الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
مراحل حياته
سبق لنا بيان المرحلة الأولى من حياة السيوطي التي ابتدأت بمولده وما تبعه من دراسته وتلقيه عن الشيوخ حتى أجيز بتدريس العربية ومن ثم فقد أصبح مشاركا في الحياة بصورة أخرى، ومنذ ذلك التاريخ تبدأ مرحلة متميزة من مراحل حياته دأب فيها على التلقي والدراسة مع مشاركة في الحياة العامّة.
وقد أجيز بتدريس العربية منذ وقت مبكر (عام 866 هـ) إذ لم يكن قد أتم السابعة عشرة، وقد ابتدأ التأليف منذ ذلك الوقت، ولهذا دلالته على قدرته الفائقة ونبوغه المبكر. وقد أسهم الرجل منذ ذلك الحين في الحياة العملية وتصدي للنفع العام بعد قليل فقصد مسجد ابن طولون وأملى به الحديث من مستهل عام 872 هـ «1» ، فكان يملي به الحديث يوم الجمعة بعد الصلاة اتباعا للخطيب البغدادي وابن السمعاني وابن عساكر، وخلافا للعراقي وولده وابن حجر فإنهم كانوا يملون يوم الثلاثاء «2» ، ويحاول السخاوي الغض من قيمة عمل السيوطي فيتهمه بأنه كان يدرس لجمع من العوام أملى عليهم الحديث وأنه توسل بذلك إلى الوصول إلى منصب التدريس بالشيخونية «3» .
وقد حصل السيوطي على إجازة بالتدريس والافتاء من شيخه البلقيني عام 876 هـ، تصدر على أثرها للتدريس والافتاء، وحضر شيخه تصديره «4» ، وكانت سنه آنذاك تقترب من السابعة والعشرين، وهي سن صغيرة لمن يتصدى لمثل ذلك، وقد ساعده شيخه البلقيني في تولي وظيفة تصدير الفقه بالجامع
(1) حسن المحاضرة ج 1 ص 190.
(2)
الشعراني: ذيل الطبقات الكبرى (مخطوط) ورقة 4 ص 8.
(3)
السخاوي: الضوء اللامع ج 4 ص 66، 67.
(4)
حسن المحاضرة ج 1 ص 189.
الشيخوني وهي الوظيفة التي كان بها أبوه من قبل «1» .
وفي العام التالي (شعبان 877 هـ)، تولى السيوطي تدريس الحديث بالخانقاه الشيخونية بعد وفاة الفخر المقسي «2» ، وقد أعانه في الوصول إلى هذه الوظيفة.
الأمير إينال الأشقر «3» . كما تولى السيوطي إلى جانب ذلك وظيفة أخرى هي مشيخة التصوف بتربة برقوق نائب الشام بالقرافة، وقد ساعده في توليها أبو الطيب السيوطي «4» ، وبقي السيوطي يجمع هذه الوظائف في يده حتى ناهز الأربعين من عمره.
وتبدأ مرحلة ثالثة من حياة السيوطي حين بلغ الأربعين من عمره يلاحظ عليه فيها ميله إلى الهدوء وزهده في الدنيا، وقد حاول في بداية هذه المرحلة أن يعتكف وينقطع إلى الله تعالى، فترك وظائفه السابقة بيد أن اعتزاله التام لم يدم سوى بضعة شهور انتقل بعدها إلى وظيفة أكبر شأنا مما كان تحت يده وهي مشيخة الخانقاه البيبرسية وذلك في ربيع الآخر عام 891 هـ بعد وفاة الجلال البكري، وقد ساعده في الوصول إلى منصبه الأخير صديقه الخليفة المتوكل على الله عبد العزيز «5» .
وبالرغم من أن مشيخة البيبرسية كانت أعظم الوظائف التي تولاها السيوطي وأكبرها أجرا فإنه كان يميل آنذاك إلى الزهد، وكان يتجه بحياته نحو الاعتكاف
(1) الضوء اللامع ج 4 ص 66.
(2)
بدائع الزهور ج 2 ص 142.
(3)
الضوء اللامع ج 4 ص 67، اينال الأشقر أحد أمراء المماليك، ترجم له السخاوي وذمه كثيرا حتى قال فيه «مات غير مأسوف عليه فقد كنت أشهد في وجهه المقت وكان من سيئات الدهر» ، الضوء اللامع ج 2 ص 330، انظر بدائع الزهور ج 2 ص 59.
