الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
روايتهم للشعر على المصنوع منه، حتى روى عن يحيى بن سعيد القطان المحدث أنه قال:«رواة الشعر أعقل من رواة الحديث، لأن رواة الحديث يروون مصنوعا كثيرا، ورواة الشعر ساعة ينشدون المصنوع ينتقدونه ويقولون هذا مصنوع» «1» .
ونظرا لما قدمنا فقد جعل السيوطي خاتمة المباحث المتصلة بالاسناد عنده في معرفة المصنوع «2» ، وقد نقل فيه عن ابن فارس ما روى عن الخليل من أن:
«النحارير ربما أدخلوا على الناس ما ليس في كلام العرب إرادة اللبس والتعنيت» ، ثم نقل نقولا مستفيضة في هذا الموضوع عن ابن سلام وعن أمالي القالي وطبقات الزبيدي، ثم أتبع ذلك على عادته بكثير من الأمثلة للمصنوع من الأشعار، وله فضل جمع هذه المتفرقات ووضعها في مبحث يحمل اسمها، والواقع أن بحث المصنوع والتنبيه عليه أمر هام يخص اللغويين والنحويين الذين يحتجون بالروايات اللغوية في اللغة أو في النحو، فإذا ثبت لديهم كون بعض ما يحتجون به مصنوعا سقط الاحتجاج به.
ولم يفت السيوطي أن يجمع كذلك عددا من الألفاظ التي نبه اللغويون على أنها مصنوعة فمنها «عفشج» بمعنى ثقيل وقد ذكر الخليل أنها مصنوعة وغيرها من الأمثلة «3» .
وبختام هذا الفصل نكون قد عرضنا للمنهج العام الذي رسمه السيوطي لنقد الرواية اللغوية، وإذا كان ما عرضه يتناول الرواة والأسانيد فانه بذلك يتصل بالمرحلة الأولى والأهم من النقد وهي نقد السند أو ما سميناها بالنقد الخارجي، فماذا كان موقفه من نقد المتن؟
المرحلة الثانية: النقد الداخلي أو نقد المتن:
حظي نقد السند كما بينا بعناية بالغة من المحدثين ثم من اللغويين، وهذه
(1) المزهر ج 1 ص 175.
(2)
المصدر السابق ج 1 ص 171.
(3)
المزهر ج 1 ص 182.
العناية كفيلة بأن توفر الثقة في المنقول إلينا بعد اجتيازه لمرحلة النقد السابقة، بيد أن كلتا البيئتين لم تقتصر- في الواقع- على هذه المرحلة، بل أتبعتها بمرحلة أخرى من النقد تتناول المنقول نفسه، وهي ما نسميه بنقد المتن.
وقد ذهب بعض المستشرقين إلى أن المسلمين قد اقتصروا في نقدهم على الأسانيد ولم يتناولوا المتون، وقد جازت هذه الفكرة إلى الشرق وتبعها أحمد أمين في كتابه ضحى الاسلام، وقد رد أمين الخولي على هؤلاء مبينا أن المسلمين اهتموا بنقد المتن كما اهتموا بنقد السند، ومن الأدلة على ذلك اعطاؤهم الحديث ألقابا اصطلاحية من صفات خاصة بالمتن دون السند كتسميتهم «الشاذ» و «المقلوب» و «المضطرب» و «مدرج المتن» و «المحرف» و «المصحف» .
وكذلك وصفهم قواعد لنقد المتن تصل من الحرية العقلية إلى حد بعيد، وقد مثل لقيامهم بنقد متون بعض الأحاديث، ثم بين أن علم الحديث قسمان: علم الحديث دراية وهو
أصول الحديث، وعلم الحديث رواية وهو دراسة الحديث عند الفقهاء والمتكلمين والمفسرين، ولدى هذه البيئات نجد قيامهم بنقد المتن «1» .
إذا كان هذا أمر نقد المتن في بيئة المحدثين فماذا كان من أمره في بيئة اللغويين وقد تبين لنا في المرحلة الأولى ترسم اللغويين- لا سيما السيوطي- لخطى أهل الحديث في قواعد النقد وأصوله؟ ثم ما الدور الذي قام به السيوطي في دراسة نقد المتن؟.
وقد حظي النظر في النصوص اللغوية ونقدها بعناية اللغويين والنقاد منذ وقت مبكر، وقرر ابن سلام أنه «ليس يشكل على أهل العلم زيادة الرواة ولا ما وضعوا ولا ما وضع المولدون، وإنما عضل بهم أن يقول الرجل من أهل بادية من ولد الشعراء أو الرجل ليس من ولدهم فيشكل ذلك بعض الأشكال» «2» .
