المَكتَبَةُ الشَّامِلَةُ السُّنِّيَّةُ

الرئيسية

أقسام المكتبة

المؤلفين

القرآن

البحث 📚

‌الحياة السياسية والاجتماعية - جلال الدين السيوطي عصره وحياته وآثاره وجهوده في الدرس اللغوي

[طاهر سليمان حمودة]

فهرس الكتاب

- ‌[هوية الكتاب]

- ‌تصدير

- ‌مقدمة

- ‌الباب الأول عصر السيوطي وحياته، وآثاره

- ‌الفصل الأول

- ‌الحياة السياسية والاجتماعية

- ‌الخلافة:

- ‌ نظم الحكم

- ‌القضاء:

- ‌الحياة الاجتماعية

- ‌بناء المجتمع:

- ‌أرباب القلم:

- ‌التجار:

- ‌الصناع وأرباب الحرف:

- ‌العوام

- ‌أهل الذمة:

- ‌الفلاحون:

- ‌ الأعراب

- ‌الأقليات الأجنبية:

- ‌الحياة في المدن:

- ‌القلق الاقتصادي:

- ‌المجاعات والأوبئة:

- ‌التصوف والمجتمع:

- ‌الفصل الثاني

- ‌الحياة الثقافية

- ‌ دور العلم

- ‌1 - المدارس:

- ‌المدرسة الصلاحية

- ‌مدرسة السلطان حسن

- ‌مدرسة صرغنمش:

- ‌خزائن الكتب:

- ‌2 - الخوانق والربط والزوايا:

- ‌خانقاه سعيد السعداء

- ‌خانقاه شيخو

- ‌الخانقاه البيبرسية

- ‌3 - الجوامع:

- ‌ جامع عمرو

- ‌جامع ابن طولون

- ‌الجامع الأزهر:

- ‌[نتائج نشاط الحركة العلمية]

- ‌1 - وفود الطلاب إلى معاهد العلم:

- ‌2 - كثرة العلماء والأدباء:

- ‌3 - نشاط الحركة التأليفية:

- ‌[منهج التاليف فى العصر]

- ‌1 - الاتجاه الموسوعي:

- ‌2 - ظاهرة التقليد:

- ‌3 - ظاهرة المتون والشروح:

- ‌4 - الاكمالات والتذييلات:

- ‌5 - تنظيم العلوم واستقرار المصطلحات:

- ‌6 - العناية بتاريخ مصر:

- ‌الحياة الأدبية

- ‌ الخطبة

- ‌الرسائل

- ‌المقامة:

- ‌الفصل الثالث

- ‌حياته وثقافته وآثاره

- ‌مولده ونسبه:

- ‌ والده

- ‌‌‌نشأتهوحياته العلمية والعملية

- ‌نشأته

- ‌دراسته:

- ‌شيوخه:

- ‌1 - ابن حجر العسقلاني:

- ‌2 - علم الدين البلقيني:

- ‌3 - شرف الدين يحيى المناوي:

- ‌4 - تقي الدين الشّمنيّ الحنفي:

- ‌5 - محيي الدين الكافيجي:

- ‌6 - سيف الدين الحنفي:

- ‌مراحل حياته

- ‌العزلة الأخيرة:

- ‌وفاته:

- ‌قبر السيوطي:

- ‌صفة المقام:

- ‌مكانه في المجتمع

- ‌السيوطي بين أنصاره وخصومه:

- ‌دعوى الاجتهاد:

- ‌خلقه وشخصيته:

- ‌منهجه في التفكير وأصول هذا المنهج

- ‌فكرة المبعوثية:

- ‌السيوطي وعلوم الحديث

- ‌السيوطي والتصوف:

- ‌السيوطي الفقيه:

- ‌السيوطي والأدب:

- ‌السيوطي الشاعر:

- ‌آثار السيوطي

- ‌الباب الثاني جهوده اللغوية

- ‌تقديم:

- ‌الفصل الأول

- ‌فقه اللغة أو: «الدراسات اللغوية غير النحو والصرف»

- ‌تقديم:

- ‌آثاره اللغوية ومكانها من حياة الدرس اللغوي

- ‌1 - المتوكلي فيما ورد في القرآن باللغة

- ‌2 - المهذّب فيما ورد في القرآن من المعرّب:

- ‌3 - بعض الأبحاث اللغوية المتصلة بالقرآن الكريم:

- ‌4 - رسالة في أصول الكلمات:

- ‌5 - التبري من معرّة المعري:

- ‌6 - التهذيب في أسماء الذيب:

