الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
على أن إحساس السيوطي بتنوع معارفه وبلوغه درجة الاجتهاد في بعض العلوم، وإحساسه أن ذلك لم يحدث لأحد من أبناء زمانه فمنهم من بلغ درجة كبيرة في الفقه أو في العربية أو في علم من العلوم، ولكن اجتماع هذه العلوم على سبيل التبحر لدى أحدهم غير كائن، هذا الاحساس قد جعله يستشعر في قرارة نفسه أنه المبعوث على رأس المائة التاسعة ووجد الرجل نفسه وقد جاوز الخمسين من عمره وحصل من العلوم جملة كبيرة، وبلغ ما لم يبلغه أحد، ورأى أنه قد جاوز أقرانه وبذّهم جميعا، وهنا وقف يعلن أنه المبعوث على رأس المائة التاسعة.
فكرة المبعوثية:
ويبدو أن الرجل كان يعرف أن هذه الفكرة قد تقابل ببعض الأفكار، ولذلك أكدها في كثير من كتاباته فهو يبدأ كتابه «الدر النثير الذي لخص فيه نهاية ابن الأثير» قائلا:«الحمد لله الذي بعث على رأس كل مائة سنة من يجدد لهذه الأمة أمر دينها وأقام في كل عصر من يحوط هذه الملة بتشييد أركانها وتأييد سننها وتثبيتها» «1» .
وكان عليه أن يثبت صحة هذه الفكرة عن طريق السنة وأن يقنع الناس بذلك، ثم عليه بعد ذلك أن يقنعهم بأنه المبعوث على رأس المائة التاسعة.
وبداية هذه الفكرة في كتاباته نلحظها في ترجمته لسراج الدين البلقيني (المتوفي 805 هـ) والد علم الدين، إذ نقل أن السراج البلقيني مجدد المائة الثامنة، ثم ذكر أن كثيرا من المبعوثين على رءوس القرون مصريون: عمر بن عبد العزيز في الأولى، والشافعي في الثانية .. وابن دقيق العيد في السابعة، والبلقيني في الثامنة، ثم أتبع ذلك بقوله «وعسى أن يكون المبعوث على رأس المائة التاسعة من أهل مصر» «2» ، وهنا نلاحظ أنه كان يمهد لفكرته، ويرجو أن يكون هو المبعوث على رأس قرنه، ونلاحظ أنه وضع ترجمته بعد ترجمة البلقيني مباشرة
(1) الدر النثير في تلخيص نهاية ابن الأثير: المقدمة.
(2)
حسن المحاضرة ج 2 ص 183.
وكأنه بذلك يضع مجدد المائة التاسعة عقب مجدد المائة الثامنة، ولم يفصل بينه وبين البلقيني السابق بأحد من علماء قرنه، وذلك في الفصل الذي خصصه لتراجم الأئمة المجتهدين.
ثم ينادي بعد حين بصوت قوي بأنه المتفرد بالعلم والاجتهاد على رأس قرنه فيكتب في عام 898 هـ معلنا ذلك في قوله: «فإن ثمّ من ينفخ أشداقه ويدعي مناظرتي، وينكر علي دعوى الاجتهاد، والتفرد بالعلم على رأس هذه المائة، ويزعم أنه يعارضني ويستجيش عليّ بمن لو اجتمع هو وهم في صعيد واحد ونفخت عليهم نفخة صاروا هباء منثورا» «1» .
وحين ينقضي القرن وينظر السيوطي في نفسه وفيمن حوله ويرى ما بلغه من علم فإنه يصرح بعد ذلك بأنه المبعوث على رأس هذه المائة، ولكنه يمزج قوله بالرجاء والضراعة إلى الله، وقد كتب السيوطي رسالة فيمن «يبعث الله لهذه الأمة على رأس كل مائة سنة» ترجى فيها أن يكون المبعوث على رأس المائة التاسعة لانفراده عليها بالتبحر في العلوم، ثم نظم في هذا الموضوع منظومة تسمى «تحفة المجتهدين في أسماء المجددين» «2» ، وقدم لها بمقدمة نثرية صغيرة، ووضح الفكرة في قوله: «فقد ورد في الحديث الشريف أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال:
إن الله تعالى يبعث لهذه الأمة على رأس كل مائة سنة من يجدد لها أمر دينها، ومعنى التجديد إحياء ما اندرس من العمل بالكتاب والسنة والعمل بمقتضاها على رأس كل مائة سنة أولها من الهجرة النبوية، وهي ما يؤرخ بها في مدة المائة، وأن يكون المبعوث على رأس المائة رجلا معروفا مشهورا مشارا إليه وأن تنقضي المائة وهو مشهور حتى يشار إليه
…
ولا يكون المجدد إلا عالما بالعلوم الدينية ظاهرا وباطنا، ناصرا للسنة قامعا للبدعة» «3» ، ثم نظم منظومة في ثمانية وعشرين بيتا وضح فيها هذه الفكرة، وذكر أسماء المجددين السابقين وشروط من يكون مجددا، وبين أن بعض المئين قد اختلف في المجدد فيها أهو واحد أم
(1) الكشف عن مجاوزة هذه الأمة الألف، رسالة بكتاب الحاوي ج 2 ص 167.
