الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
آثاره اللغوية ومكانها من حياة الدرس اللغوي
توفر السيوطي على جميع هذه الدراسات التي سبقته، وقبل أن نحدد قيمة عمله بالمقارنة بأعمال السابقين وخصائص هذا العمل ومميزاته يحسن أن نعرف أولا بآثاره اللغوية لنتمكن من تحديد أبعاد جهوده في الدرس اللغوي.
وأهم هذه الآثار التي تركها السيوطي في اللغة كتابه الشهير «المزهر» ، الذي سنتناوله بالدراسة ونعتمد عليه في بيان منهج مؤلفه في الدرس اللغوي، وموقفه من الدراسات اللغوية السابقة، ومكانه بين هذه الدراسات، وقبل أن نفيض في ذلك نشير إلى أن للسيوطي بعض الرسائل الصغيرة في اللغة، والعجيب أن قائمة كتبه التي أوردها بحسن المحاضرة لم تذكر «المزهر» بينها كما لم تذكر رسائله اللغوية الأخرى، مما رجح عندي أن قائمة المؤلفات التي تخص اللغة قد سقطت من الترجمة ربما منه وربما من ناسخي الكتاب بعد ذلك وقد سبق أن ذكرت إشارته إلى المزهر في كتابه «النكت على الألفية
…
» الذي لا يزال مخطوطا «1» ، وقد ذكر كتاب «النكت» بين ما ذكره بحسن المحاضرة مما يرجح تأليف المزهر قبل كتابة الترجمة.
والرسائل التي تركها في اللغة غير المزهر هي:
1 - المتوكلي فيما ورد في القرآن باللغة
الحبشية والفارسية والهندية والنبطية والقبطية والسريانية والعبرانية والرومية والبربرية، وهو كتيب صغير، وقد طبع بدمشق في عام 1348 هـ، وقد ألفه للخليفة العباسي المتوكل على الله صديقه، وكان قد طلب إليه ذلك «2» ، وقد بين السيوطي أنه سماه بالمتوكلي اقتداء بأبي بكر الشاشي الذي ألف كتابا في الفقه بأمر الخليفة المستظهر وسماه المستظهري،
(1) النكت ورقة رقم 299.
(2)
المتوكلي ص 2.
وبإمام الحرمين الذي ألف في الفقه كتابا لغياث الدين نظام الملك وسماه الغياثي، وسمى رسالة أخرى الرسالة النظامية، وغيرهم ممن فعل ذلك «1» .
وقد تتبع السيوطي في كتابه ألفاظ القرآن التي نقل عن المفسرين من الصحابة أو التابعين أو تابعيهم أنها مما دخل العربية من اللغات الأخرى، والسيوطي بذلك يوافق القائلين بوجود ألفاظ معربة في القرآن الكريم، وهو الرأي الذي هاجمه الشافعي من قبل في رسالته «2» ، حيث نفى تأثر العربية بغيرها من اللغات وأفرد صفحات طوالا لذلك، واتجه إلى القول بالاتفاق في الوضع اللغوي إذا وجدت مشابهة بين ألفاظ عربية وأخرى غير عربية، وموقف السيوطي من هذه القضية يبدو أكثر جلاء في كتابه الاتقان «3» حيث يتناول القضية فيذكر أن أكثر الأئمة يذهبون إلى عدم وقوع ألفاظ غير عربية في القرآن ومنهم الشافعي وابن جرير وأبو عبيدة، والقاضي أبو بكر بن الطيب وابن فارس، وذلك لقوله تعالى:«قُرْآناً عَرَبِيًّا» ، وقوله تعالى: وَلَوْ جَعَلْناهُ قُرْآناً أَعْجَمِيًّا لَقالُوا لَوْلا فُصِّلَتْ آياتُهُءَ أَعْجَمِيٌّ وَعَرَبِيٌّ، وحكى السيوطي إنكارهم وقوع ألفاظ أعجمية في القرآن وميلهم إلى القول بالاتفاق في الوضع