- ‌7 - فطام اللسد في أسماء الأسد:

- ‌8 - الافصاح في أسماء النكاح:

- ‌9 - الافصاح في زوائد القاموس على الصحاح:

- ‌10 - الالماع في الاتباع كحسن بسن في اللغة:

- ‌11 - حسن السير فيما في الفرس من أسماء الطير:

- ‌12 - غاية الاحسان في خلق الانسان:

- ‌13 - شرح قصيدة بانت سعاد:

- ‌14 - الرياض الأنيقة في شرح أسماء خير الخليقة:

- ‌15 - الشماريخ في علم التاريخ:

- ‌16 - المزهر في علوم اللغة وأنواعها:

- ‌منهج السيوطي في المزهر:

- ‌وضع أصول لنقد الرواية اللغوية

- ‌المرحلة الأولى: النقد الخارجي:

- ‌أ- رواة اللغة:

- ‌ب- الأسانيد:

- ‌المرحلة الثانية: النقد الداخلي أو نقد المتن:

- ‌مفهوم اللغة عند السيوطي

- ‌الألفاظ

- ‌المعنى أو الدلالة اللغوية

- ‌الأضداد:

- ‌ضبط اللغة

- ‌نشأة اللغة

- ‌الصلة بين اللفظ والمعنى

- ‌الوضع اللغوي

- ‌المعاجم اللغوية

- ‌اثبات الأسماء بالقياس

- ‌الفصل الثاني

- ‌النحو

- ‌آثاره النحوية

- ‌1 - الأخبار المروية في سبب وضع علم العربية:

- ‌2 - الأشباه والنظائر في النحو:

- ‌3 - الاقتراح في علم أصول النحو:

- ‌4 - الفريدة:

- ‌5 - المطالع السعيدة في شرح الفريدة:

- ‌6 - شرح ألفية ابن مالك

- ‌7 - جمع الجوامع وشرحه همع الهوامع:

- ‌8 - النكت على الألفية لابن مالك، والكافية والشافية لابن الحاجب، وشذور الذهب ونزهة الطرف لابن هشام:

- ‌9 - الفتح القريب على مغني اللبيب:

- ‌10 - شرح شواهد المغني:

- ‌11 - الشمعة المضية في علم العربية:

- ‌12 - الموشح في علم النحو:

- ‌ الفتاوى النحوية

- ‌رسائل الحاوي:

- ‌1 - فجر الثمد في إعراب أكمل الحمد

- ‌2 - ألوية النصر في «خصيصى» بالقصر

- ‌3 - الزّند الوري في الجوانب عن السؤال السكندري

- ‌4 - رفع السنة في نصب الزّنة

- ‌بقية الآثار:

- ‌السيوطي وعلم أصول النحو

- ‌مذهبه النحوي

- ‌خاتمة

- ‌ثبت المصادر والمراجع

- ‌أولا: أسماء مؤلفات السيوطي

- ‌ثانيا: المصادر العربية والمترجمة (لغير السيوطي)

- ‌ثالثا: المصادر الأجنبية

الفصل: ‌الحياة السياسية والاجتماعية

‌الفصل الأول

‌الحياة السياسية والاجتماعية

لا بد لنا قبل البدء في الحديث عن حياة السيوطي وآثاره أن نتناول بالحديث البيئة التي عاش فيها ونبت بين ربوعها والتي انعكست آثارها ومقوماتها- بلا شك- فيها أنتجه من دراسات متنوعة لغوية كانت أو غير لغوية.

والحديث عن البيئة أعني به إعطاء صورة واضحة لجوانب الحياة المختلفة، فهذه الجوانب مرتبطة متصلة الأمشاج يؤثر بعضها في بعض.

ولئن حاولنا أن نبدأ بأحد هذه الجوانب فإن الأمثل في تصوري أن يكون بالجانب السياسي لهذه البيئة لأنه يمثل الإطار الخارجي لجميع جوانب الحياة الأخرى، وتناول الجانب السياسي يقتضي منا أن نرجع قليلا عبر الزمان لنرى بداية هذا النظام الذي ساد البيئة المصرية وبيئة الشام قرابة ثلاثة قرون من الزمان.

وليست محاولة الرجوع للتعرف على هذه النشأة رغبة في الإطالة فيما قد يبدو بعيد الأثر عن بحث يتناول الجانب اللغوي عند عالم من العلماء ويصب عنايته الجليّ على هذه الناحية، ولكنها في حقيقة الأمر وقفة على حقيقة معينة كانت ذات أثر بالغ في هذا العصر كله، ولا يمكن لمن يتصدى لدراسة أي ناحية فيه أن يغفل هذه الحقيقة.

