المَكتَبَةُ الشَّامِلَةُ السُّنِّيَّةُ

الرئيسية

أقسام المكتبة

المؤلفين

القرآن

البحث 📚

‌أ- رواة اللغة: - جلال الدين السيوطي عصره وحياته وآثاره وجهوده في الدرس اللغوي

[طاهر سليمان حمودة]

فهرس الكتاب

- ‌[هوية الكتاب]

- ‌تصدير

- ‌مقدمة

- ‌الباب الأول عصر السيوطي وحياته، وآثاره

- ‌الفصل الأول

- ‌الحياة السياسية والاجتماعية

- ‌الخلافة:

- ‌ نظم الحكم

- ‌القضاء:

- ‌الحياة الاجتماعية

- ‌بناء المجتمع:

- ‌أرباب القلم:

- ‌التجار:

- ‌الصناع وأرباب الحرف:

- ‌العوام

- ‌أهل الذمة:

- ‌الفلاحون:

- ‌ الأعراب

- ‌الأقليات الأجنبية:

- ‌الحياة في المدن:

- ‌القلق الاقتصادي:

- ‌المجاعات والأوبئة:

- ‌التصوف والمجتمع:

- ‌الفصل الثاني

- ‌الحياة الثقافية

- ‌ دور العلم

- ‌1 - المدارس:

- ‌المدرسة الصلاحية

- ‌مدرسة السلطان حسن

- ‌مدرسة صرغنمش:

- ‌خزائن الكتب:

- ‌2 - الخوانق والربط والزوايا:

- ‌خانقاه سعيد السعداء

- ‌خانقاه شيخو

- ‌الخانقاه البيبرسية

- ‌3 - الجوامع:

- ‌ جامع عمرو

- ‌جامع ابن طولون

- ‌الجامع الأزهر:

- ‌[نتائج نشاط الحركة العلمية]

- ‌1 - وفود الطلاب إلى معاهد العلم:

- ‌2 - كثرة العلماء والأدباء:

- ‌3 - نشاط الحركة التأليفية:

- ‌[منهج التاليف فى العصر]

- ‌1 - الاتجاه الموسوعي:

- ‌2 - ظاهرة التقليد:

- ‌3 - ظاهرة المتون والشروح:

- ‌4 - الاكمالات والتذييلات:

- ‌5 - تنظيم العلوم واستقرار المصطلحات:

- ‌6 - العناية بتاريخ مصر:

- ‌الحياة الأدبية

- ‌ الخطبة

- ‌الرسائل

- ‌المقامة:

- ‌الفصل الثالث

- ‌حياته وثقافته وآثاره

- ‌مولده ونسبه:

- ‌ والده

- ‌‌‌نشأتهوحياته العلمية والعملية

- ‌نشأته

- ‌دراسته:

- ‌شيوخه:

- ‌1 - ابن حجر العسقلاني:

- ‌2 - علم الدين البلقيني:

- ‌3 - شرف الدين يحيى المناوي:

- ‌4 - تقي الدين الشّمنيّ الحنفي:

- ‌5 - محيي الدين الكافيجي:

- ‌6 - سيف الدين الحنفي:

- ‌مراحل حياته

- ‌العزلة الأخيرة:

- ‌وفاته:

- ‌قبر السيوطي:

- ‌صفة المقام:

- ‌مكانه في المجتمع

- ‌السيوطي بين أنصاره وخصومه:

- ‌دعوى الاجتهاد:

- ‌خلقه وشخصيته:

- ‌منهجه في التفكير وأصول هذا المنهج

- ‌فكرة المبعوثية:

- ‌السيوطي وعلوم الحديث

- ‌السيوطي والتصوف:

- ‌السيوطي الفقيه:

- ‌السيوطي والأدب:

- ‌السيوطي الشاعر:

- ‌آثار السيوطي

- ‌الباب الثاني جهوده اللغوية

- ‌تقديم:

- ‌الفصل الأول

- ‌فقه اللغة أو: «الدراسات اللغوية غير النحو والصرف»

- ‌تقديم:

- ‌آثاره اللغوية ومكانها من حياة الدرس اللغوي

- ‌1 - المتوكلي فيما ورد في القرآن باللغة

- ‌2 - المهذّب فيما ورد في القرآن من المعرّب:

- ‌3 - بعض الأبحاث اللغوية المتصلة بالقرآن الكريم:

- ‌4 - رسالة في أصول الكلمات:

- ‌5 - التبري من معرّة المعري:

- ‌6 - التهذيب في أسماء الذيب:

- ‌7 - فطام اللسد في أسماء الأسد:

- ‌8 - الافصاح في أسماء النكاح:

- ‌9 - الافصاح في زوائد القاموس على الصحاح:

- ‌10 - الالماع في الاتباع كحسن بسن في اللغة:

- ‌11 - حسن السير فيما في الفرس من أسماء الطير:

- ‌12 - غاية الاحسان في خلق الانسان:

- ‌13 - شرح قصيدة بانت سعاد:

- ‌14 - الرياض الأنيقة في شرح أسماء خير الخليقة:

- ‌15 - الشماريخ في علم التاريخ:

- ‌16 - المزهر في علوم اللغة وأنواعها:

- ‌منهج السيوطي في المزهر:

- ‌وضع أصول لنقد الرواية اللغوية

- ‌المرحلة الأولى: النقد الخارجي:

- ‌أ- رواة اللغة:

- ‌ب- الأسانيد:

- ‌المرحلة الثانية: النقد الداخلي أو نقد المتن:

- ‌مفهوم اللغة عند السيوطي

- ‌الألفاظ

- ‌المعنى أو الدلالة اللغوية

- ‌الأضداد:

- ‌ضبط اللغة

- ‌نشأة اللغة

- ‌الصلة بين اللفظ والمعنى

- ‌الوضع اللغوي

- ‌المعاجم اللغوية

- ‌اثبات الأسماء بالقياس

- ‌الفصل الثاني

- ‌النحو

- ‌آثاره النحوية

- ‌1 - الأخبار المروية في سبب وضع علم العربية:

- ‌2 - الأشباه والنظائر في النحو:

- ‌3 - الاقتراح في علم أصول النحو:

- ‌4 - الفريدة:

- ‌5 - المطالع السعيدة في شرح الفريدة:

- ‌6 - شرح ألفية ابن مالك

- ‌7 - جمع الجوامع وشرحه همع الهوامع:

- ‌8 - النكت على الألفية لابن مالك، والكافية والشافية لابن الحاجب، وشذور الذهب ونزهة الطرف لابن هشام:

- ‌9 - الفتح القريب على مغني اللبيب:

- ‌10 - شرح شواهد المغني:

- ‌11 - الشمعة المضية في علم العربية:

- ‌12 - الموشح في علم النحو:

- ‌ الفتاوى النحوية

- ‌رسائل الحاوي:

- ‌1 - فجر الثمد في إعراب أكمل الحمد

- ‌2 - ألوية النصر في «خصيصى» بالقصر

- ‌3 - الزّند الوري في الجوانب عن السؤال السكندري

- ‌4 - رفع السنة في نصب الزّنة

- ‌بقية الآثار:

- ‌السيوطي وعلم أصول النحو

- ‌مذهبه النحوي

- ‌خاتمة

- ‌ثبت المصادر والمراجع

- ‌أولا: أسماء مؤلفات السيوطي

- ‌ثانيا: المصادر العربية والمترجمة (لغير السيوطي)

- ‌ثالثا: المصادر الأجنبية

الفصل: ‌أ- رواة اللغة:

التقيد بالتزام جميع عناصر منهج المحدّثين في دراسة اللغة من الأمور التي نحمدها للسيوطي، إذ إنه يحاول أنه يعبر بذلك عن واقع الدّرس اللغوي الذي يختلف في كثير من المواضع بلا شك عن دراسة الحديث الشريف.

وليس التشابه بين منهج المحدثين وبين عمل السيوطي بحاجة إلى التدليل عليه أكثر مما ذكرنا، فقد صرح به في مقدمته، بالإضافة إلى ما رأيناه من تشابه بين تقسيماته وبين تقسيمات أهل المصطلح.

بعد هذا التعريف بالمنهج الذي وضعه السيوطي ليكون مصطلحا لعلوم اللغة يجدر بنا أن نقوم الجهد الذي قام به في تكوين منهجه وإقامة دعائمه وتطبيقه على اللغة، فإلى أي مدى وفق في ذلك؟ وما مدى مناسبة منهجه للواقع اللغوي؟. ونقد الرواية في الحديث أو في غيره من العلوم النقلية يتعرض لمرحلتين من النقد أولاهما: النقد الخارجي أو نقد السند، وهذه أهم المرحلتين، وقد حظيت ببحث مستفيض لدى المسلمين، وهي بالتالي يمكن أن يندرج البحث فيها تحت قسمين رئيسيين ترتد إليهما فروع البحث في النقد ومصطلحاته، وأولهما: البحث في الرواة جرحا وتعديلا وما يتبع ذلك من معرفة تواريخهم وأحوالهم، والآخر: البحث في الأسانيد واتصالها وعللها وما يدخل في ذلك من فروع.

