الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
مذهبه النحوي
السيوطي نحوي متأخر نشأ في البيئة المصرية التي سبق لنا الحديث عن معالمها الثقافية والاجتماعية والسياسية، ولقد كانت هذه البيئة. وارثة الحضارة الاسلامية بصفة عامة كما بينا، وقد آل إليها ذلك التراث الثقافي الذي ازدهر في الأمصار الاسلامية المختلفة، فقامت هذه البيئة على تمثله وحفظه ودراسته وتنميته.
كان طبيعيا أن تتأثر دراسة النحو في مصر بهذا التراث الذي قامت على حفظه، ونحن نعرف أن هذه البيئة قد سبقتها بيئات أخرى توفرت على دراسة النحو.
وقد درج الباحثون على تسمية هذه البيئات النحوية بالمدارس، بالرغم مما في هذه التسمية من بعض التجوز حيث نلاحظ الفروق الفردية في بعض الأحيان أكثر ظهورا من الفروق المدرسية، فالأخفش البصري مثلا نراه يوافق الكوفيين في كثير من آرائه، ويخالف البصريين سلفه وخلفه، كما نرى الفراء الكوفي يتابع سيبويه في أحيان غير قليلة، على حين يتابع المبرد الكسائي في أحيان أخرى، وبالرغم من ذلك فلا بأس أن نتناول هذه البيئات أو المدارس بالتعريف بمميزاتها العامة لنخلص إلى البيئة المصرية التي ورثت هذه الدراسات وكان السيوطي أحد نحاتها.
وقد وضع النحو العربي بالبصرة، وكان للخليل وسيبويه الفضل في إرساء أركانه، ووضع أصوله، وليس من المبالغة أن نقول: ان جهود النحاة بعد سيبويه تدور في محوره أو مجاله وتعتمد عليه، والكوفيون الذين عاصروه واستمروا بعده قد أفادوا من جهوده التي نقلها إليهم تلميذه الأخفش، وربما يكون بحث هذه الطبقة من النحاة وتبين آرائها النحوية أكثر تشويقا وجدوى
من بحث المتأخرين الذين ورثوا علم النحو بعد أن نضج وكاد يحترق.
ويمكننا أن نجمل ما امتازت به المدرسة البصرية التي وضع أوائلها النحو واستمرت جهودها متضافرة حقبة من الزمن حتى أواخر القرن الثالث الهجري فيما يأتي:
1 -
التثبت في المادة اللغوية التي يحتج بها، وتحديد القبائل، فليس كل ما يروى يصح الاستشهاد به، وقد أنكروا على الكوفيين اعتمادهم على الأعراب المقيمين في سواد الكوفة وهجاهم اليزيدي البصري منكرا عليهم ما يحتجون به «1» .
2 -
يقيم البصريون أقيستهم على الكثير الشائع عن العرب، ويغفلون القليل والشاذ، ومن ثم وصفوا بأنهم «أصح قياسا لأنهم لا يلتفتون إلى كل مسموع ولا يقيسون على الشاذ» «2» .
3 -
أنهم لا يعولون على قياس التمثيل وهو القياس عند انعدام الشاهد أي انعدام المنقول وذلك بقياس باب على باب آخر الا فيما ندر.
فمذهب البصريين يتسم بالتنظيم ومحاولة تعميم الأقيسة وطردها، وهو كذلك يمثل مذهب اللغويين المتشددين الذين لا يبيحون القياس إلا على ما ورد بكثرة ويمنعون القياس على الأمثلة القليلة، ويقفون فيما ورد منها على السماع، وتمثل العقلية البصرية العقلية العلمية الصحيحة التي تحاول وضع القوانين المطردة، ونجد لديها القدرة على
التعميم والتعريف ووضع القواعد والمصطلحات العلمية، وهذا هو السر في سيطرة النحو البصري على المدارس النحوية التالية:
فإذا ما اتجهنا نحو بيئة الكوفة ومذهبها رأينا نظرة أخرى في اللغة وأساليبها، فأهم خصائصهم:
1 -
أنهم أقل تثبتا وتشددا في قبول المادة اللغوية التي تتخذ مصدرا للقياس،
(1) ابن الأنباري: نزهة الألباء ص 55.