بين العربية وغيرها من اللغات، وقد بالغ بعض هؤلاء فذهب إلى أن اتساع العربية وكثرة ألفاظها جعلت أمثال هذه الألفاظ تخفى على أمثال ابن عباس وغيره ممن عزوها إلى ألسنة غير العرب، ويبدو من عرض السيوطي كثرة أنصار الرأي القائل بعربية هذه الألفاظ وتعليل ذلك باتساع لسان العرب حتى خفي على بعض الناس حقيقة هذه الألفاظ، بيد أن ثمة رأيا حاول صاحبه التوسط بين المنكرين والمثبتين وهو في الحقيقة أصوب هذه الآراء وأكثرها إدراكا للواقع اللغوي وما ينتج عن اختلاط اللغات بعضها ببعض من وقوع التأثير والتأثر في الألفاظ، واستعمال كل لغة بعض ألفاظ الأخرى بعد تهذيبها وصقلها وصوغها بصيغها المألوفة وهو ما يعرف في العربية بالتعريب، وقد وقع هذا التعريب في العربية،
(1) المصدر السابق ص 2.
(2)
رسالة الشافعي ص 41 - 51.
(3)
الاتقان في علوم القرآن ج 1 ص 136، 137.
ووجدت ألفاظ أجنبية استعملها العرب قبل الاسلام في لغتهم نتيجة الاختلاط بينهم وبين غيرهم من الأمم، وقد كان بمكة جاليات أجنبية من الحبشة والروم والفرس ممن اشتغلوا بالتجارة وأقاموا بها، وقد دخلت إلى العربية بعض ألفاظهم بعد شيء من التحوير في أصواتها وصيغها لتناسب الأصوات والصيغ العربية، كما أن اختلاط العرب بالأمم المحيطة بهم وهم طريق التجارة وأداتها بين الشرق والغرب معروف، ونلاحظ مصداق ذلك في أشعار الجاهليين لا سيما من أكثر منهم دخول بلاد الفرس والروم أو البلاد المجاورة لها. فنلاحظ لديهم استعمال الألفاظ الأجنبية بعد تعريبها، والقول الذي يشير إلى هذه الحقيقة ويرى استعمال الألفاظ المعربة في القرآن الكريم بعد أن عربتها العرب هو ما نسب إلى أبي عبيد القاسم بن سلام، وقد نقل عنه السيوطي قوله:«والصواب عندي مذهب فيه تصديق القولين جميعا وذلك أن هذه الأحرف أصولها أعجمية كما قال الفقهاء لكنها وقعت للعرب فعربتها بألسنتها وحولتها عن ألفاظ العجم إلى ألفاظها فصارت عربية، ثم نزل القرآن وقد اختلطت هذه الحروف بكلام العرب فمن قال إنها عربية فهو صادق، ومن قال عجمية فصادق» «1» .
وقد حكى السيوطي رأيا مشابها لهذا، ولكنه لم يحدد قائله، وهو أكثر وضوحا ودقة، إذ يرى أصحابه أنه «كان للعرب العاربة التي نزل القرآن بلغتهم بعض مخالطة لسائر الألسنة في أسفارهم فعلقت من لغاتهم ألفاظا، غيرت بعضها بالنقص من حروفها، واستعملتها في أشعارها ومحاورتها، حتى جرت مجرى العربي الفصيح، ووقع بها البيان وعلى هذا الحد نزل بها القرآن» «2» .
والقرطبي ينسب هذا القول إلى ابن عطية في عبارة أكثر تفصيلا- لخص عنها السيوطي عبارته السابقة- توضح تماما هذه الفكرة إذ يقول: «فحقيقة العبارة عن هذه الألفاظ أنها في الأصل أعجمية لكن استعملتها العرب وعربتها، فهي عربية بهذا الوجه، وقد كان للعرب العاربة التي نزل القرآن بلسانها بعض مخالطة لسائر الألسنة بتجارات، وبرحلتي قريش، وكسفر مسافر بن أبي عمرو
(1) المصدر السابق ج 1 ص 138.
