الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
للمتقين» «1» .
خلقه وشخصيته:
نريد بالخلق ما هو أعم من المعنى الذي نستعمل فيه هذه اللفظة اليوم، فنتناول فيه سلوكه مع أهله ومع الناس من حوله وصلته بمن يشتركون معه في فنون المعرفة التي يجيدها ونستطيع من ثم أن نستوضح معالم شخصيته الاجتماعية والعلمية.
ولا شك أن خلق الفرد تشكله عوامل كثيرة من وراثة عن أسرته التي عاش بينها واكتسب منها بعض الصفات أو الاتجاهات التي تحدد مسلكه في الحياة ثم من المجتمع بمعناه العام الذي ترتبط حياته به، وبه تتحقق مصالحه، ثم من تدينه وطريقته في ممارسة الدين تسمحا أو تشددا وتحرجا، وهذه الأشياء تكشف لنا عن أهم جوانب شخصيته «2» .
ونرى أن فيما قدمنا من الحديث عن جوانب حياته المختلفة ما يمكننا من استيضاح معالم شخصيته ويعرفنا بخلقه فضلا عن عديد من الروايات والنقول التي لم نوردها من قبل اكتفاء بغيرها عنها أو ادخارا لها لمواضع أخر، أو تخففا من الاطالة.
وأول هذه الصفات التي نستشفها مما خلف السيوطي من آثار هي الصراحة في الحديث عن نفسه، تلك الصفة التي تدل على صفاء نفسي وروحي، ومن هنا فقد كان يتحدث في رسائله عن نفسه بقلب مفتوح ووضوح بالغ، ومن لا يعرف هذه الصفة عنه يخيل إليه أن الرجل صاحب دعاوى عريضة أو يصف نفسه بما ليس فيها من صفات حسنة، والحقيقة أن السيوطي حين الحديث عن نفسه كان يعلله دائما بأنه تحدث بما أنعم الله به عليه لا فخرا وهنا يتضح لمنصفه صفة التواضع عنده بينما ينظر أعداؤه إلى ذلك على أنه ادعاء وتعال وزهو ممقوت، فبعد أن يعدد ما أتقنه من العوم وما استكمله من آلات الاجتهاد
(1) نفس المصدر ج 1 ص 339.
(2)
د. سيد خليل: الليث بن سعد ص 86.
وبالرغم مما يشيع في عبارته من تواضع فإن الرجل كان يتصف بالشجاعة والاعتداد بالنفس والثقة فيها، وقد كانت هذه الصفات لديه وليدة شعوره العميق بأنه عالم مسلم استكمل أدوات الاجتهاد وحباه الله عقلا حصيفا فاستشعر المسئولية الجسيمة الملقاة على عاتقه بما هو عليه تجاه الله وتجاه المجتمع وتجاه ضميره، ومن هذا الشعور العميق بهذه المسئولية يمكننا أن نفسر كثيرا من تصرفات السيوطي وكتاباته، فقد كانت الأمانة الملقاة على عاتقه أكبر مما يتحمله غيره، وكان ينظر فيمن قبله من كبار علماء السلف الذين تألقت نجومهم في سماء التاريخ الاسلامي، ويجعل منهم قدوة صالحة في السراء، وأسوة حسنة في الضراء، وهناك كثير من الحوادث والأدلة التي نستطيع أن ندلل بها على ما قلناه عن خلقه وشخصيته ولكنا نستدرك قبل ذلك بأن نذكر أن الرجل كانت به حدة وسرعة غضب لما يصيبه، ولكن هذا الغضب كان يستفرغ منه في رسالة تكتب، أو انقطاع عن الناس، وهجرهم ريثما تهدأ نفسه ويعاود الحياة بنشاطه المألوف، وكثيرا ما كلفته غضباته رسائل يدفع فيها عن نفسه ويهاجم خصومه.
على أن الأسلوب العنيف الذي لاحظناه في رسائله الأولى التي هاجم بها خصومه أخذ يميل إلى الهدوء والاتزان في السنوات الأخيرة من عمره، بل لعله أصبح يعرض عن كثير من أذى الخصوم ويصبر على ما يقابله من أعدائه فقد نقل عنه بعض من اتصل به أنه امتحن المحن الكثيرة، وما سمع يوما يدعو على من آذاه من الحسدة، ولا يقابله بسوء، وإنما يقول: حسبنا الله ونعم الوكيل، وصنف في ذلك كتابا سماه «تأخير الظلامة إلى يوم القيامة» «2» .
والحقيقة أن هذه الرسالة تعبر عن الاتجاه المتزن الصابر الذي طبعت به حياة السيوطي أواخر أيامه، وبالرغم من أن الرسالة في جملتها مجموعة من النقول عن
(1) حسن المحاضرة ج 1 ص 190.
(2)
الشعراني: ذيل الطبقات ورقة 22 ص 43.
الرسول صلى الله عليه وسلم وعن الصحابة والتابعين تدور حول تأخير ظلاماتهم إلى يوم القيامة لايمانهم بأن عذاب الله أشد وأبقى، وإيثار المظلومين منهم ألا يقتصوا
لأنفسهم في الدنيا مع تمكنهم من ذلك تأخيرا لظلاماتهم لتعرض أمام الله تعالى، بالرغم من ذلك فإن قراءتها تشيع في نفس القارئ أن صاحبها كان يتعرض وقتها لمظالم يصبر عليها، ويعزي نفسه بالتأسي بالسلف الصالح، وهي تبين لنا جانبا هاما من خلق السيوطي في سنواته الأخيرة، وتلقي الضوء على معالم شخصيته «1» .