(2)
الاقتراح ص 84.
كما أن الأعراب الذين سمعوا منهم متهمون في نظر البصريين، يضاف إلى ذلك أنهم وقفوا على قدر أكبر من المادة اللغوية لما عرف عنهم من عنايتهم القديمة برواية الأشعار فهم كما وصفوا «أوسع رواية» «1» . كما أنهم كانوا أكثر عناية بالقراءات القرآنية وربما كان ذلك سببا في كونهم أكثر توسّعا في القياس.
2 -
أنهم أكثر توسعا في القياس وإباحة له، ولذلك فهم يقيسون على القليل وعلى ما يعده البصريون شاذا لا يجوز القياس عليه، قال الأندلسي:«الكوفيون لو سمعوا بيتا واحدا فيه جواز شيء مخالف للأصول جعلوه أصلا، وبوبوا عليه بخلاف البصريين» «2» .
3 -
أنهم يعولون أكثر من البصريين على قياس التمثيل وهو القياس على ما لم يرد به نقل كإجازتهم «قام زيد لكن عمرو» مع أنه لم يرد به نقل قياسا على ما ورد في باب آخر وهو «بل» من نحو «قام زيد بل عمرو» ، وقد منع البصريون ذلك «3» .
تلك أهم الخصائص التي ميزت كل مدرسة عن صاحبتها، ويتضح منها أن الاختلاف بين المدرستين ينحصر في كمية الاستقراء، وكمية المادة اللغوية، ثم في قبول هذه المادة تبعا لاعتبارات نقد الرواية، ثم الاختلاف في المذهب النحوي القياسي الذي يبيح القياس على القليل أو لا يرضى إلا بالكثير المستفيض، ويتضح من ذلك أن عقلية البصريين أكثر جنوحا إلى التنظيم وطرد الأقيسة.
وقد عللت كلتا المدرستين ما استنبطته من أقيسة نحوية. وخالفت به المدرسة الأخرى بعلل عقلية ونقلية تدل في كثير من الأحيان على فهم عميق للأسرار اللغوية والتركيبية لا سيما ما نراه من هذه العلل في كتاب سيبويه قبل أن يتعقد التعليل وتتشعب به السبل، أي عند ما كان موصول الأسباب باللغة وظواهرها وخصائصها غير مشترط في التجريد العقلي.
(1) الاقتراح ص 84.
(2)
الاقتراح ص 84.
(3)
همع الهوامع ج 2 ص 137.
ولم يبق أمام المدارس التالية في الغالب سوى الترجيح بين المدرستين السالفتين واختيار ما يتجه منه في أنظار النحاة، أو استخراج بعض الأقيسة الجديدة بناء على إعادة النظر في بعض الاستقراءات، أو استحضار مادة لغوية جديدة.
فإذا نظرنا في عمل البغدادين الذين عرفتهم بغداد منذ أواخر القرن الثالث الهجري وجدناهم يمزجون بين المذهبين السابقين بعد أن مرّ عليهم حين من الدهر ينتصر كل منهم لمذهب من المذاهب، ولذلك فالطبقة الأولى من البغداديين يغلب على رجالها التحيز إما إلى مدرسة البصرة أو إلى مدرسة الكوفة، وكأنها بذلك ليست غير امتداد لهاتين المدرستين، وقد كان ذلك نتيجة لانتقال رجال المدرستين السابقتين إلى بغداد، فقد انتقل إليها المبرد شيخ البصريين، وثعلب شيخ الكوفيين.
وأشهر من عرف من البغداديين بممالأة البصريين ونصرتهم أبو إسحاق الزجاج (310 هـ) وقصته مع ثعلب وانتقاده كتاب الفصيح انتصافا لسيبويه مشهورة ومتناقلة في الكتب «1» ، وابن السراج (316 هـ)، والزجاجي (337 هـ)، وممن غلبت عليهم النزعة الكوفية أبو موسى الحامض (305 هـ)، وأبو بكر بن الأنباري (327 هـ)، وهناك علماء جمعوا بين النزعتين كابن كيسان (299 هـ)، والأخفش الصغير (315 هـ).
