الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
الفصل الثاني
الحياة الثقافية
أشرنا من قبل إلى المكانة التي احتلتها مصر بين دول العالم الاسلامي، وإلى المنزلة التي تبوأتها القاهرة بعد سقوط بغداد.
والنشاط العقلي غالبا ما يرتبط بألوان النشاط الأخرى في بيئة ما، فيزدهر بازدهارها ويخمل بخمولها، إذ إن عناصر الحياة والنماء في سائر الأنشطة متصلة الأسباب مختلطة الأمشاج.
وقد شهدت مصر قبيل سقوط بغداد حركة علمية نشطة في العصر الأيوبي، وقد شجع ملوك بني أيوب هذه الحركة وبعثوا فيها الحياة والنشاط وكان هدفهم من ذلك بعث المذهب السني في البلاد وإحيائه والقضاء على ما خلف الفاطميون من آثار التشيع.
وقد عرف كثير من ملوك الأيوبيين بميلهم إلى العلم ومشاركتهم فيه، وإغداقهم على العلماء وتكريمهم، فكان صلاح الدين شديد الكلف بعلوم الدين، وكان يحضر مع أبنائه دروس الحافظ السلفي بالاسكندرية، كما سمع من غيره وحضر كثيرا من مجالس العلماء المشهورين «1» ، وقد سلك ملوك بني أيوب مسلك صلاح الدّين في تشجيع العلم وتقريب العلماء، وقد أنشأ صلاح الدين عديدا من المدارس لنشر المذهب السني ولم يكن بالبلاد مدارس قبل ذلك، فابتنى مدرسة بالقرافة الصغرى بجوار الامام الشافعي، وأنشأ أخرى بجوار المشهد الحسيني، وأقام ثالثة وخصصها للحنفية وقد عرفت هذه في عهد السيوطي بالسيوفية، كما خصص للشافعية مدرسة عرفت بزين التجار وكانت
(1) د. عبد اللطيف حمزة: الحركة الفكرية في مصر ص 149.
على عهد السيوطي تعرف بالشريفية، وبنى مدرسة للمالكية عرفت على عهد السيوطي بالقمحية، كما أنشأ خانقاه سعيد السعداء حيث أقام بها الصوفية وكان بها دروس علمية «1» .
وكان لكل مدرسة مدرسون ومعيدون وطلبة تجرى عليهم الأرزاق من الأوقاف التي وقفها السلطان لذلك، وقد اتبع كثير من ملوك بني أيوب هذه السنة في إنشاء المدارس والخوانق والمساجد.
وحين خلف المماليك بني أيوب في حكم مصر فانهم لم يكونوا أقل تحمسا للعلم وأهله وللمذهب السني من أسلافهم، لذلك دأب ملوكهم على إنشاء المساجد والمدارس والخوانق ووقفوا عليها الأوقاف السخية التي تمدها بما تحتاج إليه من الأموال، هذا فضلا عن أن مصر قد غدت في أيامهم محور النشاط العلمي والديني في العالم الاسلامي بعد سقوط بغداد في أيدي التتار وأصبحت القاهرة قبلة علماء المسلمين ومحط رحالهم ومركز علمهم، وغدت تموج بألوان النشاط العقلي المتنوعة.
ولقد حرص كثير من سلاطين المماليك على تشجيع الحركة العلمية بالبلاد والمشاركة في العلوم في بعض الأحيان وإن تكن مشاركتهم لا تقاس إلى مشاركة أسلافهم الأيوبيين. وكان للغوري- وهو آخر من عاصرهم السيوطي- مجالس علمية تعقد مرتين أو أكثر في كل أسبوع «2» .
وهكذا شهد العصر المملوكي نشاطا ثقافيا واسعا كما شهد كثيرا من المنشآت العلمية التي تمثلت في المدارس والخوانق والأربطة والزوايا والمساجد، وجميع هذه المنشآت- غير المدارس- كانت أماكن للدرس فضلا عن وظائفها الأساسية، أما المدارس فلقد كان غرضها الأساس أن تكون أماكن لالقاء الدروس وإقامة الطلاب، وقد ذكر ابن بطوطة أن مدارس مصر في القرن الثامن- وهو القرن السابق للقرن الذي عاش فيه السيوطي- «لا يحيط أحد بحصرها لكثرتها» «3» .
(1) السيوطي: حسن المحاصرة ج 2 ص 185.
(2)
عبد الوهاب عزام: مجالس السلطان الغوري.
(3)
رحلة ابن بطوطة ج 1 ص 20.
وكان إلى جانب هذه المدارس مكاتب صغيرة ملحقة بها تعنى بتعليم الصبية مبادئ القراءة والكتابة وطرفا من العلوم الأولية وتحفيظ القرآن، وكانت هذه المكاتب تمهد
للالتحاق بالمدارس الكبيرة.