(2)
الاتقان في علوم القرآن ج 1 ص 137.
إلى الشام، وكسفر عمر بن الخطاب، وكسفر عمرو بن العاص، وعمارة بن الوليد إلى أرض الحبشة، وكسفر الأعشى إلى الحيرة ومحبته لنصاراها مع كونه حجة في اللغة، فعلقت العرب بهذا كله ألفاظا أعجمية غيرت بعضها بالنقص من حروفها، وجرت إلى تخفيف ثقل العجمة، واستعملتها في أشعارها، ومحاوراتها حتى جرت مجرى العربي الصحيح، ووقع بها البيان، وعلى هذا الحد نزل بها القرآن، فان جهلها عربي، فكجهله الصريح بما في لغة غيره» «1» .
بيد أن المنكرين لوجود ألفاظ أعجمية في القرآن لا يقبلون الأقوال التي حاولت التوسط بينهم وبين خصومهم الذين يذهبون إلى وجودها، فابن فارس يرى خلوّ القرآن من الألفاظ الأعجمية، وينكر على أبي عبيد رأيه فيقول:«فإن قال قائل: فما تأويل قول أبي عبيد فقد أعظم وأكبر؟ قيل له: تأويله أنه أتى بأمر عظيم، وذلك أن القرآن لو كان فيه من غير لغة العرب شيء لتوهم منه متوهم أن العرب إنما عجزت عن الإتيان بمثله لأنه أتى بلغات لا يعرفونها، وفي ذلك ما فيه» «2» .
ويتضح أن حجة ابن فارس لا يسندها الواقع اللغوي الصحيح، لأن العرب القدماء قد وقع في أشعارهم ألفاظ معربة كالسجنجل في شعر امرئ القيس وشهنشاه في شعر الأعشى، وغير ذلك كثير، ولم يخرجهم ذلك عن النمط العربي السليم، والأساليب العربية الصحيحة، فوقوع ألفاظ معربة في القرآن لا يعني أنه نزل بجملة من اللغات، وإنما نزل بالعربية بما احتوته من ألفاظ ذات أصول أجنبية تمثلتها العربية وصقلتها وفقا لخصائصها الصوتية والصرفية وأصبحت تستعمل بها، وهذا أمر معروف في جميع اللغات.
والسيوطي يذهب مع القائلين بوجود ألفاظ أعجمية في القرآن الكريم، وقد دلّ على رأيه وضعه الكتاب الذي نتحدث فيه، وسنرى له بعد قليل كتابا آخر يؤكد هذه الفكرة بيد أننا- في الحقيقة- لا نجد له- في هذا الكتاب المسمّى
(1) القرطبي: الجامع لأحكام القرآن ج 1 ص 68، 69.
(2)
الصاحبي في فقه اللغة ص 29، 30.
بالمتوكلي- رأيا فيما ذهب إليه أبو عبيد وابن عطية وغيرهما من الذين قالوا بتعريب هذه الألفاظ واستعمال العرب لها ثم استعمال القرآن لهذه الألفاظ بعد ذلك، وإن كان ما ذهبوا إليه لا يتنافى مع اختيار السيوطي لوقوع ألفاظ أعجمية في القرآن، وقد حاول نتيجة لطبيعة عقليته الحديثية النقلية أن يدعم رأيه ببعض الآثار والأحاديث فقال:«وأقوى ما رأيته للوقوع، وهو اختياري ما أخرجه ابن جرير بسند صحيح عن أبي ميسرة التابعي الجليل قال: في القرآن من كل لسان» «1» .