(4)
الضوء اللامع ج 4 ص 67، كان أبو الطيب السيوطي (828 هـ- 893 هـ) من أعيان موقعي الحكم وكان عالما فاضلا وجيها عند الأمراء وأرباب الدولة، ترجم له السخاوي (ج 11 ص 118) وذكر أنه كان يقصد السلطان والأمراء لقضاء حاجات الناس وكان يميل إلى الاحسان.
(5)
بدائع الزهور ج 2 ص 236.
والانقطاع إلى العبادة والتأليف.
والذي يدلنا على تميز هذه الفترة من حياة السيوطي بالميل إلى العزلة والانقطاع أنه قد حاول العزلة التامة لبضعة أشهر قبل توليه مشيخة البيبرسية ترك فيها الاقراء والافتاء وقد اتهمه معاصره السخاوي بأنه بعد استقراره في البيبرسية «خمد من ثمّ بل جمد بحيث رام ستر نفسه بقوله: تركت الافتاء والاقراء وأقبلت على الله» «1» .
وهناك ما يلقي الضوء على هذا التحول في حياة السيوطي بعد بلوغه الأربعين، ذلك أنه قد تعرض لأزمة بينه وبين السلطان قايتباي بسبب صعوده إليه بالطيلسان، ولم يستحسن السلطان ذلك منه، وتمسك السيوطي بموقفه وكادت الأمور تسير سيرا حسنا لولا أن ابن الكركي خصم السيوطي أوفر صدر السلطان وزين له البطش بالسيوطي مما دعاه إلى أن يحجم بعد ذلك عن الصعود إلى السلطان وألف رسالة سماها «ما رواه الأساطين في عدم المجيء إلى السلاطين» ، وقد ألف في لبس الطيلسان
رسالة سابقة يدعم بها موقفه واستفتى السلطان العلماء في شأن موقف السيوطي، ولكنهم لم ينصروا الحق مما دعاه إلى أن يعتزل وظائفه السابقة «2» .
وهنا نستطيع أن نقرر أن اعتزال السيوطي واعتكافه حين بلوغه الأربعين كما روى ذلك المترجمون له «3» ، كان في الفترة التي أعقبت اعتزاله لوظائفه السابقة وقبل توليه مشيخة البيبرسية، وقد كان اعتزالا موقوتا، ولم يكن دائما كما توهم التراجم السابقة، وإلا فإننا لا نستطيع أن نفسر اعتكافه مع توليه فيما بعد مشيخة البيبرسية ومكوثه بها نحو خمسة عشر عاما (891 هـ- 906 هـ) مع مشاركته في الحياة العامة.
ونحن نقول إنه مال إلى الزهد والعبادة منذ ذلك التاريخ ولكن اعتزاله
(1) الضوء اللامع ج 4 ص 69.
(2)
الشعراني: ذيل الطبقات الكبرى ورقة 18، 19.
(3)
المصدر السابق ورقة 17، شذرات الذهب ج 8 ص 53، تاريخ النور السافر ص 55.
وانقطاعه عن الناس في بيته بالروضة كان في مرتين أولاهما لم تدم أكثر من بضعة أشهر كتب فيها مقامته اللؤلؤية التي تسمى أيضا «التنفيس في الاعتذار عن ترك الفتيا والتدريس» . واعتزاله الثاني واعتكافه كان بعد عز له عن مشيخة البيبرسية في عام 906 هـ، وقد صمم في هذه المرة على عزلته وانقطاعه حتى وفاته عام 911 هـ.
على أن المقامة التي كتبها في الاعتذار عن الافتاء والتدريس تطلعنا على الآلام التي كان يعانيها من معاصريه والأذى الذي تعرض له من بعض من يكيدون له، كما تبين لنا حالة الفساد التي ظهرت بالبيئات العلمية وجعلت الرجل يفكر في اعتزالها، وفي هذه المقامة يعتذر السيوطي إلى أصدقائه عن تركه الحياة العامة فيذكر كثيرا من الأعذار مجملها أن الزمان قد فسد وظهر به من العلامات «ما أمر النبي صلى الله عليه وسلم بأن يلزم العالم عندها خاصة نفسه، ويجلس في بيته ويسكت ويدع أمر الحياة من ذلك الشح المطاع، ودنيا مؤثرة، وهوى له ذو أتباع، وإعجاب كل ذي رأي برأيه، وذلك عين الابتداع، وقد مزجت الأمانات والعهود، وكثر القائلون بالزور والشهود
…
الخ» «1» .