وكانت هذه المدارس بمثابة جامعات علمية عظيمة الشأن من حيث طريقة التدريس ومستوى الدراسة ونظم التلقي والإقامة، وكان لها نظم وقواعد محكمة ومرعية في مختلف مناحيها، بل إنها تمتاز عن الجامعات الحديثة بأن طلابها كانوا لا يجدون من العقبات والعوائق ما يحول بينهم وبين تحصيل العلوم فضلا عما كانوا ينالونه من ضروب التيسير والمساعدة.
وقد روعي في تصميم المدارس الأغراض التعليمية وعدد المذاهب ومساكن الطلبة والمعيدين فضلا عن خزائن الكتب والمصاحف، ولم يكن بناء المدرسة مستقلا في كثير من الأحيان، بل كان بناء ملحقا بالقبة التي بناها السلطان أو الأمير منشئ المدرسة ليدفن فيها بعد وفاته، ومبعث اختيارهم أن يدفنوا إلى جوار المدارس هو طلب الرحمة باعتبار المدارس أماكن تدرس فيها العلوم الدينية «1» ، وكان بالمدرسة مسجد وله عدد من المؤذنين وكان يؤم المصلين بها أحد القائمين بالتدريس أو المعيدين «2» .
وجرت العادة عند الفراغ من بناء مدرسة للسلطان أن يحتفل بافتتاحها في حفل كبير يحضره الأمراء والفقهاء والقضاة والأعيان ويأكلون من سماط يزخر بألوان الأطعمة، ثم يخلع السلطان على كل من أسهم في بناء المدرسة «3» ، ويعيرى لها موظفيها من المدرسين والمعيدين والمؤذنين والقراء وغيرهم.
أما العلوم الأساسية التي كانت تدرس في هذه المدارس فقد ارتبطت بأصول الدين كالفقه والحديث والتفسير أو العلوم اللغوية وما يتصل بها كالنحو والصرف والبيان، فضلا عن الدراسات العقلية كالفلسفة والمنطق أو العلوم العملية كالفلك والكيمياء والطب.
(1) د. سعيد عاشور: المجتمع المصري ص 149.
(2)
راجع: ابن دقماق: الانتصار: الكلام عن المدرسة الطيبرسية ج 4 ص 96.
(3)
راجع على سبيل المثال افتتاح مدرسة السلطان حسن: بدائع الزهور ج 1 ص 204.
وبطبيعة الحال فلقد تفاوتت هذه المدارس بحسب ما رصد لكل منها من أوقاف وما كان لكلّ من الشهرة بحسب شهرة العلماء القائمين بالتدريس فيها، ولذلك فكثيرا ما نرى من علماء العصر من قام بالتدريس بإحدى المدارس الصغيرة ثم تركها وانتقل إلى مدرسة أخرى أكثر شهرة وأوسع أوقافا.
أما فيما يخص الطلبة فقد كان الواحد منهم يحضر دروس أحد المدرسين حتى يأخذ منه كفايته ثم ينتقل إلى الآخر حتى يصل من يأخذ العلم عنهم بضع مئات في بعض الأحيان، ونلاحظ ذلك من مطالعة تراجم كثيرين من علماء ذلك العصر، وكثيرا ما تطلبت هذه الطريقة من طالب العلم أن يرحل إلى مختلف المدن فإذا أتم الطالب دراسته وتأهل للفتيا والتدريس أجاز له شيخه ذلك وكتب له إجازة يذكر فيها اسم الطالب وشيخه ومذهبه وتاريخ الاجازة «1» ، ولا شك أن لهذه الطريقة مزايا متعددة تتمثل في حرص الطالب على حضور دروس أكبر عدد من الشيوخ والسماع منهم، كذلك الحرص على حضور دروس كبار الأساتذة والعناية بها للحصول على إجازات منهم، وقد كان الحصول على الاجازات يستلزم من الطالب إتقان ما درسه على الشيخ واستيعابه وتفهمه وحفظه في بعض الأحيان فإذا ما أتم ذلك استوجب أن يمنح إجازة بتدريس كتاب ما أو الافتاء في مذهب من المذاهب الفقهية، وقد ظل هذا التقليد ذائعا ومرعيا طيلة هذه الفترة.
وعرف في هذه المدارس نظام المحاضرات التي عرفت بالمجالس إذ كان بعض المدرسين يملي مجالسه على طلبته، وقد ذكر السيوطي عن الحافظ العراقي أن الله تعالى أحيا به سنة الاملاء فأملى أكثر من أربعمائة مجلس «2» ، كما ذكر أن ابن حجر أملى أكثر من ألف مجلس وأن الله قد أحيا به وبشيخه العراقي سنة الاملاء «3» .
(1) عبد الوهاب حمودة: صفحات من تاريخ مصر ص 44.
(2)
حسن المحاضرة ج 1 ص 204.
(3)
حسن المحاضرة ج 1 ص 206، نظم العقيان في أعيان الأعيان: ترجمة ابن حجر ص 45.