وقد أورد بعض النقول غير هذا ثم أكد احتواء القرآن على ألفاظ من مختلف اللغات بقوله «فالنبي صلى الله عليه وسلم مرسل إلى كل أمة، وقد قال الله تعالى: وما أرسلنا من رسول إلا بلسان قومه، فلا بد وأن يكون في الكتاب المبعوث به من لسان كل قوم وإن كان أصله بلغة قومه هو» «2» .
وعلى هذا الأساس وضع السيوطي كتابين أو رسالتين في هذا الموضوع غير تناوله له في كتابه الإتقان، وإذا عدنا إلى «المتوكلي» فإننا نستطيع أن نخرج بعد قراءته بالملاحظات التالية على منهجه:
أولا: من ناحية تنظيم الكتاب، رتب السيوطي الألفاظ المنسوبة إلى كل لغة من اللغات على انفراد، فبدأ بذكر الألفاظ التي جاءت بلغة الحبشة، ثم ما جاء بالفارسية فالرومية، فالهندية، فالسريانية، فالعبرانية، فالنبطية، فالقبطية، فالتركية، فالزنجية، فالبربرية، فكأن بالقرآن ألفاظا من إحدى عشرة لغة، وهي اللغات التي كانت معروفة وقت نزوله.
ثانيا: جميع ما أورده من الألفاظ حوالي 91 لفظا موزعة بين اللغات التي
(1) الإتقان ج 1 ص 137.
(2)
المصدر السابق ج 1 ص 137، وحجّة السيوطي واهية في نظرنا فليس وجود ألفاظ من لغة ما أو لفظة واحدة في العربية يعني أن الناطق للعربية ينطق بهذه اللغات جميعا، ومن البديهيّ أن المخاطبين بالقرآن الكريم من غير العرب لا يمكن لهم فهمه إلا بتعلم اللسان العربي، وليست اللغة مجرد ألفاظ إنما هي نظام له خصائص صرفية وصوتية وتركيبية ودلالية بالإضافة إلى ذلك.
ذكرها، بيد أن بعض هذه الألفاظ قد تكرر أكثر من مرة فيما أورده، لكونه منسوبا إلى أكثر من لغة، وبالرغم من ذلك لم يلفت السيوطي إلى شيء بصدد هذه الملاحظة وهي اختلاف النقول في نسبة بعض الألفاظ إلى اللغات، فهو بصدد الحديث عن السريانية يورد لفظة «الفردوس» ، وذلك بإسناد عن ابن عباس عن كعب الأحبار «1» ، ثم لا يلبث أن يوردها بين ما ورد بالنبطية ويعزو ذلك إلى السدّي «2» ، وقد أوردها من قبل بين الكلمات التي جاءت بالرومية ونقل ذلك عن مجاهد «3» ، وكثير من الألفاظ أورد السيوطي فيها نقولا مختلفة من هذا القبيل، ولم يعلق بشيء على ذلك، بل اكتفى بتنظيم رسالته على النحو الذي شرحناه، وسرد هذه الألفاظ موردا النقول التي تعزوها إلى لغة من اللغات، وهكذا يتضح في كتابه غلبة الطابع النقلي والعقلية الحديثية التي فصلنا من قبل خصائصها، وقد حدد في مقدمته ما يبين أنه سيذكر الألفاظ التي «ذكر الصحابة والتابعون أنها بلغة الحبش أو الفرس أو غيرهم مما سوى العرب» «4» فكأنه بذلك يصرح بحرصه على اتباع المنهج النقلي.
وقد نسب السيوطي للحبشية 28 لفظا، وللفارسية عددا قريبا من هذا، وللرومية تسعة ألفاظ، وللهندية ثلاثة ألفاظ، وللسريانية تسعة عشر لفظا، وللعبرانية ثلاثة عشر وللنبطية ثلاثة وعشرين، وللقبطية سبعة ألفاظ، وللتركية لفظا واحدا، وللزنجية ثلاثة ألفاظ وللبربرية سبعة ألفاظ.