تلك الحقيقة التي نريد التنبيه إليها هي سقوط بغداد على أيدي التتار الذين اجتاح غزوهم العالم الاسلامي في القرن السابع الهجري، ولقد اتخذت الغزوات المغولية طابعا وحشيا عنيفا يدمر كل ما يجد من حضارات، ويهدم ما يلقى من بناء.

ص: 17

ولقد استطاع التتار قبل وصولهم إلى بغداد أن يقضوا على الدولة الخوارزمية وأن يسيطروا على إيران، وبذلك جاء دور بغداد.

وقد تعرضت بغداد لهجوم التتار في عام 635 هـ وبعث الخليفة بجيش مني بالهزيمة وقتل أكثر جنوده وفر الباقون من وجه المهاجمين «1» ، ولم يلبث التتر أن عاودوا هجومهم على بغداد في سنة 656 هـ بقيادة هولاكو الذي استولى على بغداد وقتل الخليفة المستعصم بالله آخر الخلفاء العباسيين ببغداد. «2»

وتفيض المراجع العربية بذكر الفظائع التي ارتكبها المغول بسائر الأقاليم التي تعرضت لغزوهم فقد تعرضت بغداد للتخريب في شتى مرافقها، وجرت الدماء في الطرقات واستمرت إباحة المدينة للغزاة أربعين يوما حتى أمر هولاكو بعدّ القتلى فبلغت الألفي ألف قتيل «3» (أي مليونين من القتلى)، ومهما يكن من أمر هذا العدد ومدى صحته فإنه يعطي صورة لكثرة القتلى وما أقامه المهاجمون من مذابح بشرية.

وهكذا سقطت الخلافة العباسية في بغداد، ولم يكن سقوطها في حقيقة الأمر يعني نهاية حكم العباسيين وحسب بقدر ما كان يعني حدثا خطيرا هز كيان العالم الاسلامي كله، ذلك أن الخلافة الاسلامية التي آل أمرها إلى المستعصم آخر خلفاء بغداد كانت تمثل رمزا دينيا لوحدة المسلمين، على الرغم مما كان عليه هؤلاء الخلفاء من ضعف جعل غيرهم ينفرد بالسلطة الفعلية دونهم، وبالرغم من انقسام الأقاليم الاسلامية إلى دويلات متعددة تخضع لحكام متفرقين متناحرين فيما بينهم على ازدياد النفوذ في كثير من الأحيان.

ولقد شعر المسلمون بمدى الخسارة التي لحقتهم بسقوط بغداد على أيدي التتار الذين دمروا كل ما كان الخلفاء العباسيون قد جمعوه خلال خمسة قرون «4» ،

(1) المقريزي: السلوك لمعرفة دول الملوك ج 1 القسم الثاني ص 273.

(2)

المقريزي: السلوك ج 1 القسم الثاني ص 409، تاريخ الخلفاء ص 313.

(3)

المقريزي: السلوك ج 1 القسم الثاني ص 410.

(4)

أبو الفداء: مختصر تاريخ البشر: حوادث عام 656 هـ، ج 3 ص 202.

ص: 18

ولم يقف الغزو المغولي عند هذا الحد بل تعداه إلى بلاد الشام حيث أخذت مدن الشام تتساقط في أيديهم ويحدث بها من الفظائع والتخريب وسفك الدماء مثلما حدث ببغداد «1» .

ولقد كانت هذه الغزوات تسبق بموجات من الفزع تعتري سكان البلاد مثلما حدث بدمشق بعد سقوط حلب حيث ارتحل أغلب سكانها، وارتحل كثيرون من غيرها إلى مصر، وتفيض الكتب العربية بوصف المآسي التي حدثت للناس في هذه الظروف السيئة «2» .

ووصل الغزو المغولي إلى غزة وجاء دور مصر التي كان يحكمها المماليك الذين استطاعوا أن يستأثروا بالسلطة دون البيت الأيوبي، وفي هذه الظروف الحرجة استطاع سيف الدين قطز أن يتملك زمام الأمور وأن ينحي سلفه مستندا إلى أن المسلمين في حاجة إلى زعيم قوي يوحد صفوفهم ضد الغزو المغولي «3» ، الذي كان يهدد المسلمين فضلا عن مساندته للصليبيين وتقويته جانبهم «4» .

