الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
من الأمراض التي ليس لها دافع من الأدوية، وقد أنشد السيوطي لذلك في مقامته منكرا على المتداوين:
لكل داء دواء يستطب به
…
إلا الحماقة والطاعون والهرما «1»
وإكمالا للحديث عن الحياة في المدن بصفة عامة وفي القاهرة بصفة خاصة يقتضي تناول بعض الظواهر الاجتماعية التي تميزت بها القاهرة في ذلك الوقت منها طرائق الاحتفال بالأعياد المختلفة ووصف مواكب السلاطين كذلك الحديث عن الألقاب والخلع والملابس التي تميز بها ذلك العصر ثم تناول الأمراض الاجتماعية التي مني بها المجتمع وأهمها الرشوة والزنا والخمر وبعض المعتقدات الفاسدة، ثم تناول روح المرح ووسائل التسلية، وتجنبا للاطالة في هذه الموضوعات رأيت أن أشير إليها بالحديث أثناء تناول حياة السيوطي وآثاره ذلك أنه قد عالج في كثير من رسائله جوانب تهم المجتمع في عصره وتعبر عن روحه وطابعه.
على أن دارس الحياة الاجتماعية لا يستطيع بحال أن يغفل ظاهرة هامة تعدّ من أهم الظواهر الاجتماعية السائدة في مصر في تلك الفترة وهي ظاهرة التصوف، فقد اتخذ التصوف آنذاك طابعا اجتماعيا، ووجه حياة المجتمع وأثر فيها تأثيرا بالغا، لذلك فإننا نرى أن نتناول هذه الظاهرة ونحن نختتم الحديث عن الحياة الاجتماعية.
التصوف والمجتمع:
عرفت البيئة المصرية التصوف منذ عصر مبكر في الاسلام، فقد ظهر بها كثير من المتصوفة منهم ذو النون المصري، وقد عرفت هذه البيئة منذ ذلك الحين دراسة النفس الانسانية في صورة إشراقية تصلها بالملإ الأعلى عن طريق المقامات «2» .
على أن قوة تيار التصوف وأثره في الجانبين الديني والاجتماعي وفعله القوي
(1) المقامة الطاعونية ص 70.
(2)
د. سيد خليل: الليث بن سعد ص 32، انظر حسن المحاضرة ج 1 ص 292.
في الحياة لم يأخذ صورة واضحة إلا في عصر المماليك.
وقد ساعدت عوامل كثيرة على ازدهار التصوف بالبيئة المصرية وتغلغله إلى أعماقها، فهناك عامل البيئة وحب الشعب المصري وميله الطبيعي إلى التدين بما يحتويه من تصوف فضلا عن الميراث الحضاري والثقافي لهذه البيئة، يضاف إلى ذلك ما اختصت به هذه الفترة من ظروف، منها تعرض المسلمين في هذا العصر للغزوات المستمرة من التتار المشركين من جهة الشرق، ومن الصليبيين من جهة الغرب، بالاضافة إلى الأحوال الاجتماعية القاسية التي عاشها الناس والتي سبق أن أشرنا إليها، كذلك الأوبئة والأزمات المستمرة، كل أولئك وجه أنظار كثير من الناس إلى التصوف والانقطاع للعبادة التماسا للعدالة والنعيم فيما وراء الدنيا حيث افتقدوهما في حياتهم الأولى.
وقد وفد على مصر في عصر المماليك كثير من مشايخ الصوفية المغاربة والأندلسيين كالسيد أحمد البدوي وأبي الحسن الشاذلي وأبي العباس المرسي، وقد لقيت مسالكهم قبولا لدى المصريين، كما ظهر بمصر كثير من المتصوفين كابن الفارض «1» ، وساعد على انتشار التصوف كثرة البيوت الخاصة بالصوفية والتي أقيمت لهم وهي ما عرفت بالخوانق والربط والزوايا.