ولم يلبث أن قوي اتجاه الجامعين بين النزعتين دون تعصب، مما أدى إلى المزج بينهما والترجيح والتفضيل فنشأ مذهب جديد يعتمد على الترجيح والنظر في المذهبين السابقين مع زيادات وفروق قليلة وهو المذهب البغدادي، وقد كانت البادية إلى ذلك الحين لا تزال معينا لا ينضب للمادة اللغوية الأصلية مما أدى إلى استقراء مادة جديدة كانت ذات أثر في استخلاص بعض الأقيسة التي لم تعرف من قبل أو ترجيح بعضها على بعض.
وهناك قواعد ركن فيها البغداديون إلى المذهب الكوفي، وأخرى ركنوا فيها
(1) السيوطي: المزهر ج 1 ص 202 - 207، وقد نقلها عن معجم الأدباء لياقوت.
إلى مذهب البصريين، وجانب ثالث استدركوه على المذهبين «1» .
ومن الملاحظ أن مذهب البغداديين في أول أمره كان ينزع منزع الكوفة لغلبة الكوفيين على بغداد وارتفاع شأنهم فيها، نظرا لصلاتهم القوية بالدولة في حين أن
المتأخرين من البغداديين قد فضلوا المذهب البصري، ويتضح ذلك عند أبي علي الفارسي وابن جنى اللذين قد ينسبان نفسيهما في بعض الأحيان إلى البصريين كما يظل ذلك شأن من خلفهم كابن الشجري (542 هـ)، وتلميذه ابن الأنباري (577 هـ)، الذي يتضح في إنصافه تفضيله للمذهب البصري.
فإذا ما يممنا وجوهنا ناحية المغرب وجدنا بيئة الأندلس التي بدأ النشاط النحوي فيها خافتا، وكان في أول أمره تابعا لما يحدث بالمشرق، ومعتمدا عليه، ولم تلبث دراسة النحو بالأندلس أن أخذت تستقل بطابع يميزها عن تبعيتها للمشرق فمنذ أواخر القرن الخامس ازدهرت هذه الدراسة، وعكف النحاة على ما لديهم من مادة لغوية يستقرءونها، وينظرون فيما أنتجته المدارس الثلاث السابقة فيرجحون بينها، ويختارون ما يتجه عندهم، ويزيدون ما تؤديه لهم استقراءاتهم الجديدة لا سيما أن المادة اللغوية قد أصبحت في ذلك الحين بالمشرق والمغرب مقصورة على ما روي وحفظ في بطون الكتب حيث نضب معين البادية منذ تنادي العلماء في منتصف القرن الرابع الهجري بوجوب ترك الأخذ عن أهل الوبر كما ترك الأخذ عن أهل المدر «2» .
وقد عرفت الأندلس كثيرا من الأعلام الذين حملوا لواء النحو بها كالأعلم الشنتمري (476 هـ)، وابن السيد البطليوس (521 هـ)، والسهيلي (581 هـ)، وغيرهم، وأهمهم على الاطلاق ابن مالك (672 هـ) وأبو حيان (745 هـ)، والشاطبي (790 هـ)، وقد رحل بعضهم إلى المشرق وأثر في نحاة البيئة المصرية إلى حد كبير.
وقد توسع ابن مالك في الاستشهاد بالحديث وأباح ذلك مطلقا، وقد أنكر
(1) محمد الطنطاوي: نشأة النحو ص 146، 148.
(2)
ابن جني: الخصائص ج 2 ص 5.
عليه هذا الاتجاه، في حين أنكر أبو حيان الاستشهاد بالحديث مطلقا، وتوسط الشاطبي فأباح الاستشهاد في الأحاديث التي يعلم أن العناية فيها متجهة إلى نقلها بألفاظها.