وحضر رسل هولاكو يطلبون من السلطان التسليم بكتاب يتهددون فيه ويتوعدون ويطلبون إليه تسليم مصر لهم «5» ، وكان أن قبض السلطان على الرسل وقتلهم وأبدى كثيرا من الشجاعة ورباطة الجأش في جمع الصفوف والدعوة إلى الجهاد على الرغم مما كان يحاوله بعض الأمراء من النكوص عن الجهاد والتخاذل «6» .

ولم يكن ثمة مناص من حدوث الصدام المسلح بين التتار والمماليك، وقد أظهر الأخيرون تماسكا في وجه عدوهم وتناسوا في تلك المرحلة الحرجة ما كان بينهم من خلافات، وبدءوا في الزحف لملاقاة عدوهم حتى انتهى بهم المسير إلى

(1) المقريزي: السلوك ج 1 القسم الثاني ص 418، 419.

(2)

المصدر السابق، ص 415، 416، السيوطي: تاريخ الخلفاء ص 314 - 315.

(3)

المقريزي: السلوك ج 1 ص 418، ابو المحاسن: النجوم الزاهرة ج 7 ص 55.

(4)

السلوك: ص 425 وسعيد عاشور: العصر المماليكي ص 29.

(5)

نص الكتاب بالسلوك ص 427 - 428.

(6)

المصدر السابق ج 1 ص 429.

ص: 19

عين جالوت بين بيسان ونابلس حيث حدثت الموقعة التي تعد من أهم معارك المسلمين في تاريخهم بوجه عام، وقد استطاع المسلمون بقيادة السلطان قطز، وبحسن بلاء بيبرس أن يحرزوا انتصارا ساحقا على عدوهم وأن يتابعوا عدوهم قتلا وأسرا ويلحقوا به هزيمة ثانية قاضية عند بيسان. «1»

وقد يبدو أنني قد فصلت إلى حد ما القول في معركة عين جالوت بالرغم من بعدها نسبيا عن العصر الذي نود لو نرسم صورة واضحة لمعالمه ولكن حقيقة الأمور تستدعي أن نلقي الضوء على هذا الحدث لما كان له من أثر في العصر المملوكي بصفة عامة، فلقد ترتب على هذه الموقعة آثار خطيرة منها أن المماليك قد بسطوا نفوذهم على مصر والشام كما أنهم بفضل هذا الانتصار أكسبوا حكمهم صفة الشرعية التي كانوا يفتقرون إليها في نظر الشعب لأنهم مغتصبون للبيت الأيوبي من جهة، وأنهم من أصل غير حر من جهة أخرى، ولقد كانت النقطة الأخيرة سببا في ثورة الأعراب عليهم قبل هذه الموقعة بقليل «2» .

وإذا كان أثر هذه المعركة هو استتباب الأمر للمماليك حكاما للبلاد فإن لها آثارا أخرى سياسية وحضارية في البيئة المصرية بوجه عام وفي القاهرة بوجه خاص.

وإذا كانت القاهرة هي المدينة التي نشأ فيها السيوطي وتلقى علمه وتأثر بها وأثر فيها، فإن هذه المدينة قد اكتسبت كثيرا من المميزات على أثر هذا الانتصار، وظلت تتمتع بهذه المميزات طيلة عصر المماليك، فقد احتفظت القاهرة بما لها من حضارة وحيوية حيث لم تمتد إليها معاول التدمير المغولي التي شملت غيرها من مدن الشرق الاسلامي، وأصبحت ملجأ وملاذا للعلماء والمفكرين وسائر الناس الفارين من وجه الغزاة، وبحكم الحالة السياسية فقد أصبحت مصر والشام دولة واحدة قوية تعقد عليها آمال المسلمين في الشرق

(1) نفس المصدر ج 1 ص 431، أبو المحاسن: النجوم الزاهرة ج 7 ص 79، السيوطي: تاريخ الخلفاء ص 316.

(2)

المقريزي: السلوك ج 1 ص 386 - 388.

ص: 20

والغرب حيث لم يكن للمسلمين دولة ذات شوكة غيرها، فالعراق في الشرق تحت حوزة المغول وكذلك سائر الممالك الاسلامية الشرقية، والأندلس في الغرب تعاني من التفكك وتلفظ أنفاسها الأخيرة، وهكذا فإن الثقل السياسي والحضاري للمسلمين بصفة عامة قد انتقل إلى القاهرة حيث عاصمة البلاد القادرة على حماية المسلمين.

