الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
وضع أصول لنقد الرواية اللغوية
بينت بالباب الأول من البحث أن السيوطي أولا وقبل كل شيء محدّث من النوع الأول يهتم بالبحث في الأسانيد ويحرص على الأمانة، ويهتم بالبحث فيما يتصل بالأحاديث من صحة وضعف وعلل وبالرواة من توثيق وتعديل، أو تجريح وتضعيف، كما قلت إن عنايته بالحديث قد طبعت منهجه وعقله بحيث ظهر تأثره به في شتى نواحي دراسته.
وفي كتاب «المزهر» نجد محاولة من السيوطي لدراسة اللغة بتطبيق منهج المحدّثين عليها، وقد صرح بذلك في مقدمته حيث قال:«هذا علم شريف ابتكرت ترتيبه، واخترعت تنويعه وتبويبه، وذلك في علوم اللغة وأنواعها، وشروط أدائها وسماعها، حاكيت به علوم الحديث في التقاسيم والأنواع، وأتيت فيه بعجائب وغرائب حسنة الابداع» «1» .
والواقع أن رواية الحديث قد حظيت منذ وقت مبكر بعناية المسلمين، ونالت من الاهتمام لاتصالها بالأحكام الشرعية التي تمس عبادات الناس ومعاملاتهم ما لم يتح مثله للرواية اللغوية.
وقد اشتغلت طائفة كبيرة من المسلمين بنقل الحديث وروايته، كما ابتدأ تدوين الحديث منذ وقت مبكر ووضعت فيه المصنفات التي اعتمدت- في الغالب- على ما دون في عهد عمر بن عبد العزيز، وقد صنف في الحديث من رجال القرن الثاني الهجري الربيع بن صبيح (160 هـ)، وسعيد بن أبي عروبة (156 هـ)، وتبعهم الامام مالك الذي صنف الموطأ وتوخى فيه القوي من حديث أهل الحجاز، وصنف ابن جريج بمكة والأوزاعي بالشام وسفيان الثوري
(1) المزهر ج 1 ص 1.
بالكوفة وحماد بن سلمة بالبصرة وهشيم بواسط وغيرهم، ثم تلاهم كثيرون ممن نسج على منوالهم، ثم صنف بعض الأئمة المسانيد كمسند أسد بن موسى الأموي (212 هـ)، ومسند نعيم بن حماد الخزاعي (228 هـ)، ثم بعد فترة ظهر مسند الامام أحمد بن حنبل (341 هـ)، وتلا هذه الطبقة طبقة أصحاب الكتب الستة «1» .
وإذا كانت العناية قد اتجهت إلى جمع الأحاديث وتدوينها فإن طريق ذلك كان الرواية الشفوية التي اعتمد عليها الحديث فترة من الزمن، ثم كان أصحاب الكتب يعتمدون أيضا على الرواية الشفوية ويهتمون بالنقل عن حفاظ الحديث ونقلته بعد التدوين وقد استدعى ذلك البحث عن الوسائل التي تضمن سلامة وصول الأحاديث إليهم.
وقد عرف عن الصحابة تشددهم وتحرجهم في رواية الحديث، كما عرف عن بعضهم نقدهم لبعض الروايات، فلما حدثت الفتنة وظهر أهل الأهواء الذين لم يؤمن كذبهم
في الحديث، ثم ظهر القصاص وأصحاب الأخبار بعد ذلك يحدثون الناس بأحاديث عن الكتب السابقة تفيض بالكذب والأساطير، كما ظهر التزيد عند بعض الرواة، أصبحت الحاجة ماسة إلى الاهتمام بنقد رواية الحديث، وقد اتجه هذا النقد في غالبه إلى الأسانيد ويتمثل في بحث الرواة جرحا وتعديلا وما يستتبعه من بحث أحوالهم، والبحث في الأسانيد لمعرفة عللها واتصالها أو انقطاعها، ومن هنا كانت بداية ظهور علم أصول الحديث الذي عرف عند المتأخرين بعلم مصطلح الحديث.
ولكي نعطي صورة مجملة عن تدرج مصطلح الحديث حتى وصل إلى ما وصل إليه عند المتأخرين نذكر أن الاهتمام بهذا العلم كما بينا كانت له جذوره الموغلة في القدم، وقد تكلم في الجرح والتعديل كثير من العلماء منذ وقت مبكر، وكان منهج الرواية في ذلك الحين عرفا بين المحدثين.
ويبدو أن ابن شهاب الزهري، وشعبة بن الحجاج (160 هـ) قد صنفا في
(1) السيوطي: تنوير الحوالك شرح موطأ مالك ج 1 ص 5، 6.