وقد أحدث ابن مالك لفتة نحوية شغلت القوم بمنظومته التي وضعها وتوفر على شرحها معظم النحاة من بعده، وكان له اختيارات من مذاهب البصريين والكوفيين والبغداديين وسابقيه من الأندلسيين، بالاضافة إلى اجتهاده الفردي، وقد وقف موقفا جديدا تجاه الشاذ الذي يجعله الكوفيون أساسا صالحا للقياس عليه، ويمنع البصريون القياس عليه ويعمدون إلى تأويله ولو كان في ذلك من التكلف غير قليل، أما ابن مالك فانه «يحكم بوقوع ذلك من غير حكم عليه بقياس ولا تأويل بل يقول إنه شاذ أو ضرورة
…
قال ابن هشام: وهذه الطريقة طريقة المحققين وهي أحسن الطريقين» «1» .
لذلك لقي مسلك ابن مالك استحسانا من النحاة المتأخرين ومنهم السيوطي، وقد أثر الأندلسيون بصفة عامة، وابن مالك بصفة خاصة في البيئة المصرية حيث رحل كثير منهم إلى مصر أو إلى الشام، وأقاموا عاكفين على الدرس بعد أن أخذت دولة الأندلس في الذبول.
ويهمنا الحديث عن البيئة المصرية في عصر المماليك الذي ظهر السيوطي في أواخره، والنشاط النحوي في هذا العصر متميز عنه في العصور السابقة، فبالرغم مما عرفته مصر من ألوان هذا النشاط قبل ذلك، ومن ظهوره كثير من النحاة بها فانهم في الغالب كانوا تابعين للمدارس الثلاث الأول مع ترجيح بين آرائها، وبعض اجتهادات خاصة.
وقد وفد على مصر في القرنين السابع والثامن للهجرة بعض نحاة المغرب والأندلس الذين أحدثوا بالبلاد نشاطا كبيرا، ونبغ على أيديهم أئمة النحو في مصر، فمنهم ابن معط المغربي (628 هـ) صاحب المنظومة التي أشار إليها ابن مالك، وابن مالك وأبو حيان وغيرهم، ولا تلبث البيئة المصرية في ذلك الحين
(1) الاقتراح ص 86.
أن تصبح ملاذ علماء المشرق والمغرب بعد سقوط بغداد وايذان شمس الأندلس بالمغيب.
وتنشط الدراسة النحوية، ويرى العلماء بالبلاد أن عليهم مسئولية القيام على تراث المشرق والمغرب.
ونلاحظ أن بعض النّابهين من نحاة مصر قد جمع بين دراسة الأصول ودراسة النحو كابن الحاجب (646 هـ) وغيره، وقد وصل هؤلاء جميعا النحو بغيره من العلوم التي درسوها، وحاولوا الافادة منه في دراسة النصوص، وهذا الاتجاه وان كان أصيلا في طبيعة البحث النحوي فان المصريين قد توسعوا فيه «1» .
وأهم نحوي ظهر في مصر بعد ذلك ابن هشام (761 هـ)، وقد خلف مصنفات عديدة أهمها «المغنى» ، وقد اختط منهجه معتمدا على الترجيح بين البصريين والكوفيين ومن تبعهم من النحاة، واختيار الأصلح في نظره، وكانت له قدرة كبيرة على التعليل والتخريج، وكثيرا ما يبتكر آراء جديدة لم يسبق إليها لا سيما في توجيهاته الاعرابية، والجدير بالذكر أن السيوطي كان يقول عن نفسه: إنه لم يظهر بمصر بعد ابن هشام من يستحق أن يوصف بالاجتهاد في العربية غيري. وكان ابن هشام يميل إلى المذهب البصري. وأكثر المتأخرين ترجيحا للمذهب الكوفي ومتابعة له ابن مالك، وقد خالفه أغلب نحاة مصر الذين ناصروا في كثير من الأحيان آراء سيبويه والمدرسة البصرية، ونلاحظ ذلك لدى ابن عقيل في شرحه على الألفية.
