الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
مكانه في المجتمع
سبق أن أشرنا إلى ما كانت تتمتع به طبقة أهل العلم في المجتمع إذ كان لأبنائها مكانة رفيعة بالمجتمع جعلتهم المعبرين عن الشعب والمدافعين عن حقوقه لدى الحكام، كما اتخذهم الناس وسطاء لقضاء حوائجهم.
وقد كان والد السيوطي من أبناء هذه الطبقة تمتع بما تمتعت به، بالاضافة إلى ما كان له من صلات طيبة بخلفاء بني العباس بمصر، وكانت صلته أكثر توثقا بالخليفة المستكفي بالله وقد بقيت هذه الصّلات الطيبة بعد وفاة والد السيوطي فنشأ منذ صغره مقربا إلى بيوت الخلفاء العباسيين.
وقد كان كمال الدين بن الهمام وصيا عليه بعد وفاة والده، وكان كمال الدين من كبار فقهاء الحنفية وقد ولي مشيخة الشيخونية حتى عام 858 هـ، وتوفي في عام 861 هـ «1» ، وقد أعان السيوطي في بداية حياته وقرره في الخانقاه الشيخونية.
وقد استطاع السيوطي بعد أن أتم دراسته، وأجيز بالتدريس أن يأخذ مكانا ذا قدر في المجتمع، وبعد تصديره في عام 876 هـ، أصبح يعد من كبار علماء عصره. وقد ظلت مكانته- بطبيعة الحال- في تزايد وعلو، وكان له شأن وتأثير في المجتمع طيلة حياته، ونستطيع هنا أن نورد بعض الأمثلة التي تدل على أهميته في الحياة العامة واعتباره رجلا له قدره وكلمته المسموعة في المجتمع.
وأول الأحداث العامة التي كان له فيها دور مشهود ما حدث في بداية عام 875 هـ من جدل بين العلماء حول أقوال ابن الفارض، إذ تعصب عليه جماعة من العلماء ورموه بالكفر والفسق ونسبوه إلى من يقول بالحلول والاتحاد، وكان
(1) ابن إياس: بدائع الزهور ج 2 ص 59.
«رأس من تعصب على الشيخ عمر بن الفارض برهان الدين البقاعي، وقاضي القضاة محب الدين بن الشحنة وولده عبد البر، ونور الدين المحلي، وقاضي القضاة عز الدين المحلي، وتبعهم جماعة كثيرة من العلماء يقولون بفسقه، وأما من تعصب من العلماء للشيخ فهم الشيخ محيي الدين الكافيجي الحنفي، والشيخ قاسم بن قطلوبغا
الحنفي، والشيخ بدر الدين بن الغرس، ونجم الدين يحيى بن حجي وشيخنا الجلال بن الكمال الأسيوطي والشيخ زكريا الأنصاري وتاج الدين بن شرف» «1» .
وهكذا وقف السيوطي بين مجموعة من كبار علماء عصره يدافع عن ابن الفارض، فوقف إلى جانب شيخيه الكافيجي والسيف الحنفي، وقد ألف الكافيجي في الدفاع عن ابن الفارض، وألف السيوطي رسالة سماها «قمع المعارض في نصرة ابن الفارض» ويذكر أن العلماء قد وقع بينهم صدامات عنيفة حول هذا الموضوع، وتعرض البقاعي وابن الشحنة لهجوم عنيف من أنصار ابن الفارض، وقد هجا الشهاب المنصوري شاعر عصره البقاعي بقوله:
إن البقاعيّ بما
…
قد قاله مطالب
لا تحسبوه سالما
…
فقلبه يعاقب «2» ،
وهجاه بقصيدة أخرى، وقد تعصب السلطان وبعض الأمراء لابن الفارض، وقد استفتى السلطان الشيخ زكريا الأنصاري في هذه المسألة فأفتاه بتبرئة ابن الفارض مما نسب إليه، وأن للصوفية تعبيراتهم ومصطلحاتهم الخاصة بهم، والتي لا ينبغي أن تؤخذ ألفاظهم فيها على ظاهرها، وقد انتهت هذه الفتنة بانتصار العلماء الذين دافعوا عن ابن الفارض ومن بينهم السيوطي انتصارا كبيرا.
(1) ابن إياس: بدائع الزهور ج 2 ص 119.
(2)
المصدر السابق ج 2 ص 119، وهو يريد أنّ لفظ «يعاقب» هو مقلوب لفظ «بقاعي» ويتصور أن في ذلك دلالة على عقابه بسبب هجومه على ابن الفارض، وتدل هذه الحادثة على مكانة التصوف في المجتمع ونصرة الحكام لأهله، فضلا عن تعصب العوام للصوفية، وهو ما جعل الصراع غير متكافئ بين أنصار ابن الفارض وأعدائه.
