الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
الصلة بين اللفظ والمعنى
قدر اللغويون العرب أن هناك مناسبة طبيعية بين اللفظ ومدلوله، أي بين الأداء الصوتي للكلمة وكيفية هذا الأداء وبين معنى الكلمة، وقد بينا عند حديثهم في الاشتقاق ربطهم الزيادة في حروف اللفظ أو حركاته أو النقص فيها بالزيادة أو النقص في المعنى، وهنا تبدو هذه الفكرة التي تهتم بصوتية اللغة أكثر جلاء حيث يتناولها ابن جني موضحا الصلة بين أصوات الكلمة وبين معناها وذاكرا سبق الخليل وسيبويه إلى التنبيه إلى هذه الفكرة «1» ، وقد أشار سيبويه من قبل إلى أن المصادر التي اشتركت في معنى واحد، وهو الحركة والاضطراب قد اشتركت في مقال واحد هو الفعلان، ويتضح من حديث سيبويه أن التقارب في المعنى يؤدي إلى الاشتراك في المثال الذي يأتي عليه المصدر «2» .
وقد نقل ابن جني عن سيبويه بعض ما ذكره، وتوسع في إيراد الأمثلة التي تعضد هذا التصور فذكر أن الأفعال الرباعية المضعفة تأتي للتكرير كالزعزعة والقلقلة وغيرها، فالمثال المكرر للمعنى المكرر، وبين المناسبة بين استعمال صيغة «استفعل» للطلب وبين معنى الطلب، والمناسبة بين تضعيف العين في مثل فرّح وبشّر وبين تقوية المعنى فكأنهم جعلوا قوة اللفظ لقوة المعنى، بالاضافة إلى الأمثلة العديدة التي استعملت فيها الألفاظ بما يشاكل أصواتها من الأحداث فالخضم لأكل الرطب، والقضم لليابس
…
إلى آخر ما أورده.
وقد نقل السيوطي خلاصة هذا الباب عن ابن جني، ويبدو لديه الميل إلى هذه الفكرة التي تذهب إلى وجود المناسبة بين اللفظ ومدلوله، ولذلك فقد أتبع ما نقله عن ابن جني بذكر مجموعة كبيرة من الأمثلة التي تؤيد ما ذهب إليه
(1) الخصائص ج 2 ص 152 - 168، امساس الألفاظ أشباه المعاني.
(2)
كتاب سيبويه ج 2 ص 228، 229 (طبعة باريس).
سابقه وقد ذكر نسبة هذا القول إلى عباد بن سليمان من المعتزلة، وبين أن جمهور اللغويين يكادون يطبقون على ثبوت المناسبة بين الألفاظ وبين المعاني، والفرق بين
مذهبهم وبين مذهب عباد أنه يراها ذاتية موجبة بخلافهم «1» .
والقائلون بهذه النظرية وزعيمهم ابن جني يذهبون إلى وجود هذه الصلة في جميع ألفاظ اللغة فهو يقول: «فإن أنت رأيت شيئا من هذا النحو لا ينقاد لك فيما رسمناه، ولا يتابعك على ما أوردناه فأحد أمرين: إما أن تكون لم تنعم النظر فيه فيقعد بك فكرك عنه، أو لأن لهذه اللغة أصولا وأوائل فقد تخفى عنا، وتقصر أسبابها دوننا كما قال سيبويه» «2» .
وهذا القول يعني وجود مناسبة بين اللفظ والمعنى قد تقرب فيمكن إدراكها لكونها ظاهرة، وقد تبعد فيمكن إدراكها بالتأمل، أو لا يمكن إدراكها لإمكان تطور هذه الألفاظ عن أصول كانت تتضح فيها هذه المناسبة بين اللفظ ومدلوله وأحدث التطور فيها بعض التغيير الذي جعل إدراك هذه المناسبة بعيدا.
وهذه النظرية تتصل في الواقع بالقول بنشأة اللغة عن الأصوات الطبيعية، ولكن ذلك لا يعني أن القائلين بوجود المناسبة بين اللفظ ومدلوله يقولون بنشأة اللغة عن هذه الأصوات، فجمهور اللغويين يرون هذه الصلة بين اللفظ ومدلوله بينما يذهبون في نشأة اللغة مذهبا آخر، وابن جني نفسه الذي حكى نظرية نشأة اللغة على هذا النحو لم يقطع بقبوله لها وإنما ذكر أنه «وجه صالح ومذهب متقبل» وأتبع ذلك مستدركا بما يبين توقفه وعدم ترجيحه أحد القولين «3» .
ويتضح مذهب السيوطي فيما عقب به على الأمثلة التي نقلها إذ يقول:
«فانظر إلى بديع مناسبة الألفاظ لمعانيها، وكيف فاوتت العرب في هذه الألفاظ المقترنة المتقاربة في المعاني، فجعلت الحرف الأضعف فيها والألين والأخفى والأسهل والأهمس لما هو أدنى وأقل وأخف عملا أو صوتا، وجعلت الحرف
(1) المزهر ج 1 ص 47.
(2)
الخصائص ج 2 ص 164.
(3)
الخصائص ج 1 ص 47.
