الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
اثبات الأسماء بالقياس
تناولت في بحثي عن ظاهرة القياس هذا الموضوع بشيء من التفصيل وقد بينت أنه من مباحث الأصوليين الهامة، كما وجدت له إشارات هامة لدى اللغويين، وهو يقوم على أمرين: أولهما النظر في بعض الأسماء لمعرفة المعنى الذي اشتق منه الاسم أو وضع له، وثانيهما إذا ما تحقق هذا المعنى في اسم غير الاسم السابق أمكن إطلاق الاسم الأول على الاسم الثاني على اعتبار أن هذه التسمية حقيقية وليست من قبيل المجاز.
وهم يمثلون لهذا القياس باثبات اسم الخمر للنبيذ على أساس أنها تسمية حقيقية لغوية، وليست تسمية مجازية، ذلك أن الخمر إنما سميت خمرا لأنها تخمر العقل، وقد تحقق هذا المعنى في النبيذ فأمكن إطلاق اسم الخمر عليه «1» .
وقد تبين لي أن جمهور الأصوليين واللغويين ينكرون ثبوت اللغة بالقياس على النحو السابق حتى ابن فارس- الذي حاول أن يطرد الاشتقاق في اللغة وأن يرد ألفاظها إلى معان مشتركة، فقرر أن «للغة العرب قياسا وأن العرب تستق بعض الكلام من بعض .. إلى آخره» «2» ، وطبق هذه الفكرة في معجمه مقاييس اللغة-، لم يجز هذا النوع من القياس بل قرر أنه «ليس لنا اليوم أن نخترع في اللغة ولا أن نقول غير ما قالوه ولا أن نقيس قياسا لم يقيسوه لأن في ذلك فساد اللغة وبطلان حقائقها، ونكتة الباب أن اللغة لا تؤخذ قياسا نقيسه الآن نحن» «3» .
وقد أورد السيوطي في الحديث عن هذا الموضوع نقولا عن بعض الأصوليين توضح إنكارهم لثبوت اللغة بالقياس وهجومهم على من يقول بهذا الرأي،
(1) المستصفى ج 1 ص 322.
(2)
الصاحبي في فقه اللغة ص 33
(3)
الصاحبي في فقه اللغة ص 33.
فنقل عن الكيا الهراسي وابن برهان وإمام الحرمين والغزالي نقولا ينكر فيها أصحابها ثبوت اللغة على هذا النحو.
والواقع أن موقف هؤلاء صحيح تماما، وهو ما كانت له السيادة في البيئتين الأصولية واللغوية، ذلك أنهم لاحظوا أن اللغة لا يطرد فيها تسمية الأشياء بحسب المعاني، فالبنج لا يسمى خمرا وإن كان يخامر العقل، والدار لا تسمى قارورة وإن كانت الأشياء تستقر فيها، كما أن الواقع اللغوي الذي يرى اللغة ظاهرة اجتماعية قائمة على الاصطلاح والمواضعة بين أبناء المجتمع يثبت أن معاني الألفاظ إنما حددها ما تعارف عليه المجتمع، وأن تطور الدلالات أو تغيرها تعميما أو تخصيصا أو تضادا يخضع لقوانين معينة ليس من بينها هذا القياس العقلي النظري المجرد، ولذلك فلقد أصاب القدماء في إنكارهم ثبوت اللغة على النحو السابق لأنه تعميم للدلالة أو تغيير لها دون وضع اعتبار لما تعارف عليه المجتمع الناطق لها من تعيين كل لفظ بازاء دلالة معينة، ودون أن يكون هذا التغيير حادثا عن طريقه الطبيعي، ولذلك فقد نص هؤلاء المنكرون على أن اللغة إنما تثبت نقلا عن العرب.
وليس هذا المبحث كما يبدو مبحثا نظريا عقليا تماما، بل هو مبحث عملي يهتم به الأصوليون لصلته بالحكم الشرعي واحتمال تغيره تبعا لتغير مدلول اللفظ أو تعميم هذا المدلول أو تخصيصه، فمن يسمي النبيذ خمرا لتحقق معنى المخامرة فيه يدخله في عموم قوله صلى الله عليه وسلم:«حرمت الخمر لعينها» ، ولذلك فانكارهم ضروري لتفسير نصوص القرآن والسنة المتصلة بالأحكام الشرعية بحسب الدلالات التي كانت لألفاظها أوان البعثة وقبل أن يطرأ تغير أو تطور لهذه الدلالات، ذلك أن هذا القياس مبناه على تعميم دلالات خاصة فكأنه يعطي بعض الألفاظ ما لم يكن لها وما لم يعرفه المجتمع الناطق لها، وفي ذلك خطورة على النص الشرعي.
ويتصل بحث هذا الموضوع بنشأة اللغة فقد يتصور أن من يقول بكونها مواضعة واصطلاحا يمكن أن يجيز هذا النوع من القياس، ومن يقول بالتوقيف لا يجيزه، ولكنّ الحقيقة أننا لا نرى من بين القائلين بالمواضعة أو المتوقفين في
نشأة اللغة من ينتصر لهذا القياس ويرى ثبوت الألفاظ به، وهو ما عبر عنه السيوطي بانكار جواز قلب اللغة «1» ، وفي هذا دلالة على النظرة الواقعية إلى حد كبير في اللغة، ذلك أن حقيقة إنكار هذا النوع من القياس فضلا عن صلته بالأحكام الشرعية تكمن في أن هذه الألفاظ لم يتح لها من تعارف مجتمع الناطقين بها ما يسوغ استعمالها، فاللغة مواضعة بين جميع الناطقين وهي من صنع المجتمع، وليست من صنع فرد أو مجموعة من الأفراد.
إنّ بحث القدماء لا سيما الأصوليين لهذا الموضوع يؤكّد إدراكهم الصحيح لعرفية اللغة، وأنّ دلالات ألفاظها عرفية لا يجوز للعقل أن يتدخل في تغييرها أو تبديلها ولذلك يكثر عند الأصوليين أن يقولوا «لا مجال للعقل في اللغات» أو «لا قياس في اللغات» وهم يعنون ما بيناه من تأكيد هذه العرفية، ويدحض ما يتوهمه بعض الدارسين المحدثين الذين يتصورون أن المعنى عند الأصوليين عقلي.
(1) الاقتراح في علم أصول النحو ص 7.