وحلت القاهرة محل بغداد في كل شيء وأصبحت وارثة لها في تركتها سياسيا وحضاريا وثقافيا، وإكمالا لهذه الصورة فلقد انتقلت الخلافة العباسية كذلك من بغداد إلى القاهرة، وحرص المسلمين على الخلافة التي تمثل وحدتهم جميعا يتضح من حديثهم عن سقوط خلافة بغداد وكيف «أقامت الدنيا بلا خليفة ثلاث سنين ونصف سنة» «1» حتى تولى الخلافة أحد أبناء الخلفاء السابقين ببغداد حيث قصد إلى القاهرة وتلقاه سلطانها الظاهر بيبرس واستقبله العلماء والجند وسائر طوائف الشعب أروع استقبال فرحا بإحياء الخلافة «2» . وهكذا انتقلت الخلافة الإسلامية التي كانت في هذا الحين رمزا دينيا سياسيا وحسب إلى القاهرة منذ عهد بيبرس سنة 659 هـ وأصبح أحد مناصب الدولة الرئيسية، وظل الحال على ذلك حتى آخر هذا العصر إلى حين قدوم السلطان سليم العثماني في سنة 923 هـ. وإذا كان الخليفة في العصور الإسلامية المبكرة هو صاحب السلطة الحقيقة في تدبير شئون البلاد التي تتبعه وتولية ولاة الأقاليم وعزلهم وتسيير الجيوش والغزوات فإن ضعف الخلفاء في بغداد أواخر عهدهم قد أفقدهم هذه السلطة كما أن الخلافة الجديدة بمصر لم تكن لديها هذه القوة، وعلى الرغم من ذلك فإن هذه الحقوق كانت لا تزال مكفولة للخلفاء من الناحية الشكلية النظرية، فالخليفة هو الذي يولي السلطان ولا يكون تولي السلطان شرعيا إلا باقرار الخليفة.

وقد روعي ذلك منذ تولي أول خليفة فبعد مبايعة السلطان والعلماء والأمراء للخليفة قام هو بدوره فألبس «السلطان بيده خلعة سوداء وعمامة سوداء وطوقا

(1) السيوطي: حسن المحاضرة ج 2 ص 57.

(2)

السلوك: ج 1 ص 499، حسن المحاضرة ج 2 ص 58، تاريخ الخلفاء ص 317.

ص: 21

في عنقه من ذهب وقيدا من ذهب في رجليه، وفوض إليه الأمور في البلاد الاسلامية، وما سيفتحه من بلاد الكفر وسماه بقسيم أمير المؤمنين» «1» ، وظل هذا التقليد ساريا منذ تولي الظاهر بيبرس وحتى آخر سلاطين المماليك وهو السلطان الغوري. «2»

وهكذا استقرت الخلافة الاسلامية بالقاهرة بالاضافة إلى ما تمتعت به البلاد من قوة سياسية وعسكرية وكان ذلك يعني ما أشرنا إليه من ازدهارها واتجاه المسلمين إليها وهو ما أدركه المؤرخون السابقون المعاصرون لهذه الأحداث الذين ذكروا «أن مصر حين صارت دار الخلافة عظم أمرها وكثرت شعائر الاسلام فيها، وعلت فيها السنة، وعفت منها البدعة وصارت محل سكن العلماء، ومحط رحال الفضلاء» «3» .

وإذ كنا قد أوضحنا جانب الخلافة وبداية هذه الدولة فلا يضيرنا هنا أن نشير إلى سلاطينها وخلفائها وأن نتناول توضيح المعالم السياسية لهذه الدولة لا سيما في آخر

عهدها لنخص بالحديث الفترة التي عاصرها السيوطي.

وقد تميز هذا العصر بصفة عامة بالعصبيات بين طوائف المماليك المختلفة والتناحر من أجل الوصول إلى السلطة، وأهم هذه العصبيات ما كان بين طوائف المماليك الترك وطائفة المماليك الجراكسة وما لقيه الأخيرون من اضطهاد في أيام حكم أبناء قلاوون «4» . على أن هذا الاضطراب الداخلي قد استمر أيضا بعد تولي برقوق أول المماليك الجراكسة، فقد كان الوصول إلى العرش يتم دائما عن طريق العصبيات وازدياد النفوذ بين أمراء المماليك، ولذلك فإن الفتن السياسية الداخلية لم تنقطع خلال هذه المرحلة «5» ، فالأمير القوي الذي يستطيع

(1) السيوطي: حسن المحاضرة ج 2 ص 58.

(2)

السيوطي: المصدر السابق ج 2 ص 87.

(3)

المصدر السابق: ج 2 ص 86.

(4)

سعيد عاشور: العصر المماليكى ص 137 - 145.

(5)

عبد الوهاب حمودة: صفحات من تاريخ مصر في عصر السيوطي ص 3 - 4.