أما المرحلة الثانية فهي النقد الداخلي أو نقد المتن، وهي تعنى بالترجيح بين الروايات المختلفة، وتتناول متون النصوص بالنقد، ولم يغفل تناولها أصحاب أصول الحديث، بيد أن العناية بها من عمل البيئات الاسلامية المختلفة التي تناولت النصوص لا سيما بيئات الفقهاء.

ولكني نحدد دور السيوطي في وضع منهج لنقد الرواية اللغوية سنبحث الموضوع حسب التقسيم السابق.

‌المرحلة الأولى: النقد الخارجي:

‌أ- رواة اللغة:

اشترط اللغويون منذ وقت مبكر العدالة في راوي اللغة، وقد نقل عن

ص: 240

الخليل ما يشير إلى ذلك «1» ، كما كان لابن سلام ملاحظات نقدية هامة في رواية الشعر اهتم فيها بوجوب تحري من ينقل عنه واشترط فيه العدالة والضبط حيث أنكر على محمد بن إسحاق تحمله لكثير من الشعر، وعدم بصره به «2» ، وله ملاحظات هامة فيها يخص رواة الشعر، وقد حكى ابن سلام التزيد الذي أصاب رواية الشعر ودوافعه وبين أن أهل البصر بالشعر يستطيعون أن يميزوا صحيحه من منحوله، وإنما يشكل عليهم تميز ما زاده الرواة من أهل البادية.

وإذا كان هناك ما يحمل المولدين على الكذب لسبب أو لآخر فلقد صار من اللازم على اللغويين- وهم يبحثون عن الصحيح من اللغة- أن يشترطوا عدالة ناقل اللغة فابن فارس ينصح بذلك قائلا: «فليتحر آخذ اللغة وغيرها من العلوم أهل الأمانة والثقة، والصدق والعدالة، فقد بلغنا من أمر بعض مشيخة بغداد ما بلغنا» «3» .

ويوضح ابن الأنباري ذلك بقوله: «اعلم أنه يشترط أن يكون ناقل اللغة عدلا رجلا كان أو امرأة، حرا كان أو عبدا، كما يشترط في نقل الحديث، لأن بها معرفة تفسيره وتأويله فاشترط في نقلها ما اشترط في نقله، وان لم تكن في الفضيلة من شكله، فان كان ناقل اللغة فاسقا لم يقبل نقله، ويقبل نقل العدل الواحد، ولا يشترط أن يوافقه في النقل غيره» «4» .

وبالرغم من أن ابن الأنباري قد اشترط عدالة ناقل اللغة ونص على أن ذلك مماثل لما يشترط الحديث فان موقف اللغويين بالنسبة لما يرويه أهل الأهواء أكثر تساهلا من موقف المحدّثين إذ يقرر ابن الأنباري نفسه أن «نقل أهل الأهواء مقبول في اللغة وغيرها إلا أن يكونوا ممن يتدين بالكذب كالخطابية من الرافضة، وذلك لأن المبتدع إذا لم تكن بدعته حاملة له على الكذب فالظاهر

(1) الصاحبي في فقه اللغة ص 30.

(2)

مقدمة طبقات فحول الشعراء لابن سلام.

(3)

الصاحبي في فقه اللغة ص 30.

(4)

لمع الأدلة في أصول النحو ص 85.

ص: 241

صدقه، ولهذا قال بعض أكابر العلماء: إذا قبلنا رواية أهل العدل وهم يرون أن من كذب فسق فكيف لا يقبل رواية الخوارج وهم يرون أن من كذب كفر، والذي يدل على قبول نقلهم أن الأمة أجمعت على قبول صحيح مسلم والبخاري، وقد رويا عن قتادة وكان قدريا، وعن عمران بن حطان وكان خارجيا وعن عبد الرزاق وكان رافضيا» «1» .

