للنهي الوارد في ذلك.
مداخلة: السلام عليكم.
الشيخ: وعليكم السلام ورحمة الله وبركاته.
مداخلة: إذا كان لشخص فيه كبر فقد نهينا على أن نقوم له، فهذا فهمي، ممكن فهمتك خاطئاً يا شيخنا.
الشيخ: يجوز، لكني أقول أنت بادرتنا بحديث: قوموا.
مداخلة: أي نعم.
الشيخ: هذا ماذا يفيد؟
مداخلة:
…
الشيخ: طيب عبادة والا عادة .. يا الله يا كريم.
مداخلة:
…
الشيخ: على كل حال نحن ما نريد أن نخوض في هذه المسألة كثيراً؛ لأنها بحثت كثيراً وكثيراً جداً، إنما أريد أن ألفت النظر إلى أولاً رواية الحديث، ودلالة الرواية الصحيحة من الحديث، فأنت كيف تروي الحديث:«قوموا .. » .
مداخلة: ما أحفظ
…
الشيخ: الحديث ما لفظه؟
مداخلة: «قوموا لسيدكم» .
الشيخ: هل يختلف الأمر عندك بين قوموا لسيدكم، وبين قوموا إلى سيدكم؟ هل فرق هناك بين هذه العبارة وبين العبارة الأخرى التي أفترضها بين قوموا لسيدكم وقوموا إلى سيدكم، هل تشعر بأن ثمة فرقاً بين العبارتين؟
مداخلة: أي نعم يوجد ثمة فرق.
الشيخ: ما الفرق.
مداخلة: .. القيام من أجل السيد.
الشيخ: وقوموا إلى سيدكم؟
مداخلة: قد يكون لأمر آخر غير القيام بعاملة هذا السيد.
الشيخ: أحسنت، فإذا كان هذا الحديث:«قوموا إلى سيدكم» فهل له علاقة بالقيام المبحوث فيه الآن؟
مداخلة: لا، إذا على الرواية:«إلى» ليس له علاقة بالقيام.
الشيخ: وما رأيك حينئذ أن الحديث هكذا، «قوموا إلى سيدكم» .
مداخلة: نعم، بارك الله فيك. أي نعم اختلفت.
الشيخ: ولذلك فلا يجوز إدخال الحديث في هذا الموضوع، واضح؟
مداخلة: واضح.
الشيخ: جزاك الله خير.
ويؤكد ذلك أن الحديث في مسند الإمام أحمد بإسناد قوي كما يقول الحافظ ابن حجر: «قوموا إلى سيدكم فأنزلوه» واضح؟
مداخلة: واضح، بارك الله فيك.
الشيخ: وفيك بارك.
مداخلة:
…
الشيخ: أي نعم.
تحبوا تسمعوا كلام سلمان العودة في قصة القيام؟
مداخلة: قبل
…
قليل
…
قبل قليل.
مداخلة: : ومثل ذلك وإن كان فيه فارق، بعض الشباب ينكر على من يقوم للقادم، فإذا كنا في مجلس وقدم أحد فقمنا للسلام عليه أنكر ذلك وذكر الحديث الوارد فيه
ومع أن هذه المسألة وإن كنت لا أقول إنها موضع اتفاق، لكن الأقرب أنه يجوز إن كان هذا على سبيل الإكرام للقادم، ويعجبني في هذا المجال فتوى سماحة الشيخ عبد العزيز بن باز وقد سئل عن المسألة، فقال إن هذا من مكارم الأخلاق، فما دامت عادة أهل البلد القيام للقادم لمصافحته والترحيب فيه وعرض المجلس الذي أنت فيه عليه بأن يتفضل في مكان، فهذا من مكارم الأخلاق التي لا يظهر والله تعالى أعلم مانع منها وإن كان المثال الأخير.
الشيخ: أنا أرى أن الرجل يريد أن يساير المجتمع الذي يعيش فيه.
مداخلة: هذا واضح.
الشيخ: ولا يريد أن يصلح، لا يريد أن يحي السنة.
شقرة: لا يريد أن يكون وإن أريد إلا الإصلاح ما استطعت.
الشيخ: هذا هو.
مشهور: يا شيخنا
…
في خلاف في الإخوة معهم، يعني أحياناً الأمور تعرف بالثمار
الشيخ: التساهل.