ثالثا: نلاحظ أنه اجتهد في إيراد كل ما نقل القول عن نسبته إلى غير العربية ويبدو أنه نتيجة لوجهة نظره السابقة قد حاول أن يصل بهذه الألفاظ إلى عدد كبير، فتسامح في النقل إلى حد كبير، برغم أن بعض هذه الألفاظ يمكن القطع بعربيته، وأن بعضا آخر لا يقوم دليل على وجوده في بعض اللغات- لا سيما السامية منها- قبل العربية، ولذلك فلا حجة في نسبته إليها دون العربية، وكثير
(1) المتوكلي ص 9.
(2)
المصدر السابق ص 11.
(3)
نفس المصدر ص 8.
(4)
نفس المصدر ص 2.
من ألفاظ هذه اللغات لا تزال واحدة، أو متشابهة لكونها من عائلة لغوية واحدة، فلا داعي لنسبة بعض ألفاظ القرآن إليها دون العربية.
وليس من الانصاف أن نؤاخذ السيوطي بإغفال بعض الحقائق التي لم نصل إليها إلا في عصرنا الحديث ففكرة العائلات اللغوية وليدة أبحاث علماء اللغة المحدثين، وقد ظهرت أواخر القرن الثامن عشر وأوائل التاسع عشر «1» ، وعلى أساس من هذه الفكرة التي ترد اللغات الحبشية والعبرية والعربية والسريانية بالاضافة إلى ما قيل من انتماء اللغة القبطية إلى نفس العائلة، على أساس من هذه الفكرة التي ترد هذه جميعا إلى أصل واحد، وفصيلة لغوية واحدة هي فصيلة اللغات السامية «2» ، نستطيع أن نرد كثيرا من الألفاظ التي نقل السيوطي عن القدماء نسبتها إلى هذه اللغات لأن وجودها بها إنما هو من قبيل التشابه بين هذه اللغات التي تنتمي إلى أصل واحد وليس فيه دليل على حدوث التأثير، والمعروف أن كلمة مثل «نهر» لا تزال موجودة ومستعملة في جميع اللغات السامية، فليس لنا أن ننسبها إلى إحداها وندعي أنها دخيلة في غيرها من أخواتها الساميات، ومن هذه الألفاظ التي نستطيع القول بعربيتها مع نقل السيوطي نسبتها إلى غيرها كلمة «شطر» التي نقل أنها حبشية ومعناها تلقاء، وقد أكد الشافعي في رسالته عربيتها وأورد شواهد لذلك منها قول خفاف بن ندبة:
ألا من مبلغ عمرا رسولا
…
وما تغني الرسالة شطر عمرو
وقول ساعدة بن جؤية:
أقول لأم زنباع أقيمي
…
صدور العيش شطر بني تميم
وغير ذلك من الشواهد، فكثرة دوران الكلمة على ألسنة الشعراء القدماء يرجح أصالة عربيتها، وأنها ليست من المعرب الذي دخل إلى اللغة، فنسبة
(1) د. علي عبد الواحد وافي: فقه اللغة ص 5.
(2)
المصدر السابق ص 19.
مثلها إلى الحبشية أمر غير مقبول «1» .
وكلمة «ابلعي» التي قال إن معناها: ازدردي بالحبشية، ثم ذكر نسبتها مرة أخرى إلى الهندية، مع أن الكلمة باشتقاقاتها مستعملة ومعروفة في العربية فنسبتها إلى الحبشية تحكم بغير دليل مقبول، فقد ذكر صاحب اللسان «بلع الشيء بلعا وابتلعه وتبلّعه
…
جرعه، وبلع الطعام وابتلعه لم يمضغه، وأبلعه غيره»، وذكر غير ذلك من المشتقات التي تفيد استعمال المادة بمشتقاتها في العربية مذ عصور قديمة، ولا دليل على نسبة الكلمة إلى لغة سامية أخرى.