ص: 22

أن يؤلب طوائف المماليك على غيره وأن يجمع غالبيتهم حوله هو الذي يستطيع الوصول إلى دست السلطنة بعد وفاة السلطان أو بتنحيته عن الحكم.

وهكذا فلقد كانت الفتن الداخلية والمنازعات بين أمراء المماليك من أجل الوصول إلى دست السلطنة هي طابع ذلك العصر «1» ، ولم تكن تخمد هذه الفتن إلا في خلال حكم سلطان قوي يستطيع بدهائه وقوته مواجهة هذه الصعاب والتغلب عليها. وفضلا عن هذه الفتن الداخلية فلقد طبع هذا العصر ببعض الاضطرابات الخارجية التي تعود سلاطين المماليك مواجهتها وهي خروج أمراء الشام على طاعتهم، وكذلك تعرض البلاد لغزوات المغول، ولغارات الأعراب المتكررة «2» ، ثم ظهرت منافسة سلاطين آل عثمان الذين قويت شوكتهم واتجهوا للغزو توسيعا لرقعة دولتهم وأصبح سلاطين المماليك يجدون فيهم منافسا خطيرا لهم.

وقد عاصر السيوطي في طفولته مجموعة من السلاطين الذين كان لهم حكم البلاد «3» ، وقد شهدت هذه الفترة تولية عدد كبير منهم لم يكن يستقر بهم المقام في دست السلطنة طويلا، حتى أقيم «سلطان العصر الملك الأشرف قايتباي المحمودي» «4» ، والحقيقة أن أهم السلاطين الذين عاصرهم السيوطي هو قايتباي (872 - 901 هـ)، وهو أطول ملوك هذه الفترة حكما، وأصله من مماليك الأشرف برسباي، وغريب ألا نجد لقايتباي ترجمة في كتاب السيوطي الذي ترجم فيه لأعيان القرن التاسع «5» ، بالرغم من أنه لم يغفل كثيرا من معاصريه ومن سلاطين عصره من الأتراك والمغول والمماليك ويبدو أنه قد أفرده بترجمة.

وقد امتدحه كثير من المؤرخين فأشاد بحسن تدينه وحبه للخير وتعففه عن

(1) د. سعيد عاشور: العصر المماليكي ص 323.

(2)

المصدر السابق ص 4.

(3)

تحدث عنهم في حسن المحاضرة ج 2 ص 106، وهؤلاء السلاطين ذكرهم ابن إياس في حوادث تلك الأعوام، راجع: تاريخ مصر ج 2 ص 29 - 70.

(4)

السيوطي: حسن المحاضرة ج 2 ص 106، العصر المماليكي ص 172.

(5)

كتاب نظم العقيان في أعيان الأعيان.

ص: 23

الشهوات وكثرة حسناته فضلا عما لا ينكره أحد من كثرة ما أقام من إنشاءات وإصلاحات «1» ، ويعتبر أبرز سلاطين دولة المماليك الجراكسة، فقد امتد حكمه طيلة تسعة وعشرين عاما، ومن الجانب السياسي فقد كان ماهرا وموصوفا بأنه كان «كفؤا للسلطنة وافر العقل، سديد الرأي عارفا بأحوال المملكة، يضع الأشياء في محلها

موصوفا بالشجاعة عارفا بأنواع الفروسية» «2» وقد اضطرته حروبه الكثيرة إلى زيادة الضرائب في كثير من الأحيان، وكان ازدياد قوة آل عثمان سببا في حدوث بعض المنازعات بينهم وبين قايتباي وقد انتهت بمهادنة الطرفين في سنة 896 هـ «3» .

وفي أيام هذا السلطان في سنة 897 هـ أصاب البلاد وباء شديد وقد عاصر السيوطي هذا الوباء وذكر أنه «جمع في الموت بين كل ألفين، وبلغ عدد الموتى في كل يوم أزيد من ألفين، وقيل أكثر من ذلك .. » «4» .

ويفيض السيوطي في وصف هذا الطاعون وما أحدثه بالبلاد من خراب حتى أن نصف سكان القاهرة قد قضوا نحبهم بسببه، كما أن القرى والأقاليم لم تسلم منه ثم كان للاسكندرية نصيب في العام التالي من هذا الطاعون «5» ، وكان الوباء المشار إليه ثالث الأوبئة الجارفة التي أصابت البلاد في حكم قايتباي فقد كان أولها في عام 873 هـ، وحدث الثاني في عام 881 هـ، ويبدو أن هذه الأوبئة كانت سمة بارزة في هذا العصر وكانت تعتري الناس في فترات غير متباعدة حتى أن مدة خمس عشرة سنة بين وباءين تعتبر في في نظرهم مدة طويلة «6» .