ظهر السيوطي في أوج ازدهار النشاط النحوي مسبوقا بهذا الركام الضخم من المؤلفات النحوية، وقد آل إلى بيئته تراث البيئات السالفة، وقد تأثر السيوطي بالنحاة السابقين له لا سيما الذين أثروا في البيئة المصرية كابن مالك وأبي حيان، وبنحاة هذه البيئة كابن هشام، وقد تابع السيوطي عرف النحويين في عصره في تصنيف مؤلفاته، فقد درجوا على شرح منظومة ابن مالك فأفرد لها شرحا، كما راجت لديهم مصنفات ابن الحاجب وابن مالك وابن هشام وقد كان
(1) د. سيد خليل: مصر في تاريخ النحو ص 69، مقال بمجلة كلية الآداب مجلد 13.
كتاب «النكت» الذي وضعه السيوطي استجابة لهذا الاتجاه، بيد أن السيوطي قد ظهرت شخصيته الواعية وعقليته النحوية المحددة في هذا الكتاب إلى أكبر حد.
ولم يكتف السيوطي بأن يعكف على دراسة كتب المتأخرين من الأندلسيين والمصريين، وينتقدها أو يشرحها، ولكنه أراد- كما هو شأن العصر- أن يصنف في النحو موسوعة تشمل جميع أبوابه ومباحثه، وقد فعل ذلك بنجاح في كتاب «جمع الجوامع» الذي شرحه «بهمع الهوامع» ، ومصنفات السيوطي التي عرضنا لها آنفا تبين لنا جهوده الخصبة والوفيرة في الدرس النحوي.
على أن هذه الكتب تمثل بحق ذلك العصر الذي عنى بالجمع والترتيب والتنسيق، وتنويع المصنفات ما بين مختصر ومطول ومتن وشرح ومنظوم ومنثور وموشح. ولكن ذلك لا يعني انصراف عنايته إلى النواحي الشكلية دون المضمون، ولا يغض ذلك منه نحويا كبيرا عرفته البيئة المصرية، وأسهم بدور كبير في العمل النحوي.
والحقيقة أنه إنصافا لهؤلاء النحاة ينبغي أن نقول إن النحويين جميعا بعد الخليل وسيبويه لم يكن إبداعهم وابتكارهم إلا في حدود ضيقة إذا ما قورنت بصنيع الرجلين من قبل، ويمكن أن نقول: إن النحاة جميعا بعد مدرستي الكوفة والبصرة قد قلت لديهم الابتكارات النحوية وأصبحت مذاهبهم في غالبها ترجيحا لآراء احدى المدرستين السالفتين، ومع ذلك فلا يمنع هذا من تناول كل منهم منفردا لبيان مقدار جهوده واستيضاح منهجه والوقوف على اجتهاداته.
ويتميز السيوطي بتقصي الموضوعات النحوية التي يعرض لها، ومحاولة استيفاء جزئياتها والاستدراك على النحاة بعض ما فاتهم، كما أنه في منهجه يتبع ما تميزت به المدرسة المصرية في التخير من آراء المدارس السابقة مع شيء من التغليب لمذاهب الأندلسيين، ويتخير من آراء النحاة السابقين عموما ما تتجه علله، وتستبين براهينه، ومن حين إلى آخر نظفر بآراء خاصة له أو مفاهيم جديدة تجاه بعض المسائل.
فمن اختيارات السيوطي أن الأسماء قبل تركيبها في الجمل لا مبنية ولا معربة، والبناء رأي ابن الحاجب وابن مالك، والاعراب رأي الزمخشري، والقول بالواسطة رأي أبي حيان واختيار السيوطي «1» .