وكلمة «منسأة» ، التي معناها «العصا» نسبها إلى الحبشية مرة وأخرى إلى الزنجية، وليست الحبشية بأولى من العربية في نسبة الكلمة إليها، فمادة «نسأ» مستعملة في العربية منذ القدم، وقد ذكر صاحب اللسان أن معناها الأول التأخير، وقال إن «المنسأة» العصا يهمز ولا يهمز، ينسأ بها، وأبدلوا إبدالا كليا فقالوا «منسأة» وأصلها الهمز ولكنها بدل لازم حكاه سيبويه وقد قرئ بهما جميعا، قال القراء في قوله عز وجل: تَأْكُلُ مِنْسَأَتَهُ: هي العصا العظيمة التي تكون مع الراعي يقال لها المنسأة، أخذت من نسأت البعير أي زجرته ليزداد مسيره، وقد أورد صاحب اللسان جملة من الشواهد الشعرية المنسوبة إلى الجاهليين في استعمال هذه اللفظة. بل إن السيوطي قد نقل أن كلمة «كفّر» من «كفّر عنا سيئاتنا» ، بمعنى «امح» عبرانية أو نبطية «1» ، مع أن استعمالاتها العديدة بالعربية والتي ترجع معناها إلى الستر والتغطية كما هو مذكور بكتب اللغة بالإضافة إلى وفرة اشتقاقات مادتها يدحض القول بنسبتها إلى غير العربية، وإنما كل الاستعمالات التي تتفرع عن الأصل الأول يمكن أن يلحقها بعض التغيير عن الأصل تبعا لقوانين التطور الدلالي بأنواعه العديدة «3» .
وكذلك كلمة «يحور» من قوله تعالى: إِنَّهُ ظَنَّ أَنْ لَنْ يَحُورَ نقل السيوطي نسبتها إلى الحبشية لأنها بلغة الحبشة معناها يرجع، ونحن لا ننكر هذا المعنى أو وقوعه في الحبشية، ولكنا ننكر نسبة اللفظة إلى الحبشية فهي مستعملة منذ القدم
(1) الشافعي: الرسالة ص 34، 35.
(3)
لسان العرب «مادة كفر» .
في العربية، قال في اللسان: «الحور: الرجوع عن الشيء أو إلى الشيء، حار إلى الشيء وعنه حورا، ومحارا، ومحارة وحؤورا رجع عنه وإليه، قال لبيد:
وما المرء إلا كالشهاب وضوئه
…
يحور رمادا بعد إذ هو ساطع»
فالكلمة مستعملة بهذا المعنى في العربية، ووجودها في الحبشية بنفس المعنى أمر طبعي لكونها لغة سامية كالعربية، ولكن ذلك لا يعنى أن إحدى اللغتين قد نقلت الكلمة عن الأخرى، وإنما كلتاهما قد أخذتها من اللغة الأم.
وكلمة «اليم» المستعملة في القرآن والتي نقل أنها معربة عن السريانية أو عن العبرانية ليس هناك ما يؤكد أن العربية قد أخذتها عن إحدى هاتين اللغتين، وإنما وقعت المشابهة نتيجة لاتحاد الأصل الذي تنتمي إليه اللغات الثلاث، والذي يجعلنا نرجح أن أكثر هذه الألفاظ أو جانبا منها لم تنقلها العربية عن هذه اللغات أن اللغات السامية لم يكن لها ما يدفع إلى تأثر العربية من غلبة المتكلمين بها أو كثرتهم أو تحضرهم باستثناء الحبشية التي كان لها شيء من التأثير بالمجاورة للعرب في وقت من الأوقات قبل الإسلام.
وأمام هذه الكلمات المنسوبة إلى اللغات السامية نستطيع القول بأن وجهة نظر الذين نفوا دخول ألفاظ أعجمية في القرآن وذهبوا إلى القول بالاتفاق في الوضع اللغوي أقرب إلى الصواب من وجهة نظر الذين قالوا بوجود هذه الألفاظ، وإن كانت كلتا النظرتين غير دقيقة في جملة ما ذهبت إليه.