ويتضح من هذا أن اللغويين يحاولون أن تكون شروطهم مماثلة لشروط المحدثين حيث يحتج ابن الأنباري لقبول نقل أهل الأهواء في اللغة بما فعله البخاري ومسلم، بيد أن هذا في الحقيقة لا يطابق الواقع، إذ المحدثون أكثر تشددا في الرواية وتحري الرواة من اللغويين نظرا لطبيعة نقولهم التي تتصل مباشرة بالدين، ولتوفر الدوافع إلى الكذب في الحديث أكثر من توفرها في اللغة، وهناك أمر ثالث وهو طول الاسناد في الحديث وكثرة الرجال الذين يحتاج نقاد الحديث إلى ضبطهم ومعرفة أحوالهم، والأمر في اللغة يختلف عن ذلك فقد تساهل اللغويون في البحث عن أحوال نقلة اللغة جرحا وتعديلا كما فعل المحدثون، ولا نكاد نجد محاولة جادة في ذلك إلا عند أبي الطيب اللغوي في كتابه «مراتب النحويين» ، وإن كان هذا الكتاب في ظاهره يبدو تعريفا بأئمة اللغة ورواتها. وقد أنكر الرازي على اللغويين هذا الاهمال، وبرغم تعقب الأصبهاني له فإنه وافقه في أنه كان من الواجب على اللغويين أن يبحثوا عن أحوال الرواة «2» ، ويحاول القرافي أن يجد عذرا لمسلك اللغويين بقوله: «إنما أهملوا ذلك لأن الدواعي متوفرة على الكذب في الحديث بأسبابه المعروفة الحاملة للواضعين على الوضع، وأما اللغة فالدواعي إلى الكذب فيها في غاية الضعف

ولما كان الكذب والخطأ في اللغة وغيرها في غاية الندرة، اكتفى العلماء فيها بالاعتماد على الكتب المشهورة المتداولة فإن شهرتها وتداولها يمنع من ذلك مع ضعف الداعية له، فهذا هو الفرق» «3» .

(1) المصدر السابق ص 86 - 88.

(2)

المزهر ج 1 ص 118، 119.

(3)

المصدر السابق ج 1 ص 119، 120.

ص: 242

والواقع أن طبيعة اللغة تخالف طبيعة الحديث كما تبين، ولقد كان من الطبيعي أن يكون المحدثون أكثر تشددا في الرواية، وقد كانوا أكثر بحثا في أحوال الرواة من اللغويين برغم ما يزعمه بعض اللغويين من أن شروطهم في نقلة اللغة مماثلة لشروط أهل الحديث، فلكل بيئة ميزانها النقدي الخاص بها، فحيث لا يقبل المحدثون أهل الأهواء الذين لا يؤمن كذبهم ينقل اللغويون عنهم لعدم توفر دواعي الكذب في اللغة. كما أن نقد الرجال أنفسهم يختلف في بيئة عنه في الأخرى، ووضع نقلة اللغة في ميزان أهل الحديث قد يجرّح أكثرهم، ولم يكن عجيبا ما قاله إبراهيم الحربي المحدث:

«كان أهل العربية كلهم أصحاب أهواء إلا أربعة فإنهم كانوا أصحاب سنة:

أبو عمرو بن العلاء والخليل بن أحمد ويونس بن حبيب البصري والأصمعي» «1» ، ذلك أنه قد وزن ناقلي اللغة بميزان ناقلي الحديث.

تلك خلاصة الأبحاث التي سبقت السيوطي وتناولت رواة اللغة، وقد اتضح منها محاولة الباحثين فيها وضع شروط مماثلة لشروط المحدثين بيد أن الرواية اللغوية- في واقع الأمر- كانت تجد تساهلا في قبولها أكثر من رواية الحديث، والأمر الثاني أن اللغويين لم يبحثوا في أحوال نقلتهم جرحا وتعديلا كما فعل أهل الحديث باستثناء ما قام به ابن جني، ومع ذلك فلم يتناول غير طائفة قليلة منهم بالتوثيق وأغفل الحديث عن سائر الرواة. وقد أنكر عليهم الرازي ذلك كما سبق، واعترف بهذا التقصير القرافي بالرغم من تعقبه للرازي واعتذاره عن اللغويين.

ومن ثم فقد نصب السيوطي نفسه مدافعا عن اللغويين محاولا أن يجد لديهم ما هوجموا بالتقصير فيه من بحث أحوال رواة اللغة فأجاب عن ذلك بأن «أهل اللغة والأخبار لم يهملوا البحث عن أحوال اللغات ورواتها جرحا وتعديلا، بل فحصوا عن ذلك وبينوه كما بينوا ذلك في رواة الأخبار، ومن طالع الكتب المؤلفة في طبقات اللغويين والنحاة وأخبارهم وجد ذلك، وقد ألف أبو الطيب اللغوي

(1) ابن الأنباري: نزهة الألباء ص 17.