وقد يخالف السيوطي سيبويه والجمهور ويرجح آراء غيرهم كاختياره إعراب «أيّ» الموصولة في جميع حالاتها في حين يذهب سيبويه والجمهور إلى بنائها على الضم إذا أضيفت وحذف صدر صلتها مستدلين بقوله تعالى: ثُمَّ لَنَنْزِعَنَّ مِنْ كُلِّ شِيعَةٍ أَيُّهُمْ أَشَدُّ عَلَى الرَّحْمنِ عِتِيًّا، وقد تبع في ذلك الأخفش والزجاج واحتج لرأيه يقول الجرمي:«خرجت من الخندق يعني خندق البصرة حتى صرت إلى مكة لم أسمع أحدا يقول: اضرب أيّهم أفضل بل كلهم ينصب ولا يضم» ، وببعض القراءات التي نصبتها، ويؤكد قوة إعرابها ما ذهب إليه ابن مالك واحتج به السيوطي من أنها تعرب في باب الشرط والاستفهام «2» ، وإعرابها أيضا استظهر السيوطي أنه قول الخليل ويونس «3» والكوفيين.
ومن المتفق عليه في الممنوع من الصرف أنه يجر بالكسرة إذا أضيف أو دخلت عليه «ال» واختلف: هل هو مصروف في هذه الحالة أم أنه باق على منعه من الصرف؟، وقد رجح السيوطي رأي السيرافي والزجاج في كونه مصروفا لأنه دخله خاصية من خواص الاسم فضعف فيه شبه الفعل «4» .
ويختار السيوطي رأي الكوفيين الذي يتوسع في القياس وهو إجازة بناء سداس ومسدس وسباع ومسبع وثمان ومثمن وتساع ومتسع قياسا على المسموع من ذلك وهو أحاد وموحد إلى خماس ومخمس، وعشار ومعشر «5» .
وقد تبع السيوطي ابن هشام في تقسيم المبنيات وتناول البناء على الفتح وهو
(1) المطالع السعيدة (مخطوط) ص 16، همع الهوامع ج 1 ص 19.
(2)
المطالع السعيدة ص 21.
(3)
همع الهوامع ج 1 ص 91.
(4)
المطالع السعيدة ص 48.
(5)
المطالع السعيدة ص 29.
اسم «لا» النافية للجنس إذا كان مفردا، وعلى الياء إذا كان اسم «لا» مثنى أو جمع مذكر سالما «1» ، ولكن السيوطي قد انفرد دون ابن هشام ودون النحويين بقوله: ان المثنى قد يبنى على الألف نيابة عن الفتحة على لغة بلحارث بن كعب كقوله صلى الله عليه وسلم: «لا وتران في ليلة» «1» ، وقد احتج كما نرى بهذا الحديث وهو يتبع في ذلك منهج المتأخرين في إمكان اعتبار الحديث حجه، ويتفق مع مذهبه الذي سبق لنا أن شرحنا أصوله، وقد قوى السيوطي اللغة التي تلزم المثنى الألف في حالات الاعراب الثلاث فذكر أنها «لغة معروفة عزيت لكنانة وبني الحارث بن كعب وبني العنبر وبني الهجين وبطون من ربيعة، وبكر بن وائل، وزبيد وخثعم وهمدان، ومزدادة وعذرة وخرج عليها قوله تعالى: إِنْ هذانِ لَساحِرانِ وقوله صلى الله عليه وسلم: «لا وتران في ليلة» ، وأنشد عليها قوله: تزود منا بين أذناه طعنة، وقوله: قد بلغا في المجد غايتاها «3» .
ويتميز السيوطي بجمعه للآراء المختلفة وحكمه عليها في أحيان كثيرة مبينا أصحها وأشهرها وأضعفها، وينعت كل رأي بما يبين موقفه منه، فهو يورد أقوالا شتى في إعراب الأسماء الستة فيذكر أن أشهرها قول قطرب والزيادي والزجاجي من البصريين وهشام من الكوفيين بأنها معربة بالحروف، بينما يذكر أن أصح هذه الآراء رأي سيبويه وجمهور البصريين وبعض المتأخرين كابن مالك وأبي حيان وابن هشام الذين يذهبون إلى أنها معربة بحركات مقدرة في الحروف، وأنها أتبع فيها ما قبل الآخر للآخر، وقد ذكر السيوطي اعتلالهم لمذهبهم «4» .