(2)
مخطوط بدار الكتب في ورقة واحدة أي في صفحتين، في مجلد مستقل برقم 260 ح.
(3)
المصدر السابق ص 1.
أكثر؟، ومن الذين لم يختلف فيهم عمر بن عبد العزيز في المائة الأولى والشافعي في الثانية، والغزالي في الخامسة، وابن دقيق العيد في السابعة، ثم ذكر أن البلقيني يعد مجدد المائة الثامنة وفي أخريات المنظومة يترجى السيوطي أن يكون مجدد المائة التاسعة فيقول:
وهذه تاسعة المئين قد
…
أتت، ولا يخلف ما الباري وعد
وقد رجوت أنني المجدّد
…
فيها، ففضل الله ليس يجحد» «1»
وأيا ما كان أمر الحديث عن فكرة التجديد والبعث على رءوس المئين، فإن لها دلالة تهمنا في الحديث عن منهجه في التفكير، وتشير إشارة صريحة إلى ما أحس به الرجل بين أبناء زمانه من تفرده بالعلم وتبحره في أكثر من علم على وجه لم يتيسر لمعاصريه الذين اشتهر كل منهم بإجادة فن واحد، وهذه الدعوى عن التبحر في بعض العلوم صحيحة إلى حد كبير يثبتها ما خلف السيوطي لنا من آثار في سائر فروع المعرفة في عصره، وهذه الآثار تشهد بعلو كعبه في الفنون المختلفة التي طرقها.
ولكي نصف منهج السيوطي وصفا دقيقا نتبين منه كيفية تناوله للأشياء، ونظرته في العلوم لا بد لنا أن نتعرف على مكونات عقليته ومنابع ثقافاته المختلفة.
وقد سبق لنا أن تحدثنا عن شيوخه الذين تلقى عنهم، ولاحظنا أنهم من كبار علماء عصره، كما رأينا رحلاته وتنقلاته إلى أكسيته زيادة في الثقافة والمعرفة فضلا عن قيامه بالحج والمجاورة بمكة لمدة عام، وها نحن أولاء قد رأيناه وقد أحاط بجملة كبيرة من العلوم تبحر في بعضها وأجاد بعضا، وشارك في بعض، فأيّ هذه العلوم كانت ذات أثر أكبر في تفكيره وطبع عقليته؟، وأي هذه العلوم نستطيع من خلالها التعرف على صفات هذه العقلية وتحديد منهج صاحبها في التفكير؟.
إن الإجابة على هذا السؤال ليست بالعسيرة، فقد ذكر الرجل عن نفسه أنه
(1) نفس المصدر ص 2.
تبحر في سبعة علوم هي: التفسير والحديث والفقه والنحو والمعاني والبيان والبديع، ونقل عنه أنه بلغ درجة الاجتهاد المطلق في ثلاثة علوم هي الفقه والحديث والعربية «1» ، ثم إننا نجد أن عنايته بالتفسير متصلة أشد الاتصال بعنايته بالحديث فأهم مؤلفاته في التفسير كتاب «الدّر المنثور في التفسير بالمأثور» الذي جمع فيه جميع الروايات المأثورة عن الرسول صلى الله عليه وسلم وعن الصحابة والتابعين في تفسير القرآن ولا شك أن هذه الروايات التي تفسر القرآن تدخل من جانب آخر في مباحث علماء الحديث، كما يشهد لما نقوله أيضا كتابه «لباب النقول في أسباب النزول» الذي تشيع فيه ثقافة الرجل الحديثية النقلية يخدم بها علوم القرآن.
ومن ناحية أخرى نجد عناية الرجل بالتصوف، والتصوف علم وعمل، والتصوف يطبع عقلية صاحبه بطابع معين ويترك أثرا في منهجه في تناول العلوم، ولذلك أرى أن عقلية السيوطي ومنهجه في التفكير لا بد أن ينظر إليه من خلال أمور ثلاثة هي: علم الحديث الذي اهتم به أبلغ اهتمام وود أن يصل فيه إلى مرتبة الحافظ ابن حجر، والثاني: التصوف الذي أقبل عليه، ودافع عن رجاله وسلك طريقه، والثالث الفقه الذي بلغ فيه درجة الاجتهاد وتصدى فيه للافتاء منذ وقت مبكر، ومن ثم فإننا نستطيع بعد ذلك أن ندرس بقية جوانبه، وأهم الجوانب عنده بعد الحديث دراساته اللغوية التي أجيز بالتدريس فيها منذ بلوغه السابعة عشرة، ثم بلغ فيها بعد درجة الاجتهاد المطلق،
ودراساته الفقهية التي بلغ فيها مرتبة الاجتهاد المطلق.
(1) الشعراني: ذيل الطبقات ورقة 6 ص 12.