ومن الحوادث التي تدل على ما قدمنا حادثة الطيلسان التي امتنع بعدها عن الذهاب إلى السلطان مع العلماء، وقد تمسك بموقفه برغم محاولة بعض الوسطاء الملاينة بينه وبين السلطان فكان رده:«إني متمسك بقوله صلى الله عليه وسلم: لا تزال طائفة من أمتي ظاهرين على الحق حتى يأتي أمر الله لا يضرهم من خذلهم» «2» .
وإحساسه بالمسئولية الملقاة عليه تجاه الناس يتمثل في قوله: «ما أجبت قط عن مسألة جوابا، إلا وأعددت جوابها بين يدي الله تعالى إن سئلت عنها» «3» .
وقد سبق أن أشرنا إلى موقفه الشجاع الذي وقفه تجاه خصمه العنيد طومان باي الذي حاول الكيد له، ثم حاول قتله، كما قدمنا ما قاله من أن له أسوة حسنة بمن تعرض للأذى من كبار علماء السلف الصالح.
وإتماما للحديث عن خلقه وشخصيته فإننا نعرض لما يتصل بهذا الموضوع بأوشج الصلات بل لما هو جزء منه وهو الحديث عن تدينه.
وقد قلت ان شخصية السيوطي شخصية العالم المسلم الذي يستشعر المسئولية نحو المجتمع والذي يراعي في خلقه وسلوكه السير على هدى من السنة التي أفنى حياته في جمعها ودرسها وتعليمها.
أما عن ورعه وتقواه فهناك روايات كثيرة تصل بالرجل إلى مصاف كبار
(1) تأخير الظلامة إلى يوم القيامة، مخطوط بدار الكتب المصرية برقم 22729 ب.
(2)
الشعراني: ذيل الطبقات الكبرى ورقة 20 ص 40.
(3)
المصدر السابق ورقة 12 ص 24.
الأولياء وأصحاب المناقب العالية، ولست هنا بصدد مناقشة هذه النقول، ولكن مهما كان أمر صحتها أو كذبها أو المبالغة فيها فإنها تدل على ما عرف به الرجل في عصره من ورع وتقوى. وهناك نقول وروايات لا تصل إلى حد الخوارق شأن الروايات الأولى، تؤيد ما قلناه من تقواه وزهده، ونحن نرى هذه الأوصاف منطبقة تماما على السيوطي لا سيما في السنوات العشر الأخيرة من عمره بعد أن اتجه إلى الزهد والتجرد ثمّ انقطع بعد ذلك تماما في بيته واعتكف وكان لا يقبل هدايا الأمراء والسلاطين ويتعفف عنها قانعا بما قسم له من رزق قليل، ثم عزوفه عن الوظائف ومظاهر الدنيا واغلاقه نوافذ بيته واتجاهه إلى الله.
وقد أجمل الشعراني صفات شيخه بقوله: أنه كان «مجبولا على الخصال الحميدة من صفاء الباطن وسلامة السريرة، وحسن الاعتقاد، زاهدا ورعا مجتهدا في العلم والعمل، لا يتردد إلى أحد من الأمراء والملوك ولا إلى غيرهم مدة حياته رضي الله عنه وكان يظهر كل ما أنعم الله به عليه من العلوم والأخلاق» «1» .
كان هذا السلوك سلوك التصوف العملي الحقيقي الذي لا نستطيع إنكاره، ولا نقول إنه كان يقصد به دنيا يصيبها، بل كان عملا مخلصا يبتغي به وجه خالقه، ومن كان هذا مسلكه فأحر به أن يكون خليقا بالاضطلاع بالمسئولية الجسيمة التي تحملها بوصفه عالما مجتهدا يعرف للكلمة حقها ويؤديها على وجهها لا يخاف لومة لائم لأنه لا ينتظر ثوابا ولا يخشى عقابا إلا من قبل الله تعالى.
وقد كان السيوطي يحاول جاهدا أن يؤدي ما عليه من واجب علمي تجاه مجتمعه، فهو ينقطع للتأليف في خلوته ولا يكل من كتابة الأجوبة على المسائل العديدة التي ترد إليه ثم هو يعرف قيمة الفتوى بحيث لو جيء إليه على حد تعبيره بفتوى وهو مشرف على الغرق لأخذها ليكتب عليها، وقد قال ذلك بعد أن عاود الافتاء بعد ترك عزلته القصيرة التي سبقت الاشارة إليها.
(1) الشعراني: ذيل الطبقات الكبرى ورقة 3 ص 5.
وإذا كانت البيئة المصرية قد تميزت عن غيرها من البيئات بالسهولة والاستقامة والانبساط والوضوح، وتلك مميزات الشخصية المصرية من جميع نواحيها، فقد انطبعت هذه الصفات وظهرت في شخصية السيوطي وهي تبدو واضحة إذا ما قورن بغيره من أقرانه الذين أنجبتهم بيئات أخرى.