ولا يقف الأمر عند الحدود السابقة، بل إن كثيرا من الألفاظ التي نسبها إلى لغات أخرى غير سامية نستطيع أن نحكم بعربيتها لوجود الأدلة التي تدلنا على ذلك، فقد نقل أن كلمة «مقاليد» كلمة فارسية ومعناها المفاتيح، مع أن مادة «قلد» ومشتقاتها مستعملة في العربية بكثرة ومنذ القدم وقد ذكر صاحب اللسان «قلد الماء في الحوض واللبن في السقاء والسمن في النّحي يقلده قلدا، جمعه فيه، والقلد جمع الماء في الشيء، ورجل مقلد: مجمع، والمقلد: عصا في رأسها اعوجاج يقلد بها الكلأ
…
والجمع المقاليد، والمقلد: المنجل يقطع به القت قال الأعشى:
لدى ابن زياد أو لدى ابن معرّف
…
يقت لها طورا وطورا بمقلد
والمقلد: مفتاح كالمنجل .. وقوله تعالى: لَهُ مَقالِيدُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ يجوز أن تكون المفاتيح، ومعناه له مفاتيح السموات والأرض، ويجوز أن تكون الخزائن، قال الزجاج: معناه أن كل شيء من السموات والأرض فالله خالقه، وفاتح بابه».
كما نقل نسبة بعض ألفاظ إلى القبطية لا يمكننا أن نقره عليها لوجودها في العربية واستعمالها منذ وقت بعيد، من ذلك كلمة «تحتها» في قوله تعالى:
فَناداها مِنْ تَحْتِها إذ نقل أن معناها «بطنها» بالقبطية، وكلمة «بطائن» في قوله تعالى: بَطائِنُها مِنْ إِسْتَبْرَقٍ حيث نقل أنها بالقبطية معناها «ظواهر» كذلك كلمة «الأولى» وهي
اللفظة العربية الصريحة نقل أنها بالقبطية معناها «الآخرة» وذلك في قوله تعالى: الْجاهِلِيَّةِ الْأُولى، وكذلك كلمة «الآخرة» العربية الصريحة نقل أنها بالقبطية بمعنى «الأولى» وذلك في قوله تعالى: فِي الْمِلَّةِ الْآخِرَةِ.
ونخلص مما تقدم إلى القول بأن مذهب المانعين لوجود ألفاظ أعجمية بالقرآن والذين يقولون بالاتفاق في الوضع اللغوي يجافي الصواب في أكثر نواحيه، وأن الذين يذهبون إلى وقوع هذه الألفاظ بالقرآن قبل أن تعربها العرب أو تستعملها لا يطابق الحقيقة وأن الذين توسطوا بين الفريقين وقالوا بوقوع هذه الألفاظ بعد أن عربتها العرب واستعملتها يبدو رأيهم أكثر صوابا، وإن لم يكن قد أصاب كبد الحقيقة، فليس من المقطوع به أن جميع هذه الألفاظ المنسوبة إلى اللغات الأخرى قد استعملتها العرب من قبل، أو عربتها، بل إن بعضها قد استعمله القرآن على الصيغ العربية لأول مرة.
أما ما نأخذه على السيوطي فهو أنه قد انساق وراء مذهبه وحاول نسبة أكبر عدد من الألفاظ التي وردت بالقرآن إلى لغات غير العربية، وجانب كبير منها تصح نسبته إلى هذه اللغات مع القول بأنه معرب، وجانب ليس بالقليل لا يمكن القطع بأنه من هذا المعرب والقول بنسبته إلى هذه اللغات نظرا لوجوده بها- كما بينا- تحكم من غير دليل إذ ليس مجرد التشابه في الصيغ والأصوات في