مشهور: تساهلهم من جهة ومن جهة أخرى الصبغة العامة يصبغون بها مجالسهم ومن حولهم.
الشيخ: نعم.
مشهور: يعني هذان أمران في ظني من أهم الأمور، هي خفية لا تستطيع أن تمسك عليهم مماسك مثل أن تقول نقطة أو اثنتين أو ثلاث أو .. هذا ظهر جلياً البارحة في الجلسة ومن خلال كلام الأخ خالد.
الشيخ: نعم.
مشهور: لكن سبحان الله كما تفضلتم من ثمارهم تعرفهم، هذه هي نقطة مهمة.
الشيخ: أي نعم.
فأنا أقول: إن الرجل إذا كان مما يهمه أن يحقق مسألة تناسب ما عنده حقق فيها واجتهد فيها، أما إذا كانت المسألة على خلاف ذلك ولا يناسبه حسب مخططه العام أن يتخذ منها موقفاً واضحاً مبيناً في السنة فهو يميع القول فيها ويضيعه.
هو كلامه في مسألة القيام يقول إذا كانت العادة في البلد القيام من أجل الإكرام فهذا من مكارم الأخلاق، ويحتج بكلام الشيخ ابن باز جزاه الله خيراً.
ونحن نقول بهذه المناسبة ما يروى عن الإمام مالك وهو المشهور وروي عن ابن عباس أيضاً: ما منا من أحد إلا ورد عليه.
نحن الآن ننطلق من قاعدتنا السلفية التي ندندن دائماً واليوم كنا في هذا الحديث أنه لا يكفي للدعاة إلى الكتاب والسنة أن يقتصروا في دعوتهم على
الكتاب والسنة، بل لا بد لهم من أن يضموا إلى ذلك ضميمة وعلى منهج السلف الصالح.
ذلك لأنه لا يستطيع أحد أن يجادل في أن أفضل الأجيال الإسلامية إنما هو الجيل الأول ثم الثاني ثم الثالث، ذلك لأن هذا الجيل الأول تميز بلقائه مع النبي صلى الله عليه وآله وسلم وتلقيه منهم الأحكام الشرعية مباشرة ومطبقة عملياً، فالآن نحن نقول بقول العلماء:
وكل خير في اتباع من سلف
…
وكل شر في ابتداع من خلف
ترى اعتياد إكرام الداخل بالقيام، هل هو الأفضل أم الأفضل ما كان عليه الجيل الأول، بل ما كان عليه الرسول صلى الله عليه وآله وسلم مع أصحابه.
لا أحد يستطيع أن يجادل أيضاً فيقول: لا، المسألة هذه تختلف باختلاف العادات والأذواق وما شابه ذلك.
فنحن نعود إلى القاعدة: وكل خير في اتباع من سلف. هذا أولاً.
وثانياً لا شك أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم هو أولى رجل من بين من يجب احترامهم وتوقيرهم وتعظيمهم بالوسيلة المشروع، فهل كان أصحابه عليه الصلاة والسلام يكرمونه بوسيلة القيام له، الجواب: أيضاً لا.
وهو يعلم هذه الأشياء بلا شك، لأنه لا نستطيع أن نفترض أنه لم يمر بكتب السنة الستة على الأقل وفيها أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم كان ينهى الناس أشد النهي أن يقبلوا هذا القيام المعتاد بمثل قوله عليه السلام:«من أحب أن يتمثل له الناس قياماً فليتبوأ مقعده من النار» .
وعلى ذلك كان رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم إذا دخل على أصحابه ما يقوم له أحد، ولقد
كان هو أولى من كل الناس الذين يتصور أنهم يعظمون ويكرمون بالقيام، كان عليه السلام بمثل هذا القيام أولى، مع ذلك ما كانوا يقومون له لماذا؟
هل لأن العادة كما يشعر هو لم تكن يومئذ أن يقوم الناس لعظمائهم، لا، العادة كانت على العكس تماماً، ولذلك نهى عليه الصلاة والسلام أشد النهي في الحديث السابق ذكره:«من أحب أن يتمثل له الناس قياماً فليتبوأ مقعده من النار» .