نقد الرواية، وقد ظهر بعد حين مسلم (261 هـ)، الذي صنف في علل الحديث، ثم صنف أبو محمد الرامهرمزي (260 هـ) كتاب المحدث الفاصل بين الراوي والواعي وتبعه الحاكم النيسابوري (405 هـ) فتصدى للتأليف في ذلك، لكنه لم يهذب ولم يرتب، وتبعه أبو نعيم الأصبهاني، ثم جاء من بعدهم الخطيب البغدادي (463 هـ) فصنف في قوانين الرواية كتاب «الكفاية» ، كما صنف في آدابها، وفي جميع فنون الحديث بحيث قيل: إن المحدثين بعده عيال على كتبه.
ويمكن أن نجد في كتاب الكفاية مصداق ما نقول من قدم الكلام في أصول الحديث والاهتمام به حيث يورد الخطيب البغدادي نقولا بأقوال كثير من المتقدمين تتصل بأصول الحديث ونقد الرواية فهو يذكر مثلا في «الخبر المتصل» نقلا يصل إلى قتادة وهو من التابعين وفيه يقول: «لا يحمل هذا الحديث عن صالح عن طالح، ولا عن طالح عن صالح، حتى يكون صالح عن صالح» «1» ، ومعظم الكتاب نقول كهذا نثبت لنا كثيرا من أسماء الذين اعتنوا بنقد الحديث منذ القدم وإن لم يصنفوا فيه.
وأشهر الذين صنفوا في المصطلح من المتأخرين ابن الصلاح (642 هـ)، ومقدمته أشهر ما كتب في المصطلح بحيث حظيت بعدد من الشروح والمختصرات، وقد لخص ابن حجر هذه المقدمة في كتابه نخبة الفكر، ويمكن أن نعتبر هذه المقدمة نهاية التدرج الذي وصل إليه مصطلح الحديث بعد استقرار مصطلحات هذا العلم ولذلك سنحاول المقارنة بينها وبين كتاب السيوطي باعتباره نهاية التدرج في الرواية اللغوية ونقدها.
اتضح لنا ما حظيت به رواية الحديث من اهتمام بالغ، وما حظي به نقد روايته من توفر كثير من الباحثين في الحديث منذ فترة مبكرة على التعرض لها وتناولها، ثم توفر كثرة منهم على التصنيف فيها، والدافع إلى ذلك- كما هو معروف- هو اتصال الأحاديث بالدين واعتماد التشريع عليها، وظهور أهل
(1) الكفاية في علم الرواية ص 20.
الأهواء، ووجود الدواعي إلى الكذب التي حاول المحدثون الابتعاد عنها وتنقية أحاديث الرسول صلى الله عليه وسلم من شوائب الوضاعين والكذابين.
ذلك كان شأن رواية الحديث وشأن أصوله ونقد روايته حتى وصلت إلى مصطلح معروف لدى القوم حاول السيوطي أن يدرس اللغة وروايتها وأن يقسمها على نمطه فماذا كان من أمر رواية اللغة ونقدها قبل السيوطي؟ ثم ما هو الجهد الذي قام به السيوطي؟ وإلى أي مدى من النجاح بلغت محاولته؟
وقد حظيت رواية الأدب واللغة بعناية الرواة منذ القدم، ورواية الأشعار في الجاهلية والاسلام، وكثرة الرواة وقوة حفظهم أمور معروفة ومشهورة، أما نقد هذه الرواية فقد حدث بشكل ملحوظ في عصور التدوين فقد لاحظ الخليل أن «النحارير ربما أدخلوا على الناس ما ليس في كلام العرب إرادة اللبس والتعنيت» «1» ، كما لاحظ القدماء افتعال الشعر من قبل بعض الرواة ونسبته إلى غير قائليه، ويعطي ابن سلام في مقدمته صورة للانتحال في الشعر وما قام به محمد بن إسحاق من تحمله لكثير من المصنوع المفتعل «2» ، وقد بين ابن سلام في مقدمته دوافع انتحال الشعر وذكر أن أهل البصيرة بالشعر يستطيعون أن يميزوا صحيحه من المصنوع الذي افتعله الرواة، ويعد ابن سلام بذلك من أقدم من تكلم في نقد الرواية اللغوية.