ولقد ساعد على هذا الانتصار اعتقاد العوام البالغ في الشيخ عمر بن الفارض حتى ذكر أنهم حاولوا قتل البقاعي ورجموه بالحجارة، كما أن السلطان انتصر له وعزل ابن الشحنة من القضاء «1» وتدلنا هذه الحادثة على منزلة السيوطي منذ بداية حياته العلمية بين العلماء، ومشاركته في الأحداث العامة، والحقيقة أن السيوطي كانت له مبادئ وآراء تمسك بها طيلة حياته ودافع عنها، وقد نصب من نفسه مدافعا عن رجال التصوف المعروفين فصار ينفي عنهم كل شبهة أثيرت حولهم ويحاول أن يبين التزامهم بالكتاب والسنة وموافقتهم في مسالكهم لهما. فهو لا يفتأ يذكر بعد ذلك في موضع آخر أنه «ما زالت العلماء ومحققو الصوفية يبينون بطلان القول بالحلول والاتحاد، وينبهون على فساده، ويحذرون من ضلاله» «2» .
وغدا السيوطي عالما يشار إليه بالبنان في القاهرة منذ ذلك الوقت، وقد وردت عليه كثير من الأسئلة التي أجاب عليها أحسن إجابة، واستفتى في كثير من المعضلات فأفتى فيها، ومن الأسئلة المبكرة التي تدل على تمكنه وشهرته وذكائه وعقله ما ورد إليه عام 876 هـ، وهي مجموعة من الألغاز العلمية المنظومة طلب إليه أن يجيب عنها نثرا ونظما فأجاب أصوب جواب «3» .
وقد طبقت فتاوى السيوطي بلاد مصر والشام وسائر بلاد الاسلام «4» ، وانتشرت كتبه في حياته وانتفع بها الناس، ونلاحظ في فتاواه وكتاباته الكثيرة انتقادا لكثير من نواحي الحياة في المجتمع وحثا على الاصلاح، ومن أوضح الأمثلة على ذلك فتواه بهدم أحد البيوت التي أقيمت إلى جوار أحد المساجد
(1) ابن إياس: بدائع الزهور ج 2 ص 120، 121.
(2)
السيوطي: تنزيه الاعتقاد عن الحلول والاتحاد، رسالة ضمن كتاب الحاوي للفتاوي ج 2 ص 236.
(3)
الأجوبة الزكية عن الألغاز السبكية، رسالة له طبعت بالحاوي ج 2 ص 493.
(4)
انظر مثلا رسالته: المباحث الزكية في المسألة الدوركية، وهي استفتاء عن وقف بإحدى بلاد خوزستان، الحاوي للفتاوي ج 1 ص 253، انظر رسالته: فتح المطلب المبرور وبرد الكبد المحرور في الجواب عن الأسئلة الواردة من التكرور، الحاوي ج 1 ص 451.
واتخذها صاحبها لايواء المفسدين من الزناة وغيرهم، وصارت مقصدا لأهل اللهو والعبث، فأفتى السيوطي بهدمها وكتب في ذلك رسالته «هدم الجاني على الباني» «1» .
وكانت كتابات السيوطي في حياته موضع اهتمام عامة الناس وخاصتهم، وكانت فتاواه تحظى بهذا التقدير، وكان السلاطين يقدرونه تقديرا بالغا ويعرفون له منزلته، ويتّبعون ما يفتى به أو يشير إليه، ففي عام 896 هـ، ذاع بين الناس فتوى السيوطي بعدم جواز البناء على ساحل الروضة لأن الاجماع منعقد على منع البناء في شطوط الأنهار الجارية «2» وقد كتب في ذلك رسالة سماها «الجهر بمنع البروز على شاطئ النهر» «3» ، وقد أذعن لهذه الفتوى القضاة في عصره بعد أن أرسلها إليهم، وقد نظم السيوطي هذه الرسالة في منظومه سماها «النهر لمن برز على شاطئ النهر» «4» ، وقد أرسل السيوطي بفتواه إلى السلطان «فأحاط بذلك علما وتوعد أهل البروزات منعا وهدما» «5» .
وكانت صلة السيوطي طيبة بالسلطان قايتباي الذي عاصره أطول فترة في حياته، وكانت العادة في التهاني أن يصعد إلى السلطان قضاة القضاة وأعيان الدولة لتهنئته بالأعياد أو بأول كل شهر هجري وكان السيوطي ممن يصعد مع القضاة، وكان يفتقد من قبل السلطان إذا تخلف عن الصعود، وفي إحدى المرات وجه السلطان مسألة للسيوطي عن سنة سنها النبي صلى الله عليه وسلم ولم يفعلها، وسكت الجلال السيوطي ولم يجب وأجاب بعد ذلك في رسالة وكان السلطان عنده كتاب يسمى «حيرة الفقهاء» وكان الجواب عن ذلك هو: الأذان، ويبدو أن سكوت السيوطي مرجعه أن الأصح أن الرسول لم يؤذن إلا عند من يقول بصحة الخبر بأنه أذن في وقت ما، وقد
أضاف السيوطي إلى ذلك ذكر بعض
(1) الحاوي للفتاوي ج 2 ص 177.
(2)
ابن إياس: بدائع الزهور ج 2 ص 271.
(3)
الجهر بمنع البروز على شاطئ النهر: رسالة له ضمن كتاب الحاوي ج 1 ص 208.
(4)
المصدر السابق ج 1 ص 226.
(5)
نفس المصدر ج 1 ص 226.