إذاً: كانت العادة يومئذ هو القيام، فما قال الرسول عليه السلام أن هذه عادة وهذه وسيلة للاحترام والإكرام للداخل، وللسلام عليه كما يقول هو في اللفظ، بل عليه الصلاة والسلام لم يرض هذا القيام لنفسه هو، ليس كما يقولون من باب التواضع؛ لأن هذا قد يقال فيما هو أهم من ذلك مما نهى عنه الرسول عليه السلام، فيتأوله المبتدعة والخلف الطالح، يتأولونه بخلاف ما رمى إليه صلى الله عليه وآله وسلم، خذواً مثلاً الحديث المتفق على صحته:«لا تطروني كما أطرت النصارى عيسى بن مريم، إنما أنا عبد فقولوا: عبد الله رسوله» .
تجد شاعرهم البوصيري الذي يتقربون إلى الله بتلاوة بردته، وفيها:
دع ما ادعته النصارى في نبيهم
…
واحكم بما شئت فيه واحتكم
ماذا قالت النصارى: عيسى ابن الله إذاً: أنت لا تقول محمد ابن الله، وما دون ذلك قل ما شئت.
الرسول يقول: «لا تطروني إنما أنا عبد، فقولوا عبد الله ورسوله» .
إذا فسر الحديث بتفسير البوصيري إذا صح التعبير بطل قوله عليه السلام، وحاشاه أن يبطل:«قولوا عبد الله ورسوله» .
هذا أولاً.
وثانياً: لقد ترجم علماء الحديث لهذا الحديث بباب: تواضع النبي صلى الله عليه وآله وسلم وأردوا الحديث، فإذا فسر الحديث لا تقول محمد ابن الله وقل ما شئتم في مدحه؟ أين التواضع.
هذا فرض على رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم وعلى من دونه من باب أولى، أن لا يبالغوا في إطرائه وفي مدحه، ويقولوا مثلما قال النصارى في نبيهم، وإنما يصلح أن يترجم لهذا الحديث لباب تواضع الرسول إذا سد باب المدح مطلقاً، ووقفنا عند ما أمرنا أن نقول:«عبد الله رسوله» . علماً أنه إذا قلنا عبد الله ورسوله فيه بالغ الثناء على الرسول عليه السلام؛ لأنه لولا ذلك ما اصطفاه عبداً ورسولاً.
فنعود إلى ما كنا في صدده، كان رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم إذا دخل على أصحابه لا يقومون له، كما يقول أنس بن مالك، لماذا؟
قال: لما يعلمون من كراهيته لذلك.
إذاً: رسول الله كان يكره هذا القيام فكيف يجوز لمسلم أن يتغاضى عن عمل السلف أولاً مع نبيهم وهو سيدهم وهو سيد البشر جميعاً، فلا يتخذون هذه الوسيلة إكرام له، وهو أحق من يستحق هذا الإكرام بهذ الوسيلة لو كانت مشروعة.
ثانياً: لماذا نغض النظر عن العلة التي نقلها لنا صحابي رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم ألا وهو أنس بن مالك؛ لأنه هو الذي روى لنا هذا الحديث معللاً بهذه العلة، فقال: ما كان شخص أحب إليهم من رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، وكانوا لا يقومون له لما يعلمون من كراهيته لذلك.
انظر الآن كيف نفى هنا ما أثبت آنفاً خطأً في حديث: قوموا لسيدكم.
لا، هم ما كانوا يقومون له، أما كانوا يقومون إليه؛ لأن القيام إليه يكون لخدمته، لإعانته .. إلى آخره، كما لاحظت في نفسك آنفاً.
ما كان شخص أحب إليهم من رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، وكانوا لا يقومون له لما يعلمون من كراهيته لذلك.
الآن الفطرة، فطرة الإنسان التي فطر الله الناس عليها أولاً، والفطرة المستقاة من مشكاة النبوة والرسالة ثانياً.
ترى! أتكره هذا القيام أم تستحبه؟ لا شك أن هذه الفطرة، الفطرة التي فطر الله الناس عليها أولاً لا يمكن أن تستحب ما كرهه عليه السلام، الفطرة التي تلقيناها من سيد الناس رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم لا يمكن للمحبين له أن يخالفوه في ذلك.