والواقع أن الذي يهم اللغويين بعد حديث الافتعال والانتحال في الشعر وكذب بعض الرواة هو أن يثبتوا أن ما يحتجون به منسوب إلى الفترة التي يحتج بأشعار شعرائها وبأقوال متكلميها، وليس من الضروري عند اللغويين بعد ذلك تعيين القائلين بأعيانهم، وإنما ذلك بغية دارسي الأدب، وهذه الفترة قد استقر العرف بين اللغويين على أن تمتد إلى منتصف القرن الثاني في الرواية عن فصحاء الحواضر، وإلى منتصف القرن الرابع في الرواية عن أهل البادية.
والواقع أنه إلى ذلك الحين لم يحظ نقد الرواية اللغوية وما يتصل بها من
(1) ابن فارس: الصاحبي في فقه اللغة ص 30.
(2)
ابن سلام: مقدمة طبقات فحول الشعراء ص 5، 8، 9.
بحث الرواة وأحوالهم لمعرفة حقيقتهم جرحا وتعديلا، ولم تحظ أسانيد اللغة بدراسة اللغويين، ولم يكن نقد الرواية إلا عرفا متبعا غير مدوّن لا يبين عنه إلا نصوص متناثرة وملاحظات قليلة في كتب الأقدمين، فابن فارس يشير إلى اشتراط عدالة الرواة بقوله: «فليتحر آخذ اللغة وغيرها من العلوم أهل الأمانة والثقة والصدق والعدالة،
فقد بلغنا من أمر بعض مشيخة بغداد ما بلغنا» «1» .
وابن جني يتناول بعض ما يتصل بنقد الرواية في كتابه الخصائص فيتحدث عما انفرد به واحد من أهل اللغة وحكمه «2» ، وسقطات العلماء يعني أغلاط رواة اللغة «3» ، وما يتصل به من تصحيف وتحريف، وصدق النقلة وثقة الرواة والحملة «4» ، وهو بمثابة تعديل لبعض ناقلي اللغة كالأصمعي وأبي زيد وأبي عبيدة وأبي حاتم وأبي الحسن الأخفش والكسائي، وما عدا ذلك فهو ملاحظات قليلة جدا تتصل بالرواية ونقدها.
وقد حاول ابن الأنباري (577 هـ) أن يضع أصولا لنقد الرواية اللغوية فاعتمد في محاولته على مصطلح أهل الحديث مقسما اللغة كتقسيم الحديث إلى متواتر وآحاد «5» ، ثم تحدث عن شرط المتواتر فاشترط فيه نفس شروط المحدّثين، وتحدث بنفس عباراتهم «6» وتناول الآحاد فاشترط عدالة ناقل اللغة كما يشترط في الحديث «7» ، وتناول بالبحث قبول نقل أهل الأهواء «8» ، وتناول الأسانيد فتحدث عن المرسل والمجهول «9» ، كما تناول الاجازة، ثم تحدث عن معارضة النقل بالنقل أي الترجيح بين الروايات «10» ونلاحظ أن ابن الأنباري قد اعتمد على ما وضعه المحدّثون من مصطلح بيد أنه لم يحاول أن يطبق ذلك على اللغة تطبيقا دقيقا حيث لم يكثر من الأمثلة لما وضع من أصول.
(1) الصاحبي في فقه اللغة ص 30.
(2)
الخصائص ج 2 ص 21.
(3)
الخصائص ج 3 ص 158.
(4)
المصدر السابق ج 3 ص 309.
(5)
ابن الأنباري: لمع الأدلة في أصول النحو ص 83.
(6)
ابن الأنباري: لمع الأدلة ص 84، 85، انظر الكفاية للبغدادي ص 16، 17، ونخبة الفكر لابن حجر ص 5.
(7)
لمع الأدلة ص 85.
(8)
المصدر السابق ص 86.
(9)
المصدر السابق ص 90.
(10)
نفس المصدر ص 136.
ولا نكاد نجد بعد ابن الأنباري من تناول نقد الرواية اللغوية علما له أصوله وأقسامه المحددة غير السيوطي، وكل ما قيل فيها قبل السيوطي عدا ما بيناه إنما هو أبحاث قليلة لبعض الأصوليين تناولوا فيها بعض الموضوعات، أو إشارات متناثرة للغويين مبثوثة في ثنايا كتبهم، لذلك يعد ما قام به السيوطي عملا مبتكرا فقد استطاع أن يجمع شتات ما سبق به وأن يضم متفرقات شتى ويقيم منها أقساما لها كيانها، ويضع للغة منهجا متكاملا في نقد الرواية لا يكتفي فيه بالجانب النظري وحده بل يقوم بتطبيقه على ألفاظ اللغة وما نقل منها بحيث يمكن أن نعد كتابه أهم كتاب وضع في نقد الرواية اللغوية علما له أصوله ومصطلحاته، وتصنيف اللغة على أساس هذا العلم، فهي محاولة جمع فيها بين النظر والتطبيق. حاول السيوطي أن يضع مصطلحا للغة يضاهي مصطلح الحديث، وقد طبق أقسامه على اللغة، وسنبين إلى أي حد كان هذا المنهج مطابقا لواقع الدرس اللغوي.