ص: 243

كتاب «مراتب النحويين» بين فيه ذلك، وميز أهل الصدق من أهل الكذب والوضع، وسيمر بك في هذا الكتاب كثير من ذلك في نوع الموضوع ونوع معرفة الطبقات والثقات والضعفاء وغيرها من الأنواع» «1» .

والواقع أن المعتذرين عن تقصير اللغويين في بحث أحوال الرواة بالنسبة لما فعله أهل الحديث قد أغفلوا أمرا هاما هو الفرق بين أسانيد الحديث وبين أسانيد اللغة، فأسانيد الحديث لا بد أن تصل إلى الرسول صلى الله عليه وسلم، ويلزم البحث عن رواتها ابتداء من التابعين فمن دونهم حتى يصل الخبر إلى طبقة جامعي الأحاديث ومدوّنيه، وهذه الأسانيد كثيرة ومختلفة ونقلتها متعددون وطبقاتهم كثيرة مما يجعل رجال الحديث من الكثرة بحيث يلزم النقدة ضبطهم ومعرفة أحوالهم، بينما الأمر في اللغة يختلف، إذ إن أسانيد روايتها أقصر، بل ربما تقتصر على راو واحد نقل عن الأعراب أو عن غيرهم من الفصحاء الذين يوثق بعربيتهم كالأصمعي وأبي زيد وغيره أو رواية راو عن الأصمعي، وبالجملة فإن سلسلة الاسناد قصيرة في الروايات اللغوية تجعل الرواة الذين ينبغي البحث عن أحوالهم عددا قليلا، وذلك لأن المادة اللغوية الموثوق بها كانت إلى عهد التدوين لا تزال قائمة حية بالبادية كما أن الاحتجاج بفصحاء الحاضرة قد استمر إلى وقت متأخر نسبيا وهو منتصف القرن الثاني حيث ظهر التدوين، وقد وضع الخليل- في ذلك الحين- أو شرع في وضع كتاب العين ليجمع فيه المادة اللغوية.

وعلى أية حال فقد اتجه السيوطي- دفاعا عن اللغويين- إلى استدراك ما فاتهم من البحث عن أحوال الرواة محاولا ضمّ ما تناثر من ملاحظات لهم في ذلك وجمع أخبارهم من كتب الطبقات وغيرها ووضع ذلك في أقسام تحمل نفس الأسماء التي بحث تحتها أهل الحديث رجالهم.

وأول هذه الأقسام التي تتناول الرواة الحديث عن آداب اللغوي وهو بحث لم يسبق السيوطي إليه في بيئة اللغويين، وقد ترسم فيه خطى المحدثين فهم

(1) المزهر ج 1 ص 120.

ص: 244

يذكرون أن على المحدّث تصحيح النية وإخلاصها «1» ، وكذلك يبدأ السيوطي حديثه بأن يذكر أن أول ما يلزم اللغوي الاخلاص وتصحيح النية ثم التحري في الأخذ عن الثقات، ويمكن تلخيص ما ذكره السيوطي من هذه المبادئ التي يراها واجبة على اللغوي فيما يلي «2»:

1 -

الاخلاص وتصحيح النية.

2 -

الدءوب والملازمة.

3 -

كتابة كل ما يراه ويسمعه فذاك أضبط له.

4 -

الرحلة في طلب الفوائد والغرائب كما رحل الأئمة.

5 -

العناية بحفظ أشعار العرب.

6 -

التثبت في الرواية.

7 -

الرفق بمن يأخذ عنهم.

8 -

عدم الافتاء بما لا يعلم وليقل «لا أدري» .

9 -

سؤال من هو أعلم إذا تعرض للسؤال الذي لا يعرفه.

10 -

عزو العلم إلى قائله.

11 -

الرجوع إلى الصواب.

12 -

الرد على العلماء إذا أخطئوا.

13 -

التثبت في تفسير غريب القرآن والحديث.

14 -

التنبيه على الروايات المختلفة.

15 -

الامساك عن الرواية عند الطعن في السن.

16 -

امتحان القادم لمعرفة درجته في العلم.

وقد تحدث في هذا الفصل أيضا عن الحافظ في اللغة ووظائفه التي ينبغي عليه القيام بها وهي الاملاء وهي أعلاها، وقد أملى اللغويون القدماء أمثال ثعلب وابن دريد وابن الأنباري والقالي وغيرهم وطريقتهم في الاملاء كطريقة المحدثين.

(1) مقدمة ابن الصلاح ص 119.

(2)

المزهر ج 2 ص 302 - 341.