فإذاً: هذا القيام لا يجوز اعتباره أداة احترام ما دام أنها لم تعتبر كذلك في العصر الأول الأنور. هذا من حيث الرواية، ومن حيث الفقه والدراية وكما يزعمون من حيث ما يدندنون اليوم ويبالغون فيه ويسمونه بفقه الواقع، ترى هل درسوا أثر اعتياد هذا القيام وتأثيره في واقع الناس أم لا؟
ظني أنهم ضربوا عن ذلك صفحاً.
لقد عرف كل الناس الذين يدرسون واقع الناس في كل عصر وفي كل مصر، لقد عرفوا أن هذا القيام أولاً هي وسيلة لنفاق اجتماعي وليس وسيلة إكرام، بدليل أن المسلم الصالح الدين إذا دخل المجلس لا أحد يقوم له، ولا أحد يأبه له، على العكس من ذلك إذا كان هناك شخص وجيه وقد يكون من فساق القوم، فتجد الناس يقومون له قياماً، ما هذا القيام، يقول لك هذا عادي من باب الإكرام،
لماذا لا تكون هذه العادة شاملة لكل مسلم، سواء كان ذا جاه أو ليس كذلك.
فإذاً هذا ليس وسيلة إكرام وإنما هي وسيلة رياء ونفاق، ففي أي مجتمع شاع فيه النفاق بكل أشكاله وأنواعه وأساليبه هو هذا الذي يشيع فيه مثل هذه الوسيلة، ثم تسمى بعادة من أجل الإكرام والاحترام، هذا شيء.
شيء ثان حينما ..
الشيخ: لقد عرفوا أن هذا القيام أولاً هي وسيلة لنفاق اجتماعي وليس وسيلة إكرام، بدليل أن المسلم الصالح الدين إذا دخل المجلس لا أحد يقوم له، ولا أحد يأبه له، على العكس من ذلك إذا كان هناك شخص وجيه وقد يكون من فساق القوم، فتجد الناس يقومون له قياماً، ما هذا القيام، يقول لك هذا عادي من باب الإكرام، لماذا لا تكون هذه العادة شاملة لكل مسلم، سواء كان ذا جاه أو ليس كذلك.
فإذاً هذا ليس وسيلة إكرام وإنما هي وسيلة رياء ونفاق، ففي أي مجتمع شاع فيه النفاق بكل أشكاله وأنواع وأساليبه هو هذا الذي يشيع فيه مثل هذه الوسيلة، ثم تسمى بعادة من أجل الإكرام والاحترام، هذا شيء.
شيء ثان حينما تسري هذه العادة في مجتمع ما، ثم يقع وهو ليس بالأمر الواجب اتفاقاً، إذا قيل بأنه أدب فلا أحد يقول بأنه واجب، ولا أحد يقول بأنه سنة مؤكدة، أكثر ما يمكن أن يقال أنها سنة مستحبة من باب إكرام القادم، وهم هؤلاء أنفسهم معنا في أن المسلم يجب أن يفرق بين ما هو واجب أو فرض وبين ما هو سنة أو مستحب، والتفريق يكون بعدم الاهتمام بما هو مستحب كما نهتم بالواجب، فإذا لم يقم أحد الحاضرين لهذا القادم، ماذا يصير في نفس القادم، لا شك أنها تغلي وتثور وتفور .. إلى آخره؛ لأننا عودناه على هذا القيام الذي لم يقم
عليه العصر الأول وأوقعناه في مخالفته للنبي صلى الله عليه وآله وسلم في الحديث الأول: «من أحب أن يتمثل له الناس قياماً فليتبوأ مقعده من النار» .