وقد انقسم الصوفية إلى طرق عديدة لكل منها شيخها وشعارها، فالأحمدية- مثلا- نسبة إلى السيد أحمد البدوي وشعارها اللون الأحمر.
على أن كلمات «الخوانق والربط والزوايا» تحمل دلالات مختلفة ومتقاربة لا حاجة بنا إلى تقصيها «2» ، فهي جميعا تدل على بيوت أنشئت لتقيم بها جماعات من الصوفية الذين انقطعوا للعبادة بشروط معينة.
وقد شهد عصر السيوطي بالقاهرة عديدا من الخوانق وتحدث عنها في كتابه حسن المحاضرة خلال حديثه العام عن هذه المنشآت، فتحدث عن خانقاه سعيد السعداء التي أنشأها صلاح الدين الأيوبي ووقف عليها أوقافا واستمرت
(1) حسن المحاضرة، ج 1 ص 292 وما بعدها.
(2)
عبد الوهاب حمود: صفحات من تاريخ مصر في عصر السيوطي ص 20، 21.
عامرة إلى عهد السيوطي «1» ، ومن بعده «2» ، كما تحدث عن الخانقاه البيبرسية التي اعتبرت أعظم خانقاه بالقاهرة «3» ، كما ذكر خانقاه شيخو «4» ، ورباط الآثار «5» ، ولم يفرد حديثا لخانقاه سرياقوس إلا ضمن حديثه عن الخانقاه الأولى.
وقد جرت العادة بأن يعين لكل خانقاه شيخ أو أكثر وعدد من الصوفية، كما كانت هذه المنشآت معاهد ثقافية تدرس فيها العلوم الشائعة ووقتذاك، فالشيخونية كان بها أربعة دروس للمذاهب الأربعة ودرس للحديث ودرس للقراءات، ومشيخة لسماع الصحيحين وقد تولى السيوطي تدريس الحديث بهذه الخانقاه منذ وقت مبكر في حياته (شعبان سنة 877 هـ)«6» ، كما تولى مشيخة البيبرسية فيما بعد.
وقد كان لكل خانقاه أوقاف سخية تفي بأجور القائمين بالتدريس فيها، كما ينفق منها على الصوفية، وقد حرصت الحجج المعاصرة الخاصة بأوقاف هذه المنشآت على وضع الشروط التي تكفل انقطاع الصوفية للعبادة وعدم تغيبهم عن الخانقاه.
وقد كان للصوفية آداب وتقاليد مرعية، وكثيرا ما اجتمع الناس لمشاهدة صوفية خانقاه سعيد السعداء عند ذهابهم إلى صلاة الجمعة في خشوع ونظام تبركا بهم، وقد كان الصوفية بصفة عامة موضع إجلال الناس وتقديرهم في ذلك العصر، وكان الأمراء يتنافسون في بناء الزوايا لهم.
غير أن الحال لم يبق على ذلك إذ تغير في أواخر ذلك العصر من الصلاح إلى الفساد، وتخلوا عن كثير من النظم والآداب التي عرفوا بها بين الناس كما أنشأ
(1) حسن المحاضرة ج 2 ص 187.
(2)
الشعراني: ذيل الطبقات الكبرى، ترجمة الشيخ زكريا الأنصاري ورقة 23 وما بعدها.
(3)
حسن المحاضرة ج 1 ص 190.
(4)
المصدر السابق ج 2 ص 191.
(5)
نفس المصدر ج 2 ص 195.
(6)
ابن إياس: بدائع الزهور ج 2 ص 142.
شيوخهم يمدون الأسمطة الحافلة وينفقون أموال الأوقاف في غير وجوهها.
ويبدو أن انتشار الفقر وسوء الأحوال الاجتماعية الذي سبق الاشارة إليه قد حدا بكثير من الناس إلى أن ينتظموا في سلك الصوفية عن غير استعداد حقيقي الأمر الذي جعل هذه المنشآت الصوفية تضم كثيرا من الدخلاء والأدعياء «1» .