(1) الشوكاني: البدر الطالع ج 2 ص 55 - 56 ترجمة السلطان قايتباي.

(2)

ابن إياس: بدائع الزهور ج 2 ص 298، د. سعيد عاشور، العصر المماليكي ص 174.

(3)

عبد الوهاب حمودة: صفحات من تاريخ مصر في عصر السيوطي ص 6.

(4)

السيوطي: المقامة الطاعونية ضمن مقامات السيوطي ص 69.

(5)

المصدر السابق ص 70 - 71.

(6)

المصدر السابق ص 69 حيث يقول «وكان للطاعون نحو خمس عشرة سنة لم يطرق هذين المصرين» ، انظر ابن اياس ج 2 ص 272 - 276.

ص: 24

وإن يكن السيوطي قد أغفل ترجمة السلطان قايتباي على ما يبدو فإنه لم يفته أن ينوه بذكره وأن يمتدحه في كتابه الذي ألفه بعد وفاته فذكر عنه أنه «سار في المملكة بشهامة وصرامة ما سار بها قبله ملك من الملوك من عهد الناصر محمد بن قلاوون .. ومن سيرته الجميلة أنه لم يولّ بمصر صاحب وظيفة دينية كالقضاة والمشايخ والمدرسين إلا أصلح الموجودين لها بعد طول تروية وتمهلة بحيث تستمر الوظيفة شاغرة الأشهر العديدة ولم يولّ قاضيا ولا شيخا بمال قط» «1» .

وجدير بالذكر هنا أن السخاوي معاصر السيوطي قد أثنى غاية الثناء على قايتباي في ترجمته له التي يبدو أنه كتبها في حياته فنوه بقوته وحسن تصرفه كما أشاد بحسن تدينه واعتقاده، وسيرته الحسنة في الرعية، وكثرة ما أقام من إصلاحات وانشاءات حتى قال فيه:«وبالجملة فلم يجتمع لملك ممن أدركناه ما اجتمع له، ولا حوى من الحذق والذكاء والمحاسن مجمل ما اشتمل عليه ولا مفصله» «2» ، أما ابن اياس الذي كتب تاريخ هذه الحقبة وكان معاصرا لها والذي كتب عن السلطان قايتباي بعيد وفاته فإنه يبدو في تاريخه أكثر اعتدالا وموضوعية حيث يشيد بحسناته ولا يغفل ذكر بعض مساويه ثم يقول:«وكانت محاسنه أكثر من مساويه» «3» .

وبالاضافة إلى ما ذكرنا من مميزات الفترة التي حكمها قايتباي من منافسة العثمانيين إلى انتشار الطواعين، فقد تميزت هذه الفترة بكثرة الضرائب وجمع الأموال للحروب وهذا ما جعل مؤرخا كابن إياس يذكر عنه أنه «كان محبا لجمع الأموال ناظرا لما في أيدي الناس ولولا ذلك لكان يعد من خيار الملوك» «4» .

كما أن هذه الفترة قد تميزت نسيبا باستقرار الأوضاع السياسية الداخلية وذلك إذا ما قورنت بالفترات السابقة واللاحقة، أو بعبارة أخرى إذا ما قورنت بطابع ذلك العصر الذي اصطبغ بالفتن والمؤامرات والحروب الداخلية بين أمراء

(1) السيوطي: تاريخ الخلفاء ص 342.

(2)

السخاوي: الضوء اللامع ج 6 ص 201 - 210.

(3)

ابن إياس: بدائع الزهور ج 2 ص 298.

(4)

المصدر السابق: ج 2 ص 298.

ص: 25

المماليك الطامعين في السلطنة. وحين طعن السلطان السابق في السن اتفق كبار أمراء المماليك على خلعه وتولية ابنه محمد الذي لقب بالناصر «1» ، وقد حاول أحد أمراء المماليك ويدعى قانصوه خمسمائة أن يتولى السلطنة وكاد يتم له الأمر وجمع الخليفة والقضاة الأربعة والأمراء وتمت له البيعة لولا أن تعصب بعض المماليك الجلبان بزعامة قانصوه خال السلطان الناصر واستطاعوا هزيمة خصومهم وبذلك عاد الناصر إلى سلطنته «2» ، ولم تطل بالرغم من ذلك سلطنة محمد بن قايتباي فقد تعرض لمؤامرة دبرها له مماليكه أودت بحياته «3» .