إذاً: اعتيادنا لهذه العادة يفتح باباً لإيقاع المحبين لهذه العادة أن يتبوؤوا مقعدهم من النار؛ لأنهم سوف ينكرون على الذي لم يقم أشد الإنكار، وهذا لا بد أنكم لاحظتم حوادث ووقائع كثيرة، وأنا كما يقال إن أنسى فلن أنسى، عندما كنت تلميذاً في المدرسة الابتدائية كان معلم الصف وهو كان مختصاً في تدريس اللغة العربية والتاريخ الإسلامي، كان إذا دخل الصف وربما تكون هذه العادة حتى الآن في بعض المدارس، يكون هناك عريف صف يقوم أمام الباب قبل أن يدخل الأستاذ، فلما يراه قادماً يقول للطلاب تهيؤوا، وهذا إشعار بأن المعلم أو الأستاذ سيدخل، فإذا دخل قاموا له قياماً، يكون أحياناً نزاع بين أحد الطلبة والأستاذ، إما بحق أو بباطل، فأحد التلامذة الذي بينه وبين الأستاذ عداء شخصي لا يقوم له، لكن هو يعلم أنه إذا لم يقم له أهانه بل وربما ضربه، فيتخبأ وراء الطاولة؛ لكي لا يراه، والأستاذ لا يخفى عليه فهو يتطاول هكذا، ينظر هكذا فيكشفه ويقول له اخرج، والله لا أزال كأنه الآن يضربه بيده برجله؛ لأنه لم يقم للمعلم وشوقي ماذا يقول:
قم للمعلم وفه التبجيلا
…
كاد المعلم أن يكون رسولا
الشاهد أن اتخاذ هذه الوسيلة للإكرام كما يزعمون لها آثار سيئة جداً في المجتمع وهذه بعض تلك الآثار أنها تطبع كثيراً من المسلمين على حب القيام، فإذا ما وقعوا في هذه المحبة هددهم الرسول عليه السلام بقوله:«فليتبوأ مقعده من النار» .
من هنا يبدو لي فقه دقيق الدقيق لمعاوية بن أبي سفيان رضي الله عنه في هذا
الحديث؛ ذلك لأن الحديث عند عامة العلماء والشراح إنما يستدلون به على تحريم حب الداخل للقيام من الجالسين وكفى، بينما معاوية رضي الله عنه لفت النظر أن الحديث يدل على أن الجالسين لا ينبغي أن يقوموا للداخل مع أن ظاهر الحديث كما يقول الجمهور ينهى الداخل أن يحب القيام، ذلك كما جاء في سنن الترمذي وغيره أنه دخل مجلسه ذات يوم وفيه اثنان من العبادلة أحدهما صحابي وهو عبد الله بن الزبير والآخر تابعي وهو عبد الله بن عامر، فقام له أحدهما ولم يقم له الآخر فنهاه، واحتج عليه بهذا الحديث، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: «من أحب أن يتمثل له الناس قياماً فليتبوأ مقعده من النار» ، قد يستغرب من لم يسمع باب سد الذرائع أولاً كقاعدة فقهية، والشرح السابق آنفاً ما صلة احتجاج معاوية بهذا الحديث على الذي قام له، فقهه هو ما ذكرناه آنفاً، كأنه يقول له بلسان الحال يا فلان أنت حينما قمت لي إكراماً واحتراماً وتعظيماً فستطبعني بعادتك هذه على حب القيام، وسيأتي يوماً ما إذا لم تقم لي وقعت في الوعيد المذكور في الحديث السابق:«فليتبوأ مقعده من النار» .
فإذاً: من باب سد الذريعة لا ينبغي للناس أن يتخذوا هذه الوسيلة وسيلة للإكرام.
وختاماً أقول كما بدأنا الكلام:
وكل خير في اتباع من سلف
…
وكل شر في ابتداع من خلف
والحديث الحقيقة له بحث طويل وهناك أشرطة ولا حاجة الآن للإفاضة بأكثر مما سبق، لكن حسبي أن أذكر بقصة ابن بطة العالم المحدث الحنبلي، حيث كان يكره هذا القيام أشد الكراهة، حتى إنه يبدو أنه كان يصرح بالتحريم، فنزل ذات يوم إلى السوق ومعه صاحب له شاعر فمر بعالم وهو جالس في عمله
وهذا من هدي علماء السلف أنهم كانوا أصحاب مهنة يعتاشون بها ويبتعدون عن الوظائف في الدولة؛ لأنها في الغالب تكون قيداً وغلاً.