ص: 245

وهذا الفصل- في الواقع- يعد من مبتكرات السيوطي في ميدان اللغة فقد استطاع أن يستنبط مما جرى عليه عرف اللغويين وما أفادته ملاحظاتهم المتناثرة وما حكى عن أئمتهم من أخبار، مترسما خطى أهل الحديث، استطاع أن يستنبط مجموعة من المبادئ تكون بمثابة القوانين التي ينبغي أن يأخذ اللغوي بها نفسه، وهي جزء من المنهج الكبير الذي وضعه، ولذلك نلاحظ عليه في هذا الفصل صوغ هذه الأحكام بقلمه ثم ذكر ما يعضدها أو يسندها من آثار أو أخبار.

ثم تحدث عن كتابة اللغة «1» ، لصلتها بما يجب على الرواة، بيد أنه بحثها من حيث تاريخها والأخبار التي وردت فيها، وتناول بعد ذلك مباشرة «التصحيف والتحريف»

«2»

وبحثه بحثا متقنا، وقد وضعه بين ما يخص رجال اللغة لأن سبب التصحيف والتحريف أساسا هو أخذ اللغة عن الصحف والمنهج الصحيح في تلقي اللغة أن تؤخذ سماعا ويحفظها الناقل عن شيخه، ويستعين بالكتابة في ضبط ما حفظ، ولا يجب أن يستغني بالكتابة عن الحفظ.

وقد عني بهذا المبحث المحدّثون لكثرة ما عرض لهم من التصحيف حتى أفرده بعضهم بالتأليف منذ القدم، ونبه عليه ابن الصلاح في مقدمته «3» ، ومن ثم فقد بحثه السيوطي مطبقا إياه على نصوص اللغة معتمدا على ما ورد بالكتب السابقة من أقوال تخص الموضوع، وقد أورد عددا كبيرا من الأمثلة لما صحفه رواة اللغة شعرا ونثرا، والواقع أن هذا المبحث من أهم المباحث التي تتصل بنقد الرواية اللغوية، وقد وفاه السيوطي حقه لما له من خطورة في إمكان دخول ألفاظ غير صحيحة إلى اللغة لا سيما إذا كان التصحيف في الألفاظ الغريبة التي ينفرد بروايتها بعض اللغويين.

ثم تناول بعد ذلك: الطبقات والحفاظ والثقات والضعفاء «4» ، أما الطبقات

(1) المزهر ج 2 ص 341.

(2)

المزهر ج 2 ص 353.

(3)

مقدمة ابن الصلاح ص 140 - 143، انظر ابن حجر: شرح نخبة الفكر ص 5.

(4)

المزهر ج 1 ص 395.

ص: 246

فقد سبق لكثير من اللغويين أن صنفوا فيها، وقد نص السيوطي على ذلك، بيد أن البحوث السابقة لم تتناول الطبقات من زاوية النقد للرواية اللغوية فلم تهتم بالحديث عن رجال اللغة جرحا وتعديلا بقدر ما كانت تهدف إلى التعريف المجمل بهم، كما أن بحث السيوطي للرواة مقسمين إلى حفاظ وثقات وضعفاء لم يسبق إليه في ميدان اللغة ببحوث مستقلة، وإنما كان ما سبقه عرفا جاريا بين اللغويين غير مكتوب، أو شذرات متناثرة وأقوالا متفرقة باستثناء ما قام به أبو الطيب اللغوي في كتابه الذي وثق فيه كبار رجال اللغة كأبي عمر بن العلاء وأبي زيد وأبي عبيدة وغيرهم، ولذلك اعتمد السيوطي في بحثه اعتمادا كبيرا على كتاب المراتب فنقل كثيرا من صفحاته الخاصة بتوثيق كبار الرواة وهي التي تناول فيها أبو الطيب التعريف بأئمة اللغة ونقلتها ابتداء من أبي الأسود وتلامذته وأبي عمرو إلى ابن قسطنطين، وقد وثق أبو الطيب جماعة كثيرة من رجال اللغة وضعف آخرين، وقد لخص عنه السيوطي بطريقته التي سبق بيانها أخبار عدد منهم ينيف على الستين من رجال اللغة على ترتيبهم الزمني الذي راعاه أبو الطيب.