ويتضح من حديث السيوطي كثير من أوجه الفساد التي عانى منها عصره والتي تطرقت إلى الحياة العلمية، كما يدافع عن نفسه ويروى أن كثيرا من علماء السلف المعروفين قد اعتزلوا الحياة العامة حين شاهدوا فسادها، ويتحدث عن اعتزاله للتدريس فيذكر أن تلامذته طبقات ثلاث: أولاها كان فيها خير، والثانية كان بها خير وشر، والثالثة كانت شرا كلها وساء حالها، وهو يحاول بذلك تصوير استشراء الفساد شيئا فشيئا.
ويذكر السيوطي أن فتاواه قد ملأت الأرض وأنه أهل للفتيا وقد انتفع الناس بعلمه، ويبدو من أسلوبه العنيف في آخر رسالته مدى العداء الذي كان يناصبه أعداؤه، فهو يهاجمهم هجوما لا هوادة فيه إذ يصف نفسه وما يبذله من الجهد في العلم وما يأتي به من أمور يعجز غيره عنها ثم ينظر فيجد نفسه بعد ذلك «بين
(1) المقامة اللؤلؤية ص 1 (مخطوط بدار الكتب برقم 21174 ب).
راء بجهام، ورام بسهام وطاعن بكلام، وظاعن بملام، وراجم بسلام غير راحم بسلام» «1» .
كما يشيع في الرسالة اعتداد السيوطي بنفسه وعلمه، فهو يعبر عن ذلك نثرا ثم لا يلبث أن ينظم شعرا يقول فيه:
إذا المشكلات تصدين لي
…
كشفت حقائقها بالنظر
إلى أن يقول:
ولست بإمعة في الرجال
…
أسائل هذا وذا ما الخبر
ولكنني مدره الأصغرين
…
أقضى بما قد مضى ما غبر
ثم يهاجم السيوطي أعداءه الكثيرين ويبدو من رسالته أنه يخص بالهجوم ابن الكركي الذي كان يشي به آنذاك عند السلطان، وكان ابن الكركي إمام السلطان قايتباي، ويشتد السيوطي في هجومه حتى يقول عن خصمه «كلما سمع مني بمسألة يجهلها أكثر النعيق، وتابع النهيق
…
فيا سبحان الله ما أنت وذا هل أنت إلا مغنّ وراء الزفف
…
الخ» «2» .
وهكذا يستمر السيوطي في مهاجمة ابن الكركي ومهاجمة غيره بأعنف أسلوب يمكن أن يكتب في الهجوم، ويعتمد السيوطي على ثروته اللغوية في هجومه الشديد وهجائه لخصومه فهو يصفهم بأنهم «حثالة حقالة حفالة رذالة بذالة نخالة سحالة وصالة هزالة نقالة غسالة بوالة زيالة
…
الخ» «3» .
وقد أورد السيوطي في رسالته مجموعة من الأشعار صور بها نواحي الفساد التي تخللت البيئات العلمية مما جعله يؤثر الابتعاد عنها والانقطاع في بيته فمن ذلك قول الشاعر:
رأيت فقيه الشكل لا علم عنده
…
ويقنع من حال الفقاهة بالاسم
فقلت وقد وافى بتضليع عمّة
…
تضلّع جهلا ما تضلع من علم
(1) المقامة اللؤلؤية ص 4.
(2)
المصدر السابق ص 4، 5.
(3)
نفس المصدر ص 6.
وقول القائل:
دهر علا قدر الوضيع به
…
وغدا الشريف يحطّه شرفه
كالبحر يرسب فيه لؤلؤه
…
سفلا ويطفو فوقه جيفه
وقول القائل:
وعاش بدعوى العلم قوم وما لهم
…
من العلم حظ لا بعقل ولا نقل
فوا عجبا للعلم يحرم رزقه
…
عليم وللأغمار ترزق بالجهل «1»
ويبدو أن حالة السيوطي النفسية وما عاناه من آلام تسبب في إذكاء نيرانها خصومة، وما آل إليه أمره بعد ترك وظائفه السابقة التي كانت تأتيه بنصيب لا بأس به من أوقافها، هذه الحالة قد دفعته لأن ينفث في رسالته تعبيرا عما يحس به داخل نفسه، وتخفيفا لآلامه. فهي تصور حالة نفسية في وقت من أوقات الشدة التي مر بها ولجأ إلى قلمه عساه يجد فيه صديقا يشكو إليه ألمه بعد أن اعتزل جميع الأصدقاء.