ويتضح لنا مقدار الجهد الذي بذله من نظرتنا في المباحث التي تناولها محاولا دراسة اللغة في إطار منهج لنقد روايتها يضاهي منهج المحدثين بحيث إن الناظر في مسرد عناوين الأقسام التي قسمها السيوطي ومسرد موضوعات كتاب في مصطلح الحديث كمقدمة ابن الصلاح ليدرك مدى التشابه بينهما في كثير من الأقسام.
وقد قسم السيوطي كتابه إلى خمسين قسما، كل مجموعة منها تتناول اللغة من جانب معين، فثمانية أنواع تناول فيها اللغة من حيث الإسناد وهي: الصحيح الثابت، وما روي ولم يصح ولم يثبت، والمتواتر والآحاد، والمرسل والمنقطع، والأفراد، ومن تقبل روايته ومن ترد، وطرق الأخذ والتحمل، والمصنوع وهو الموضوع.
ثم تناول اللغة من ناحية ألفاظها في ثلاثة عشر نوعا بيد أنه لم يحاول أن يدرج أبحاثها تحت مصطلحات المحدثين، ولذلك فبعض الأنواع يضاهي مباحث للمحدثين، وبعضها ليس لهم مباحث من قبيله، ثم تناول اللغة وألفاظها من حيث المعنى في ثلاثة عشر نوعا ونلاحظ في دراسته لبعض هذه
الأنواع اعتماده الكبير على الأصوليين نظرا لاهتمامهم ببحث المعنى.
وقد تناول لطائف اللغة وملحها في خمسة أنواع، وقد استغرقت الأبحاث السابقة الجزء الأول من الطبعة التي نعتمد عليها، وقد درس السيوطي ألفاظ اللغة وحاول ضبطها وحصر أبنيتها فيما سماه بالأشباه والنظائر، ثم عاد بعد ذلك لاكمال المنهج الذي وضعه لنقد اللغة على نمط منهج أهل الحديث، فتحدث عن آداب اللغوي في مقابلة آداب المحدث عند أهل المصطلح «1» ، ثم كتابة اللغة وقد تحدث فيه عن تاريخ الكتابة عند العرب وفضل تعلمها
…
إلى آخره، ثم تناول التصحيف والتحريف في اللغة كما يفعل أهل الحديث «2» ، ثم الطبقات والحفاظ والثقات والضعفاء وقد ألف المحدثون في ذلك المطولات والمختصرات وبحثوه في مصطلحهم «3» ، ثم الأسماء والكنى والألقاب والأنساب التي تتصل أيضا بنقلة اللغة كما يفعل أهل الحديث «4» ، والمؤتلف والمختلف المتصل بنقلة اللغة كما يدرسه أهل الحديث متصلا بنقلتهم «5» ، والمتفق والمفترق «6» والمواليد والوفيات «7» ، وهذه المباحث تتصل برجال اللغة ورواتها.
وقد خصص السيوطي بعد ذلك قسما للحديث عن الشعر والشعراء باعتبار الشعر يمثل جزء من مادة اللغة التي تنقل، وباعتبار الشعراء من قائلي اللغة الذين ينقل عنهم، ولم ينس أن يتناول أغلاط العرب في آخر مباحثه.
وجدير بنا أن ننبه على أن كتاب السيوطي لم يقتصر على تقسيمات اللغة حسب منهج نقد الرواية الذي يحاكي مصطلح الحديث، بل إن كثيرا من الأقسام تتناول موضوعات لا تتصل بهذا المنهج لا سيما الموضوعات الثلاثة عشر التي تدرس اللغة من حيث المعنى وغيرها، كما أن بعض الموضوعات التي تناول فيها اللغة تحت أقسام أهل المصطلح احتوت كثيرا من الأبحاث اللغوية الهامة لا ينبئ عنوان البحث عنها كما في القسم الأول: الصحيح من اللغة. وعدم
(1) مقدمة ابن الصلاح ص 118.
(2)
مقدمة ابن الصلاح ص 140.
(3)
المصدر السابق ص 193.
(4)
نفس المصدر ص 164.
(5)
نفس المصدر ص 172.
(6)
نفس المصدر ص 179.
(7)
نفس المصدر ص 7، 8.