وقد أتبع ما نقله عن كتاب المراتب بنقل آخر عن الخصائص لابن جني الذي تحدث فيه تحت عنوان «صدق النقلة وثقة الرواة والحملة» «1» ، حيث وثق رواة اللغة الأولين وأثنى عليهم، فبين صدق أبي عمرو بن العلاء وتحرجه في الرواية، وصدق الأصمعي وما عرف عنه من شدة تحرج في الرواية، وكذلك حال أبي زيد وأبي عبيدة وأبي الحسن والكسائي وأضرابهم، وقد أفاض ابن جني في الحديث عنهم نافيا كل ظنة ومبينا ما اتصفوا به من خلق قويم، وما كانوا عليه من الثقة والأمانة والصدق.

وقد نقل السيوطي هذا المبحث بفصه ونصه هنا وقرنه بما نقله عن أبي الطيب، فهذا الفصل اعتمد فيه على هذين النقلين، وليس له فيه غير ما علق به على عبارة لأبي الطيب في نقد أبي عبيد صاحب الغريب المصنف حيث ذكر

(1) الخصائص ج 3 ص 309.

ص: 247

الأول أنه لم يسمع من أبي زيد، فذكر السيوطي أن صاحب الغريب المصنف قد صرح بسماعه من أبي زيد في كتابه «1» .

ويبدو أنه باقتصاره على ما نقل عن سابقيه كان يريد أن يبين كما بين من قبل في دفاعه عن اللغويين أنهم قد اهتموا ببحث رجال اللغة جرحا وتعديلا كما فعل المحدّثون، وبالرغم من أن السيوطي لم يضف إلى سابقيه شيئا يذكر فإن وضعه لهذين النقلين تحت عنوانه السابق الذي يضاهي مباحث المحدثين فيه شيء من الجدة والابتكار.

وكان على السيوطي إكمالا للمنهج الذي يحاول إقامته وترسما لخطى أهل الحديث في بحث رجالهم أن يخصص للأسماء والكنى والألقاب والأنساب جانبا من كتابه، وكذلك فعل في النوع الخامس والأربعين «2» ، ولم يقتصر على رواة اللغة ونقلتها بل جعل قسما لهم وآخر لشعراء العرب الذين يحتج بهم في العربية، ولم يسبق السيوطي بمثل هذا المبحث في ميدان اللغة فهو من مبتكراته فيها، إذ إن البحث في الأسماء والألقاب والكنى قد عنى به المحدثون فيما يتصل برواة الحديث، ولهم في ذلك مصنفات وقد بينوا أهميته في نقد الرواية وتمحيصها، كما تناولوه في كتب أصول الحديث «3» أما في اللغة فلا نعرف من سبق السيوطي بافراد هذا الموضوع بالبحث، وقد قسم السيوطي هذا المبحث إلى أربعة فصول تحدث في أولها عمن اشتهر بكنيته أو لقبه أو نسبه، وقسم الأول إلى قسمين أولهما يتصل بأئمة اللغة والنحو فأخذ يسردهم ابتداء من أبي الأسود حتى انتهى إلى رضى الدين الصغاني وعدتهم تنيف على سبعين علما من أشهر رجال اللغة، ثم تناول في القسم الثاني شعراء العرب الذين يحتج بهم في العربية فبدأ بامرئ القيس وانتهى بالعجاج فذكر أربعة عشر ممن غلبت عليه كنيته أو لقبه أو نسبه، وخصص الفصل الثاني لبيان كنية من اشتهر باسمه أو لقبه أو نسبه، وتناول فيه رجال اللغة ثم شعراء العرب، وفي الثالث بحث

(1) المزهر ج 1 ص 412.

(2)

المزهر ج 1 ص 418.

(3)

انظر مقدمة ابن الصلاح ص 162 - 172.

ص: 248

الألقاب وأسبابها فتناوله أيضا في قسمين أولهما لرجال اللغة والنحو والآخر لشعراء العرب، وفي الفصل الرابع تحدث عن الأنساب وأنواعها فالمنسوب إلى القبيلة صريحا كأبي الأسود أو ولاء كسيبويه، أو إلى بلد أو وطن أو إلى جد له، أو إلى لباسه، أو إلى اسمه أو اسم أبيه، ونحو ذلك.

والحق أن السيوطي قد أحسن في ترتيب هذا البحث وتصنيفه، وقد كان البحث اللغوي بعامة والبحث في نقد الرواية بخاصة مفتقرا إلى ما قام به.