ولا تخلو هذه الرسالة من مبالغات في وصف الفساد واتهام الخصوم، ويبدو أن الخليفة عبد العزيز المتوكل على الله الذي كان صديقا للسيوطي ومخالطا له في أكثر الأحيان قد آلمه ما آل إليه أمر صديقه، وكان يعرف عنه اعتداده بنفسه، فسعى له في تولي مشيخة البيبرسية.
والواقع أن مشيخة البيبرسية- في ذلك الحين- كانت أكبر الوظائف التي يتولاها القائمون بالتدريس لأنها كانت أعظم الخوانق المصرية وأوسعها أوقافا، وأكثرها صوفية، ولا نستطيع أن ننكر أن السيوطي قد قرت عينه بهذا المنصب الجديد، وربما يكون قد سعى في سبيل الوصول إليه، ولعله كان يرى نفسه أكفأ وأصلح من غيره لأن يوضع في هذا المكان، وأيا ما كان الأمر فإن ذلك لا ينفي عنه نزعة التصوف الحقيقي التي كانت تخالط وجدانه والتي تمثلت في ميله إلى العزلة.
(1) المقامة اللؤلؤية ص 7.
وبالرغم من الوظائف الجليلة التي تولاها السيوطي فإنه- على ما يبدو- لم يقنع بها بل كان يرى نفسه أهلا لأن يلي من الأعمال ما هو أجل مما وصل إليه لا سيما بعد أن بلغ من العلم مبلغا، وكانت وظائف القضاء- كما أشرنا من قبل- لها شأنها في المجتمع، وكانت وظيفة قاضي قضاة الشافعية التي يمكن للسيوطي باعتباره فقيها شافعيا أن يطمح إليها في يد الشيخ زكريا الأنصاري (824 هـ- 926 هـ) وكان أسنّ من السيوطي وقد تولى هذا المنصب منذ وقت مبكر (886 هـ)، وكان معروفا بالنزاهة والعدالة والميل إلى الزهد والتمسك بالحق «1» ، وقد قبل منصب القضاء بعد تمنع وإباء وقد مكث به نحو عشرين عاما حتى ضعف واعتزل بنفسه عام 906 هـ «2» ، ثم أعيد إليه مرة ثانية، لذلك لم يشأ السيوطي أن ينافسه لزهده وعفته وصافته الحميدة التي جعلت منه صديقا له ومؤيدا في بعض المواقف «3» وكان سلوك الشيخ زكريا لا يدفع أحدا إلى منافسته لا سيما أنه كان عزوفا عن الدنيا غير راغب فيها، مألفا يحبه الناس ويجتمعون إليه.
لم يحاول السيوطي أن ينافسه في الوصول إلى منصب القضاء برغم صلاته القوية بالخلفاء وبعض رجال الدولة لما قدمنا من أسباب، ولأن هذه المحاولة من شأنها أن تسيء إلى السيوطي وتبغضه إلى الناس وإلى أولي الأمر إذا أقدم عليها.
ولكن طموح السيوطي وتطلعه إلى منصب القضاء جعله يتخذ وسيلة أخرى لذلك إذ اتصل بصديقه المتوكل على الله الخليفة العباسي في ذلك الوقت (صفر 902 هـ)، واقترح عليه أن يجعله رئيسا لجميع القضاة بمذاهبهم الأربعة، ولم تكن هذه الوظيفة معروفة بمصر آنذاك إذ إن قضاة كل مذهب كانوا يتبعون قاضي قضاة المذهب، وبذلك فإن أعلى مراتب القضاء كانت وظائف قضاة القضاة الأربعة، ولكن السيوطي أفهم الخليفة بأن وظيفته التي يقترحها كانت بمصر زمن الأيوبيين، وقد تولاها القاضي ابن بنت الأعز، وأن من حق الخليفة
(1) الشعراني: ذيل الطبقات الكبرى: ترجمة الشيخ زكريا الأنصاري ورقة 23.
(2)
بدائع الزهور ج 4 ص 12.
(3)
ذيل الطبقات ورقة 24.
أن يكلها إلى من يراه أهلا لذلك، ومن ثم فإن صاحب هذه الوظيفة تكون له السلطة على قضاة القضاة الأربعة فمن دونهم.