وحين يضعف السيوطي رأيا من الآراء لغرابته وعدم إمكان اتجاهه فانه ينعته بالزعم كقوله: «زعم الزجاج أن المثنى مبني لتضمنه معنى الحرف وهو العاطف» «5» ، وقوله:«وزعم الأخفش بناء جمع المؤنث نصبا وغير المتصرف جرا» «5» .
(1) ابن هشام: شذور الذهب ص 83، 84، السيوطي: المطالع السعيدة ص 18.
(3)
همع الهوامع ج 1 ص 40.
(4)
همع الهوامع ج 1 ص 234.
(5)
همع الهوامع ج 1 ص 38، ج 1 ص 19.
وأنكر السيوطي على الكوفيين وجماعة من النحويين كالأخفش وأبي حاتم والنحاس وابن مضاء عدّهم «لا سيما» من أدوات الاستثناء لأن ما بعدها يشارك ما قبلها في الحكم ولعدم صلاحية «إلا» مكانها بخلاف سائر الأدوات «1» .
وقد خالف ما شاع عند كثير من النحويين من أن نفي «كاد» إثبات لخبرها، وإثباتها نفي للخبر مستدلين على ذلك بقوله تعالى: فَذَبَحُوها وَما كادُوا يَفْعَلُونَ وقد ذبحوا، وبقوله: يَكادُ زَيْتُها يُضِيءُ ولم يضيء، وذهب إلى أن «التحقيق أنها كسائر الأفعال نفيها نفي، وإثباتها اثبات، إلا أن معناها المقاربة لا وقوع الفعل فنفيها نفي لمقاربة الفعل ويلزم منه نفي الفعل ضرورة أن من لم يقارب الفعل لم يقع منه الفعل، وإثباتها إثبات لمقاربة الفعل ولا يلزم من مقاربته وقوعه فقولك: «كاد زيد يقوم» معناه قارب القيام ولم يقم ومنه «يكاد زيتها يضيء» أي يقارب الاضاءة إلا أنه لم يضيء، وقولك:«لم يكد زيد يقوم معناه لم يقارب القيام فضلا عن أن يصدر منه» «2» .
وإذا كان ما يذهب إليه السيوطي في هذا الرأي متجها في الشواهد والأمثلة التي أوردها فانه لم يتجه في قوله تعالى: فَذَبَحُوها وَما كادُوا يَفْعَلُونَ وقد أجاب عنها بأنها محمولة على وقتين، أي فذبحوها بعد تكرار الأمر عليهم بذبحها، وما كادوا يذبحونها قبل ذلك ولا قاربوا الذبح «2» .
وقد خطأ السيوطي ابن هشام وأبا حيان فيما نقلاه واقراه من أن «لو» التي ترد للتمني تحتاج إلى جواب، والأصح أنه لا جواب لها «4» .
وقد خالف معظم النحاة متقدميهم والمتأخرين فيما ذهب إليه من إعراب «الآن» لأنه «لم يثبت لبنائه علة معتبرة، فهو منصوب على الظرفية، وإن دخلته «من» جر «وخروجه عن الظرفية غير ثابت» «5» .
وعنده أن الأصح جواز تعدد الخبر والنعت وهو رأي الجمهور خلافا لابن عصفور وكثير من المغاربة «6» .
(1) نفس المصدر السابق.
(2)
همع الهوامع ج 1 ص 132.
(4)
همع الهوامع ج 2 ص 66.
(5)
همع الهوامع ج 1 ص 208.
(6)
المصدر السابق ج 1 ص 108.
ويمضي السيوطي في التخير من آراء النحاة السابقين ما تستقيم حجته وتتضح علته مؤثرا من الآراء ما هو قريب من العقل بعيد عن التأويل والتقدير الذي يوغل أحيانا في الاغراب، كما يحرص قبل ذلك على دقة المعنى وسلامته فهو محك الصحة والخطأ عنده، فنراه مثلا يذهب في تخريج «لا أبا لك» إلى أن «أبا» مفردة جاءت على لغة القصر والمجرور باللام هو الخبر، وقد تبع في ذلك الفارسي وابن الطراوة، وقد اختار هذا الرأي «لسلامته من التأويل والزيادة والحذف وكلها خلاف الأصل» «1» ، وهو بذلك يخالف رأي الجمهور الذي يذهب إلى أنها مضافة إلى المجرور باللام الزائدة.