ولما رأى السيوطي حين توليه مشيخة البيبرسية ما آل إليه أمر هؤلاء قطع اعطاء بعضهم ورأى أنه لا حق لهم فيه وهم لا يتخلقون بأخلاق الأولياء و «من يأكل المعلوم بغير تخلق بأخلاقهم حرام» «2» ، فثار ثائرهم عليه وكادوا يقتلونه ثم حملوه بأثوابه ورموه في الفسقية وشكوه إلى الأمير طومان باي الذي كان مبغضا له «3» .
وقد كان لكبار المتصوفة في هذه الفترة مكانة كبيرة في المجتمع، ولم تحجب الظلال المنفرة التي خلقها وجود الأدعياء في صفوفهم من أن يبقى للصوفية مكانة مرموقة مبجلة في المجتمع، وهناك عديد من الأمثلة التي تدل على تلك المكانة التي تبوأها الصوفية منها أن السلطان قايتباي قبّل قدمي رجل اعتقد أنه الشيخ عبد القادر الدشطوطي وشكا إليه ما بينه وبين ابن عثمان سلطان العثمانيين «4» ، وقد ذكر الشعراني عن الشيخ أبي السعود الجارحي المتوفي سنة نيف وثلاثين وتسعمائة أنه كان له «القبول التام عند الخاص والعام والملوك والوزراء وكانوا يحضرون بين يديه خاضعين وعملوا بأيديهم في عمارة زاويته في حمل الطوب والطين» «5» ، وذكر عن غيره أنه كان «كثير الشفاعات عند السلطان والأمراء» «6» . وقد بلغ من نفوذ أبي السعود الجارحي بالبلاد أنه بعد موت الغوري اختار الأمراء طومان باي ليلي السلطنة فامتنع بسبب قلة الأموال ولا
(1) د. سعيد عاشور: المجتمع المصري ص 174، 175.
(2)
الشعراني: ذيل الطبقات الكبرى ورقة 21.
(3)
ابن إياس: بدائع الزهور ج 2 ص 339، شعبان سنة 903 هـ.
(4)
المصدر السابق، ج 2 ص 256.
(5)
الشعراني: لواقح الأنوار في طبقات الأخيار ج 2 ص 104.
(6)
المصدر السابق ترجمة الشيخ تاج الدين الذاكر المتوفي سنة نيف وعشرين وتسعمائة ج 2 ص 103.
ينتظر أن يمتثل الأمراء لرأيه دون أن ينفق عليهم الأموال، فذهب الأمراء إلى الشيخ أبي السعود فأحضر مصحفا وطلب من الأمراء أن يقسموا عليه بطاعة طومان باي، وألا يخونوه ففعلوا فاستقر بالسلطنة «1» . وفي هذا دلالته على أنه كان آثر عند الحكام والشعب من كبار الفقهاء والعلماء المعاصرين. وقد حظى هؤلاء الصوفية لدى العامة
بنفوذ أكبر وكان اعتقادهم فيهم أعظم، وإذا تعرض لهم أحد بما يمسهم قام العامة عليه وأرادوا قتله «2» .
وهكذا يتضح لنا كيف تمتع الصوفية في هذا العصر بنفوذ كبير بين جميع فئات المجتمع بما فيهم العلماء والفقهاء الذين نصبوا أقلامهم وألسنتهم في كثير من الأحيان للدفاع عن التصوف ورجاله، وقد كان السيوطي أحد هؤلاء العلماء الذين مالوا إلى التصوف وانتظموا في سلكه ونافحوا بأقلامهم عن أعتابه.
(1) ابن إياس: بدائع الزهور ج 3 ص 69.
(2)
المصدر السابق ج 2 ص 121 الحديث عن ابن الفارض بين المدافعين عنه والمهاجمين له وقد كان البقاعي الفقيه من بين المهاجمين ويقول ابن إياس: «وأما البقاعي فكادت العوام أن تقتله وحصل له من الأمراء ما لا خير فيه، فهرب واختفى حتى توجه إلى مكة» .