(1) انظر مادة «أصول» في دائرة المعارف الاسلامية (الترجمة العربية)، والتعليق عليها للأستاذ أمين الخولي.
(2)
طبقات فحول الشعراء ص 40، وقد نقله صاحب المزهر ج 1 ص 174.
وهو بهذا يعني نظر النقاد في المتون اللغوية ونقدها نقدا داخليا بعد فحص الأسلوب وخصائصه فحصا يتبين لهم منه صحيحها من زائفها، وابن سلام يقرر أن ذلك إنما يدركه أهل البصر بالشعر «وللشعر صناعة وثقافة يعرفها أهل العلم كسائر أصناف العلم والصناعات منها ما تثقفه العين ومنها ما تثقفه الأذن، ومنها ما تثقفه اليد، ومنها ما يثقفه اللسان» «1» .
وقد تناول النحاة المادة اللغوية بالنقد، ونقدهم لها شبيه بصنيع علماء الحديث رواية من الفقهاء وغيرهم فيما يتصل بالحديث.
ويتمثل نقد النحاة في الترجيح بين الروايات، فإذا وردت روايتان مختلفتان لنص واحد فإن النقد يتناول حينئذ النص المروي وذلك بعرضه على الظواهر اللغوية المطردة والأصول المعروفة، فتقبل الرواية التي توافق المطرد، وترفض الأخرى، وذلك مثل أن يستدل الكوفي على إعمال «أن» مع الحذف من غير عوض بقول الشاعر:
ألا أيهذا الزاجري أحضر الوغى
…
وأن أشهد اللذات هل أنت مخلدي
فيقول له البصري: الرواية أحضر بالرفع وهو القياس «2» .
ويتناول اللغويون بالنقد الداخلي ما ينفرد به عربي ممن يحتج بقولهم، وفي هذه الحال ينظر فيما تفرد به القائل بعد التأكد من فصاحته وصحة الاحتجاج بقوله:
1 -
«فإذا كان ما تفرد به مما يقبله القياس إلا أنه لم يرد به استعمال فان الأولى أن يحسن الظن به وأن يقبل» «3» .
2 -
(1) طبقات فحول الشعراء ص 6.
(2)
ابن الأنباري: الاغراب في جدل الاعراب ص 67.
(3)
الخصائص ج 1 ص 385.
(4)
الخصائص ج 1 ص 387.
ونستطيع أن نجد أمثلة لهذا النقد الداخلي في حديث ابن جني عن أغلاط العرب ونجد إشارات كثيرة لدى غيره كلها يصف بعض المروي من الشعر وغيره من النصوص المعتمدة بالخطإ في اللفظ أو في التركيب أو في المعنى، وقد جمع السيوطي معظم هذه النصوص عند حديثه عن أغلاط العرب «1» .
يتضح مما تقدم أن اللغويين قد عرفوا نقد المتن الذي يتناول المادة اللغوية نفسها بالنقد ويستطيع بوسائله المختلفة والمتنوعة أن يثبت صحة نسبتها إلى قائليها أو زيف هذه النسبة ويحدد بالتالي إمكان قبولها أو رفضها.
ولا نجد من اللغويين من خصص لهذه المرحلة من النقد بحثا نظريا منفصلا نستطيع منه وحده معرفة أصوله وقواعده، ولكن صدرت عنهم نصوص كالتي قدمناها يمكن منها التعرف على معالم هذا النقد وأصوله.
أما السيوطي فلم يفرد لهذا الموضوع بحثا منفصلا في كتابه، وإنما تضمنت مباحثه في بعض الأنواع التي قدمناها ما يتصل به، فقد نقل في حديثه عن المصنوع من اللغة بعض ما يتصل بالنقد الداخلي، وحين تناول المفاريد «2» نقل عن ابن جني ما قدمناه من قبل فيما يتصل بهذه المرحلة من مراحل النقد.
ويبدو أن السيوطي قد اكتفى بالتعرض ضمنا لهذه المرحلة فلم يفرد لها قسما مستقلا لأنها متصلة بعدد من المباحث التي تناولها، والحقيقة أن تناول السيوطي لألفاظ اللغة في بعض المباحث التي سنتناولها فيما بعد كالفصيح والضعيف والمنكر والمتروك ونحوها، والغرائب والشواذ والنوادر، كل أولئك له صلة بالنقد الداخلي للرواية حيث أورد ما يتصل بفحص المنقول وبيان درجته من الفصاحة والاستعمال ومرتبته في اللغة، وتجنبا للاطالة فإننا سنشير إلى ذلك فيما بعد أثناء حديثنا عن ألفاظ اللغة عنده.
(1) المزهر ج 2 ص 494.
(2)
المزهر ج 1 ص 248.