ويهتدي السيوطي باستقراء المادة اللغوية في بعض الأحيان إلى ما يخالف أقوال النحاة السابقين أو يصحح أحكامهم، فقد رد ما ذهب إليه ابن مالك وابن الصائغ من أن النداء بالهمزة قليل وذكر أنه وقف لذلك على أكثر من ثلاثمائة شاهد، وأنه أفردها بتأليف «2» ، وهو ما سماه بقطر الندا في ورود الهمزة للندا.
ويعلل السيوطي اختياراته وآراءه بعلل قوية واضحة تراعي سلامة المعنى، وهي علل قريبة المأخذ بعيدة عن التكلف، ويؤثر من الأحكام ما يدفع اللبس عن الأساليب فقد أجاز النحاة تنوين المنادى المبني في الضرورة ثم اختلفوا في أن الأولى بقاء ضمه أو نصبه والأول مذهب الخليل وسيبويه والمازني علما كان أو نكرة مقصودة، والثاني رأي أبي عمرو وغيره، واختيار ابن مالك بقاء الضم في العلم والنصب في النكرة المقصودة لأن شبهها بالمضمر أضعف، وخالف السيوطي ابن مالك واختار العكس أي
«النصب في العلم لعدم الالباس فيه، والضم في النكرة المعينة لئلا يلتبس بالنكرة غير المقصودة إذ لا فارق حينئذ إلا الحركة لاستوائهما في التنوين «3» ، وقد نبه السيوطي إلى أنه انفرد بهذا الرأي دون سائر النحويين، وهو كما ذكرنا يميل إلى دفع اللبس في الأساليب، والباسها ثوبا من الوضوح والجلاء، وتجنّب اللبس من الاعتبارات الهامّة التي تراعيها اللغة وتحرص عليها في كثير من أوضاعها، ولذلك فإن تعليل السيوطي لاختياره
(1) همع الهوامع ج 1 ص 145.
(2)
همع الهوامع ج 1 ص 172.
(3)
همع الهوامع ج 1 ص 173.
بتجنب اللبس يبدو مقبولا متفقا مع المنطق اللغويّ السليم.
تلك نماذج من اختيارات السيوطي وآرائه الخاصة وتعليلاته أردت بها أن ألقي الضوء على مذهبه النحوي، وهو في الحقيقة نحوي مصري يجري في اتجاه مدرسته متخيرا من الآراء المختلفة ما تستقيم حججه وبراهينه، ونراه يستشهد في أحيان غير قليلة بالحديث الشريف، وموقفه كما ذكرنا موقف وسط في الاحتجاج بالحديث، ويورد في أحيان أخرى الأحاديث أمثلة يوضح بها الأحكام التي سبق تقريرها، وبالرغم مما قرره نظريا من أن ما يحتج به من الحديث نادر جدا فانه يميل إلى ذكر كثير من الشواهد الحديثيّة عند التطبيق ولكنه لا ينسى أن يعضدها بشواهد أخرى من المادة اللغوية المعتمدة في الاحتجاج قرآنا أو شعرا أو نثرا.
ونستطيع أن نقول ان السيوطي في دراساته النحوية قد استطاع أن يلائم بين منهجه الذي غلب عليه الطابع النقلي وبين المنهج العقلي الاستنباطي، فهو يحشد معظم الآراء النحوية ولكنه يختار أحدها ويعلل اختياره بالحجج والبراهين المعتمدة على الأصول النحوية واللغوية المقررة، ولا يعبأ بمخالفة مشاهير النحاة إذا أداه اجتهاده إلى مخالفتهم، وقد كان صادقا حينما ذكر عن نفسه أنه بلغ درجة الاجتهاد في العربية وأنه ليس بعد ابن هشام نحوي مثله، هذا الحكم لا نستطيع بعد ما قدمنا أن ننكره على السيوطي.