وقد مال الخليفة إلى اقتراح السيوطي، وكان السيوطي في ذلك الحين قد بلغ مكانة علمية ممتازة فضلا عن مكانته الاجتماعية ونشاطه السابق ومشاركته في الحياة العامة بمصر، وأعلن الخليفة أنه عهد للسيوطي بهذه الوظيفة في صفر عام 902 هـ «1» .
ولم يكن هذا التصرف- بطبيعة الحال- مرضيا للقضاة بل كان سببا لثورتهم ومعارضتهم وهاجموا الخليفة وقالوا: ليس للخليفة مع وجود السلطان حلّ ولا عقد ولا ولاية ولا عزل ولكن الخليفة استخف بالسلطان لكونه صغيرا. وكان السلطان آنذاك الناصر محمد بن قايتباي، ولم يكن يبلغ أن العشرين من عمره، وكان على ما وصفه المؤرخون به طيش وظلم، ويبدو أن الخليفة تخوف من مساعي القضاة لدى السلطان وتأليبهم السلطان عليه بحجة أنه فعل أمرا ليس من حقه، وإنما هو من حق السلطان، وقد شرحنا من قبل ما كان عليه أمر الخلافة العباسية في مصر طيلة ذلك العهد، لذلك لم يستطع الخليفة الصمود في وجه تيار الثائرين عليه من القضاة فرجع عن ذلك وتعلل بأن الشيخ جلال الدين السيوطي هو الذي حسن له ما فعل، وأشهد على الخليفة بالرجوع عن العهد الذي عهد به إلى السيوطي ويبدو من سياق ما أورده ابن إياس عن هذه القصة أن السيوطي بعلمه وعقليته الكبيرة ولما بينه وبين الخليفة من صلات طيبة قد استطاع التأثير على الخليفة وإقناعه بأن يقدم على عمل لم يكن معهودا في عصره، ولم يقدر عاقبته، ولم يحتط لما سيترتب عليه من ثورة القضاة.
ولنترك جانبا هذه القصة التي تدل على طموح السيوطي إلى تولي القضاء، ولعله كان يبغي شيئا من الاصلاح، ولنتجه مرة أخرى إلى السيوطي حيث لا يزال يشغل مشيخة البيبرسية كبرى الخوانق وأوسعها أوقافا في عهده، وكانت البيبرسية تضم أكبر عدد من المتصوفة الذين تجري عليهم الأرزاق من جنى
(1) بدائع الزهور ج 2 ص 307.
أوقافها، وقد رأى السيوطي ما آل إليه أمر التصوف في عهده من كثرة الأدعياء الذين استمرءوا العيش داخل الخوانق دون عمل، ولم يقوموا بواجباتهم في العبادة والتخلق بأخلاق التصوف الحقيقة، لذلك فقد وجه إليهم السيوطي نصحه بأن «الصوفي من تخلق بأخلاق الأولياء
…
ومن يأكل المعلوم بغير تخلق بأخلاقهم حرام» «1» .
وقد عمد السيوطي إلى قطع جعلية هؤلاء الصوفية، ولكنهم ثاروا عليه، وكادوا يقتلونه ثم حملوه بأثوابه ورموه في الفسقية «2» ، وكانت هذه الحادثة في جمادى الآخرة عام 903 هـ، ولم يكتف الصوفية بإهانتهم للشيخ بل إنهم شكوه إلى السلطان وسعوا لديه في سبيل قتله، وقد شجعهم وأعانهم على ذلك الأمير طومان باي الذي كان يلي «الدوادارية الكبرى» ويعد صاحب المنصب الثاني في الدولة بعد السلطان، وكان بين السيوطي وبين طومان باي عداوة، وقد مر السيوطي ببعض المحن خلال هذه الأزمة، وقد سعى طومان باي جاهدا في سبيل قتله كما لم يكف أعداؤه عن تأليب ذوي الشأن من العلماء والأمراء عليه، ويبدو أن السيوطي أبدى من الشجاعة ورباطة الجأش خلال أزمته ما جعل تلميذه الشعراني يذكر أنه «لم يتغير منه شعرة واحدة» «3» ، ويدافع الشعراني عن السيوطي ويهاجم الذين ثاروا عليه كثيرا حتى يقول:«إن جميع من قام على الشيخ حصل له مقت بين العباد ومات على أسوأ حال» «4» .