الشاهد فقام له ذلك العالم هو يعلم أنه يكره ذلك القيام، فبادره ببيتين من الشعر قائلاً:
لا تلمني على القيام فحقي
…
حين تبدو لا أمل القياما
أنت من أكرم البرية عندي
…
ومن الحق أن أجل الكراما
هذه فلسفة هؤلاء الناس الذين قالوا هذه عادة إكرام، ابن بطة كأكثر العلماء لا يحسنون الشعر، لكنه صاحبه الشاعر أولاً شاعر وتلميذ بار له يعرف فقهه، فقال له: أجبه عني، قال على البديهة:
أنت إن كنت لا عدمتك ترعى
…
لي حقاً وتظهر الإعظاما
فلك الفضل في التقدم والعلم
…
ولسنا نريد منك احتشاما
فاعفني الآن من قيامك هذا
…
أولاً فسأجزيك بالقيام القياما
وأنا كاره لذلك جداً
…
إن فيه تملقاً وأثاما
وإذا صحت الضمائر منا
…
اكتفينا من أن نتعب الأجساما
كلنا واثق بود أخيه
…
ففيم انزعاجنا وعلى ماذا؟
هذه العبرة التي يجب أن ننتهي إليها ونبتعد عن الوسائل التي تعدمها، ولنا صديق في دمشق بهذه المناسبة أصحاب المكتبة العربية الهاشمية أحمد عبيد وحمدي عبيد وتوفيق عبيد، ثلاثة إخوة أفاضل، ماتوا في رحمة الله، المهم أحدهم كان قريباً جداً من الدعوة السلفية له رسالة صغيرة اسمها الأحاديث
الصحيحة أخرجها من صحيح البخاري، حدثني مرة قال دعينا إلى حفل من حفلات هؤلاء الكبار، قال: فأجلسوني في الصف الثاني وبدأ الحفل يكتمل، وقبل أن يكتمل بدأ الرؤوس يدخلون، سرعان ما شاعت إشاعة الآن يأتي الأمير الفلاني، فالتفتت الأنظار إلى الباب الكبير، دخل الأمير فقمنا وبقينا قائمين حتى جلس في صدر المكان فجلسنا، بعد قليل شاعت إشاعة أخرى أن الباشا فلان سيأتي، توجهت الأنظار إلى الباب الكبير دخل الباشا قمنا، وبعد ذلك الآن يأتي الوزير الفلاني، دخل الوزير فقمنا، قال ما شعرت في نفسي إلا أنني قائم قاعد، كأن تحتي نابض، زمبرك يعني، قال: قلت في نفسي والله هذه شغلة طويلة لا يريحنا إلا أن نأخذ بالسنة التي سمعناها من فلان، فجلست ولم أقم فارتحنا، هذا واقع الحفلات كلها، هذا كلها نفاق اجتماعي، مع ذلك من باب السياسة ومن باب المداراة تشرع باسم الاستحباب هذه الوسائل، ثم هو يتحفظ فيقول أنا أعلم أن المسألة خلافية، والدليل الشرعي فيها، يلجأ إلى الاحتجاج بقول عالم فاضل ويجعله قدوة له وهو ينهى الناس أن يقلدوا عالماً ما، ونحن لا أقول نحن معهم، نقول هو معنا في النهي عن التقليد ولكن لأن عندنا تفصيل التقليد أمر لا بد منه في حدود معينة، لكن مع ذلك:{يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا لِمَ تَقُولُونَ مَا لا تَفْعَلُونَ * كَبُرَ مَقْتًا عِنْدَ اللَّهِ أَنْ تَقُولُوا مَا لا تَفْعَلُونَ} [الصف: 2 - 3].
فالآن مثل هذه المسألة ما يليق بمثل هذا الأستاذ أن يدور عليها وينحى منحى قول من أهل العلم والفضل قال بتجويز هذا الشيء؛ بل باستحبابه حين أدخله في باب مكارم الأخلاق، وقد قال عليه السلام:«إنما بعثت لأتمم مكارم الأخلاق» ، كان عليه إن كان لم يدرس المسألة بأدلتها الشرعية أن يدرسها قبل أن يتبنى رأي الشيخ الفلاني، وإن كان قد درسها فكان عليه أن يبين الدليل الشرعي الذي يجوز له اتخاذ هذه الوسيلة وسيلة إكرام وإدخالها في باب مكارم الأخلاق، وهي في
العهد الأول لم تكن كذلك، لا بد من هذا لكنه استروح إلى قول أحد العلماء الأفاضل ومشى الموضوع من باب أن هذا من مزالق طلاب العلم، أي: يقول طالب العلم يا أخي هذا خلاف السنة، لا السنة تختلف باختلاف الزمان والمكان، فهذا معنى الكلام وإن كان هو لا يصرح بذلك.
(الهدى والنور/609/ 45: 00: 00).
(الهدى والنور /608/ 04: 01: 00).
(الهدى والنور /608/ 13: 36: 00).