ويعطي ابن إياس صورة عن حالة الفوضى التي تعرضت لها البلاد فيذكر عن السلطان السابق أنه «كانت مدة سلطنته بالديار المصرية نحوا من سنتين وثلاثة أشهر وتسعة عشر يوما وكانت أيامه كلها فتنا وشرورا وحروبا قائمة» «4» ، وتولى بعده خاله قانصوه الأشرفي في ربيع الأول سنة 904 هـ «5» ، وقد كانت مدة حكمه سنة وثمانية أشهر، وقد صلحت أحوال البلاد في أيامه إذا ما قورنت بأيام.

سلفه، وقد كان ملكا لين الجانب «6» . وقد دفع الطمع في السلطة أحد كبار الأمراء وهو طومان باي إلى أن يثور في وجه السلطان السابق بعد أن جمع حوله المماليك، وحاول السلطان ترضيته ولكنه لم يفلح واستطاع طومان باي ومن معه من الجند أن ينزلوا الهزيمة بمن بقي بالقلعة من الجند عند السلطان بعد حصارها ثلاثة أيام، وكان طومان باي يطمع في السلطنة لولا وجود من هو أحق منه وهو جان بلاط، وهنا تعصب له طومان باي وولاه السلطنة «7» ، غير أنه لم يكن يكنّ له الولاء التام إذ لم يلبث أن ثار عليه وخلعه ليتولى مكانه حين آنس من نفسه قوة بمن معه من الجند الذين كان ذاهبا بهم لاخماد ثورة الشام، ولكنه اتفق مع

(1) ابن إياس: بدائع الزهور ج 2 ص 303، العصر المماليكي ص 176.

(2)

ابن إياس: بدائع الزهور ج 2 ص 309 - 311.

(3)

المصدر السابق ج 2 ص 348.

(4)

نفس المصدر ج 2 ص 349.

(5)

نفس المصدر ج 2 ص 350.

(6)

نفس المصدر ج 2 ص 369.

(7)

نفس المصدر ج 2 ص 368، 369.

ص: 26

أمراء الشام على خلع السلطان وبويع له هناك بالسلطنة ولم يلبث أن جاء بعسكره إلى مصر واستطاع الاستيلاء على مقاليد الأمور «1» .

ولم تطل أيام طومان باي في السلطنة إذ مكث ثلاثة أشهر «وكانت مدة سلطنته كلها شرور وفتن مع قصرها وآخر الأمر هرب واختفى واستمر مختفيا حتى ظهر وقبض عليه وقطعت رأسه» «2» ، وقد ثار عليه أمراء المماليك لما رأوا نيته السيئة حيالهم، وآل الأمر إلى أن تولى قانصوه الغوري السلطنة بعد تمنع وإباء خوفا على نفسه أن يحدث له ما حدث لأسلافه «3» ، وذلك في مستهل شوال سنة 906 هـ.

وجميع هؤلاء فيما عدا الغوري قد تولوا فترات قصيرة كما بينا مما يصور حالة الفوضى التي عمت الدولة في هذه الحقبة، ويفيض ابن اياس مؤرخ هذه الفترة في شتى المواضع في وصف الفتن والمؤامرات التي كانت لا تلبث تتحرك بين حين وآخر والحروب التي اشتعلت نيرانها أكثر من مرة بين الأمراء الطامعين في السلطنة.

وقد عمل الغوري على إعادة الاستقرار إلى البلاد، ووطّد أركان ملكه وما زال يحتال بمنافسيه حتى أفناهم «4» ، وقد حاول أن يملأ خزانة الدولة التي كانت فارغة واتبع في ذلك صنوف المظالم وانتهب أموال الناس وانقطعت بسببه المواريث، فضج أهل مصر ومن تحت طاعته من أخذه لأموالهم «5» .

ولم تحدث قلاقل داخلية في الفترة الأولى من حكم الغوري باستثناء بعض ثورات المماليك الجلبان، ولكن الخطر الحقيقي الذي هدد الدولة كان آتيا من ناحية البحر حيث اكتشف البرتغاليون طريق رأس الرجاء الصالح. وتحول مرور التجارة عن مصر وفقدت الدولة بذلك أعظم مورد لها، ولم يكتف البرتغاليون

(1) نفس المصدر ج 2 ص 383، 384.

(2)

ابن إياس: بدائع الزهور ج 2 ص 395 - 396.

(3)

المصدر السابق ج 4 ص 2 - 4.

(4)

الشوكاني: البدر الطالع ج 2 ص 54.

(5)

المصدر السابق ص 55.

ص: 27