ويستدل بعض الباحثين بهذه الحادثة على فساد التصوف، وانتشار الجهل بين الصوفية الذين ارتفع قدرهم بين العامة على قدر العلماء، كما يرى أن السيوطي كان على حق في سلوكه مع هؤلاء الصوفية «5» .
ولم ينل أعداء السيوطي الذين انتهزوا هذه الأزمة للايقاع به ما يبتغون،
(1) الشعراني: ذيل الطبقات الكبرى ورقة 21.
(2)
ابن إياس: ج 2 ص 339.
(3)
ذيل الطبقات الكبرى ورقة 21 ص 42.
(4)
الشعراني: ذيل الطبقات الكبرى ورقة 21 ص 42.
(5)
عبد المتعال الصعيدي: المجددون في الاسلام ص 342 - 326.
ومرت الفتنة وظل السيوطي في مشيخة البيبرسية، ولم تكن هذه الحادثة سببا في فقده لمشيخة البيبرسية كما توهم كاتب ترجمته في دائرة المعارف الاسلامية «1» ، وقد وقع في هذا الوهم أيضا عبد الوهاب حمودة «2» ، وليس الأمر كما ذهبا إليه لأن هذه الحادثة كانت في جمادى الآخرة عام 903 هـ، وقد نص عليها ابن إياس المؤرخ المعاصر لهذه الفترة، ثم إن تركه لمشيخة البيبرسية لم يكن إلا في رجب عام 906 هـ أي بعد ثلاث سنوات من الحادثة السابقة، ولم يكن سبب تركه لها هو أصداء الحادثة المذكورة، بل كان سبب عزله من مشيخة الخانقاه كما سنرى هو تولي طومان باي السلطنة بعد أن كان يشغل منصب الدوادارية الكبرى، وحينئذ تخوف السيوطي على نفسه فاختفى في جهة غير معلومة وكان السلطان قد طلبه ليفتك به «فلما اختفى قرر السلطان الشيخ يس البلبيسي في مشيخة الخانقاه البيبرسية عوضا عن الجلال السيوطي بحكم صرفه عنها» ، وقد نص على ذلك ابن اياس في حوادث جمادى الآخرة عام 906 هـ «3» .
وهكذا فلقد ظل الرجل بعد حادثة الصوفية في مشيخة البيبرسية بالرغم من كثرة الأذى الذي تعرض له، والثورة الجامحة التي شارك فيها أعداؤه المتربصون به والتي كادت تعصف به.
ويبدو أنه قد تعرض لبعض الأذى من أعدائه بعد هذه الحادثة مما جعله ينفث ما يشعر به من ظلم في رسالته «تأخير الظلامة إلى يوم القيامة» «4» ، وبالرغم من اتباعه في رسالته منهجه في التأليف الذي يكثر فيه من النقول، وعلى الرغم من أن الرسالة في جملتها مجموعة من النقول والقصص التي تذكر ليكون للمؤتسي بأصحابها أسوة حسنة فإن روح الرسالة تشعرنا بمدى ما تعرض له وأحس به خلال هذه الفتنة وبعدها.
وقد تطورت الأحداث بعد ذلك على غير ما يهوى السيوطي، فقد آلت
TheEncy clopaediaofIslam» AlSuyuti «. (1)
(2)
صفحات من تاريخ مصر في عصر السيوطي ص 155.
(3)
بدائع الزهور ج 2 ص 391، 392.
(4)
تأخير الظلامة إلى يوم القيامة (مخطوط بدار الكتب المصرية).
السلطنة إلى طومان باي ألدّ أعدائه، والذي تولى كبر الحملة عليه إبان أزمته السابقة، وكان طومان باي عسوفا سفاكا للدماء كثير التدبير للمؤامرات، وقد قتل كثيرا من خصومه من أمراء المماليك أثناء حكمه، وبالرغم من ذلك فقد كان يظهر العدل في بعض الأمور مما حببه إلى العامة من الناس وإن كان يخفي في نفسه غير ما يظهر «1» ، وهذه الصفات بطبيعتها كفيلة بأن تجعل رجلا مثل السيوطي يخشى على نفسه منذ اليوم الذي ولي فيه طومان باي السلطنة.
لذلك اختفى السيوطي بعد توليه في عام 906 هـ «2» ، وكان حصيفا في تصرفه إذ إن السلطان قد طلبه ليفتك به، وقد كثر الواشون لديه، وقد أوغروا صدره عليه مما جعله يتهدد بتقطيعه إربا إربا «3» .