الأقوى والأشد والأظهر والأجهر لما هو أقوى عملا وأعظم حسا، ومن ذلك المدّ والمطّ، فان فعل المط أقوى، لأنه مدّ وزيادة جذب، فناسب الطاء التي هي أعلى من الدال» «1» ، ثم اختتم الأمثلة الكثيرة التي نقلها للتدليل على المناسبة بين اللفظ والمعنى بقوله:«فانظر إلى هذه الفروق وأشباهها باختلاف الحرف بحسب القوة والضعف وذلك في اللغة كثير جدا، وفيما أوردناه كفاية» «2» .
نستخلص من هذا أن السيوطي قد استوعب نظرات السابقين في هذا المبحث أيضا، وقد ذهب إلى إثبات المناسبة بين اللفظ والمعنى، على النحو الذي بينه ابن جني، أي أنّ ثمة صلة بين الألفاظ والمعاني لكنها ليست ذاتية أو طبيعية، وأقوال الأصوليين (علماء أصول الفقه) والتي نقل السيوطي جانبا منها تتخذ موقفا واضحا من هذه القضية، إذ يرون أن هذه الصلة عرفية اعتباطية بحيث لو أطلق لفظ الكفر على الإيمان ولفظ الإيمان على الكفر لكان ذلك ممكنا.
والواقع أن فكرة الصلة بين اللفظ والمعنى قد شغلت الباحثين في اللغة- ذلك النظام الصوتي العجيب- في القديم والحديث، فقد تصور بعض اليونانيين القدماء وجود صلة طبيعية ذاتية بين اللفظة ومعناها، وذهب آخرون إلى أنها لا تحدو أن تكون صلة اصطلاحية عرفية «3» .
وقد رأينا من انتصر- في العربية- لفكرة الصلة الذاتية وهو عباد بن سليمان الصيمري.
ويكاد جميع اللغويين العرب يطبقون على ثبوت نوع من المناسبة بين اللفظ والمعنى على النحو الذي بيّن مظاهره ابن جني بيد أنهم يخالفون عبادا في كون هذه الصلة موجبة وهو مرتبط بقول المعتزلة بمراعاة الأصلح في أفعال الله تعالى وجوبا، وأهل السنة يقولون بمراعاة الأصلح في أفعال الله تعالى منا منه وفضلا وليس وجوبا «4» ، كما ينكرون كون هذه المناسبة ذاتية لأن اللفظ لو دل بذاته
(1) المزهر ج 1 ص 53.
(2)
المزهر ج 1 ص 55.
(3)
د. إبراهيم أنيس: دلالة الألفاظ ص 58.
(4)
المزهر ج 1 ص 47، 48.
لفهم كل واحد كل اللغات لعدم اختلاف الدلالات الذاتية، واللازم باطل فالملزوم كذلك «1» .
وكثير من أبحاث القدماء تسير على هدى من هذه الفكرة التي يتلمس أصحابها المناسبة والصلة بين اللفظ ومدلوله، فأبحاثهم في الاشتقاق بنوعيه وبحث الاشتقاق الكبير الذي تناوله ابن جني، والذي توسع فيه ابن فارس في معجم المقاييس وحاول إرجاع المواد المشتركة في الحروف على الرغم من هيئاتها المختلفة وفروعها المتنوعة إلى أصل واحد أو إلى أصلين لاشتراكها أصلا في مجموعة من الأصوات المعينة، وقد بدا في كثير من هذه المواد كثير من التعسف في محاولة ردها إلى أصول مشتركة، كذلك ما قام به ابن دريد الذي حاول في كتابه الاشتقاق تعليل الأسماء العربية كأسماء القبائل والأمكنة وإيجاد المعاني التي ترجع إليها هذه الألفاظ، وكثير من الأبحاث غير ما قدمنا تراعي هذه المناسبة وتحاول إثباتها أو تلمس بعض جوانبها أو مظاهرها.
وفي الحديث نجد يسبرسن يتناول هذه الفكرة «2» ، فيعرض رأي همبلت الذي يذهب إلى أن اللغات بوجه عام تؤثر التعبير عن الأشياء عن طريق ألفاظ أثرها في الآذان يشبه أثر تلك الأشياء في الأذهان، ويتضح من عرض يسبرسن وحديثه ميله لفكرة المناسبة الطبيعية بين اللفظ ومدلوله، إلا أنه حذر من المغالاة في هذا إذ إن هذه الظاهرة لا تكاد تطرد في لغة من اللغات، كما أن بعض الكلمات تفقد هذه الصلة على مر الأيام. وقد تناولها إبراهيم أنيس فعرض أفكار السابقين من اليونان والعرب وعلماء اللغة من الأوربيين المحدثين، وذكر ممن عارضها بشدة دي سوسير إذ رأى هذه الصلة اعتباطية لا تخضع لمنطق أو نظام مطرد، وقد بين الباحث الأسباب التي تدفع إلى التفكير في وجود الصلة الطبيعية بين اللفظ ومدلوله، ومال إلى القول ببطلان هذه النظرية، وأورد بعض
(1) المزهر ج 1 ص 16.
(2)
OttoJespersen: Language: ItsNatureDevelop mentandOrigin، chapterXX: SoundSymbolism، P 396.
الأدلة التي تدعم وجهة نظره وبين أن ما تثيره الألفاظ في أذهان السامعين من دلالات إنما يرجع إلى اعتبارات كثيرة متنوعة، وليست هناك صلة طبيعية كما يقولون «1» .
(1) د. إبراهيم أنيس: دلالة الألفاظ ص 58 - 70.