ثم تناول «المؤتلف والمختلف» «1» ، من الأسماء، وهو ما يعنى به أهل الحديث زيادة في التعريف بأسماء الرواة، واحتياطا من اللبس، وقد حظي في بيئة المحدثين بعناية بالغة، وصنفت فيه مصنفات مفردة منذ وقت مبكر، وقد عقد له ابن الصلاح فصلا في كتابه حدده فيه بأنه «ما يأتلف في الخط صورته ويختلف في اللفظ صيغته» «2» ، ونبه على أهميته قائلا إن «من لم يعرفه من المحدّثين كثر عثاره، ولم يعدم مخجلا» «2» .

وقد تناول السيوطي هذا المبحث في أقسام ثلاثة أولها في أسماء رجال اللغة حيث سرد ثمانية أمثلة تتضمن ستة عشر رجلا يتشابه كل اثنين في صورة الاسم ويختلفان في صيغته ونطقه مثل الأبذى والأندى، والأنباري والأبياري، والزجّاجي والزّجاجي

إلى آخره وقد ضبط هذه الأسماء وذكر أسماء أصحابها، ولا نكاد نظفر بمن اهتم قبل السيوطي ببحث أسماء اللغويين من هذه الزاوية، وإنما حدث ذلك فيما يخص رجال الحديث والشعراء والقبائل، ولهذا فإنه لم ينقل في ذكره لهؤلاء الرجال عن كتب سبقته، وقد كان حريصا كعادته على ذلك إذا وجد من سبقه إلى طرق هذا الميدان، وحين تناول شعراء العرب في هذا المبحث نقل عن كتاب «المؤتلف والمختلف» للآمدي مثالا واحدا، وفيما يتعلق بالقبائل نقل كثيرا من الأمثلة عن كتب السابقين كأمالي القالي وصحاح الجوهري، وأكثر من النقل عن كتاب «متشابه القبائل» لمحمد بن حبيب الذي

(1) المزهر ج 1 ص 447.

(2)

ابن الصلاح المقدمة ص 172 - 179.

ص: 249

استوفى صاحبه بحث الموضوع من قبل، والبحث في الأسماء وتشابهها واختلافها ومحاولة ضبط ذلك قد جعل المحدثين يعنون إلى جانب ما سبق مما يتصل بضبط الأسماء وصورتها بشيء قريب من ذلك وهو الاشتراك في الأسماء والألقاب والكنى والأنساب، في جميعها أو في بعضها، وهنا تبحث الأعلام التي تتفق في الاسم وتختلف في الأشخاص، أو الذين تتفق كناهم أو ألقابهم أو مجموع ذلك مع افتراق أشخاصهم، وهو يختلف عن سابقه لأن الاتفاق هناك في صورة الخط والافتراق في اللفظ فهو يأتلف شكلا ويختلف لفظا أو نطقا، أما هذا فيتفق خطا ولفظا ويفترق من ناحية المسمّى أو المكنّى أو الملقب وقد اصطلح على تسمية هذا البحث «بالمتفق والمفترق» «1» .

ولم يسبق السيوطي في ميدان اللغة بالعناية بهذا المبحث إلا فيما يتعلق بأسماء القبائل التي أفرد لها ابن حبيب من قبل كتابا، وقد تناول السيوطي ما يتعلق بأئمة اللغة والنحو ثم شعراء العرب ثم القبائل فذكر- مثلا- أن الأخفش اسم يطلق على أحد عشر نحويا، عدّد أسماءهم، وأن سيبويه أربعة عددهم،

إلى آخر ذلك «2» . وقد اختتم هذا الفصل ببعض الملاحظات منها أن النحاة إذا أطلقوا أبا عمرو فمرادهم ابن العلاء، وأن البصريين إذا أطلقوا أبا العباس فالمراد به المبرد، وإذا أطلقه الكوفيون فمرادهم ثعلب، وحيث أطلق النحويون الأخفش فالمراد الأوسط فإن أرادوا الأكبر أو الأصغر قيدوه «3» . ثم تحدث عما يتعلق بشعراء العرب فذكر جماعة كثيرة من الشعراء يسمون بامرئ القيس، وذكر النوابغ الأربعة، ومن يشترك في لقب الأعشى، ومن اسمه الطرماح ونصيب، وقد اعتمد فيما أورد عما يتعلق بالقبائل على كتاب متفق القبائل لمحمد ابن حبيب.

والتعرف على الرجال يقتضي معرفة تواريخهم في الميلاد والوفاة لما لذلك من أهمية كبيرة في معرفة طبقاتهم ورواية بعضهم عن بعض، وتمييز ما قد يحدث في

(1) مقدمة ابن الصلاح ص 179.

(2)

المزهر ج 1 ص 453 - 455.

(3)

المصدر السابق ج 1 ص 455 - 456.

ص: 250