ومكث السيوطي مختفيا منذ جمادى الآخرة عام 906 هـ، لمدة تزيد عن ثلاثة أشهر، وفي خلال هذه الفترة فقد وظيفته بالبيبرسية إذ صرف عنها وتولى مكانه الشيخ يس البلبيسي «4» .
ويبدو أن السيوطي قد عانى مدة اختفائه كثيرا من الآلام لما كان يبلغه من وعيد السلطان وتهديده، بيد أنه قابل هذه المحن بالصبر والشجاعة التي أثرها عنه تلامذته الذين شاهدوه في محنته أو نقلوا عنه فيما بعد أخبار هذه المحنة.
ويترجم الشعراني لشيخه السيوطي ترجمة تفيض بالحب والاعجاب، ويذكر له كثيرا من المواقف الحسنة، وما أظهره الله على يده من الكرامات، ومهما يكن من شيء في أمر الخوارق التي أوردها السيوطي، وسواء أكانت قد حدثت بالفعل أم كانت من قبيل المنقبيات فإننا نستطيع أن نستدل منها دلالات تعيننا على تعرف الأحداث التي مر بها المترجم له والمواقف التي وقفها.
ومما رواه الشعراني من أخبار هذه المحنة أن أعداء السيوطي قد أججوا النار
(1) ابن إياس: بدائع الزهور ج 4 ص 11، ج 2 ص 395، 396.
(2)
المصدر السابق ج 2 ص 391، 392.
(3)
ذيل الطبقات الكبرى ورقة 22 ص 43.
(4)
بدائع الزهور ج 2 ص 391، 392.
عليه عند السلطان الذي كان يضمر له الكراهية من قبل فأقسم السلطان أن يقطعه قطعا فبلغ ذلك السيوطي فقال: إن رسول الله صلى الله عليه وسلم أخبرني أن رأسه تقطع في يوم كذا وكذا، فكان الأمر كما قال «1» .
كما روى الشعراني عن الشيخ عبد القادر الشاذلي أن السيوطي امتحن «المحن الكثيرة وما سمعته يوما واحدا ينحو على من آذاه من الحسدة ولا يقابله بسوء وإنما يقول: حسبنا الله ونعم الوكيل، وصنف في ذلك كتابا سماه تأخير الظلامة إلى يوم القيامة» «2» .
على أن دياجير الظلمة التي اكتنفت السيوطي في محنته السابقة وفرضت عليه أن يعيش فيها لم تلبث أن تبددت، وانقشعت السحب القاتمة التي ظللت سماء حياته لثلاثة أشهر، فقد دالت دولة طومان باي بعد ثورة المماليك عليه، واضطر إلى الهرب، وآلت السلطنة إلى الغوري الذي بويع في مستهل شوال عام 906 هـ وفي ذلك اليوم ظهر السيوطي بعد اختفائه وقد كفاه الله شر السلطان السابق «3» . وتقبل الدنيا مرة ثانية على السيوطي فيرى بعينيه ما يحل بخصمه طومان باي إذ هرب واختفى وكثر التفتيش عنه من قبل السلطان الجديد، وظل مختفيا نحو ثلاثة أشهر ثم انتهى أمره بأن حصره المماليك في أحد المنازل وألقى بنفسه يحاول الفرار ولكنهم اهتبروه بسيوفهم ومزقوه شر ممزق «4» .
وقد تحول السيوطي بعد هذه المحنة تحولا كبيرا، ولا شك أن هذه الأحداث كان لها دور كبير في تحوله الأخير، ولكن الباعث على هذا التحول كان كامنا في نفسه من قبل، فلقد سبق له أن اعتزل الناس واعتكف في بيته فترة من الوقت بعد بلوغه الأربعين واعتزاله وظائفه، ثم إن اتجاه الزهد والانقطاع كان مؤثرا في حياته طيلة المدة التي تولى فيها مشيخة البيبرسية، بالرغم من مشاركته في الحياة العامة وإسهامه في النفع العام بالتدريس حيث ظل إلى ذلك الحين يملي الحديث
(1) الشعراني: ذيل الطبقات الكبرى ورقة 21، 22 ص 42، 43.
(2)
المصدر السابق ورقة 22 ص 43.
(3)
ابن إياس: بدائع الزهور ج 4 ص 5.
(4)
المصدر السابق ج 4 ص 9، 10.