الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
مفهوم اللغة عند السيوطي
نقل السيوطي حد اللغة في كتابه عن ابن جني الذي حدها بأنها «أصوات يعبر بها كل قوم عن أغراضهم» «1» ، ونقل عن ابن الحاجب في تحديدها أنها «كل لفظ وضع لمعنى» «2» ، وعن الاسنوي أنها «الألفاظ الموضوعة للمعاني» «2» ، ولم يعقب بشيء على هذه الحدود ونحن نعتبر ذلك إقرارا منه لجميعها.
وليس هناك اختلاف بين هذه الحدود الثلاثة فليس اللفظ إلا مجموعة من الأصوات المتآلف بعضها إلى جانب بعض، ويبدو أن هذا التحديد للغة الذي عبر عنه ابن جني هو الذي يعكس لنا التصور الشائع للغة عند العرب فهو «أشد التصورات تأثيرا في نفوس الدارسين وفيما كتبوه عن طبيعة اللغة، بل كان الموجه فيما بعد لتطور التأليف اللغوي وتنوعه، وما عسى أن يكون فيه من شمول يربط بين اللغة وبين الاتجاهات المختلفة في دراستها» «4» .
وقد فهم السيوطي اللغة على أنها الألفاظ أو الأصوات الدالة على المعاني، وهو يشرح اللفظ بأنه «صوت معتمد على مقطع الفم» «5» ، وقد حاول أن يدرس العنصرين اللذين تتكون منهما اللغة وهما اللفظ والمعنى أو الأصوات والدلالات فتناول الألفاظ في ثلاثة عشر نوعا من كتابه ذكر أنها تبحث اللغة من حيث الألفاظ وتناول المعنى في ثلاثة عشر نوعا كذلك ونبه على أنها راجعة إلى اللغة من حيث المعنى.
(1) المزهر ج 1 ص 7.
(2)
المصدر السابق ج 1 ص 8.
(4)
د. سيد خليل: التصور اللغوي عند العرب: مقال بمجلة كلية الآداب- مجلد 14 ص 179.
(5)
السيوطي: شرح ألفية ابن مالك، بداية الكتاب.
واللغويون المحدثون يرون وظيفة اللغة في «أنها حلقة في سلسلة النشاط الانساني المنتظم، هي أنها جزء من السلوك الانساني، أنها ضرب من العمل وليس أداة عاكسة للفكر» «1» ، وهم بذلك ينتقدون ما كان يراه اللغويون القدماء وبعض المحدثين أمثال سابير من أن اللغة وسيلة للاتصال أو التوصيل أو النقل أو التعبير عن طريق الأصوات الكلامية، وأن ما توصله اللغة أو تنقله أو تعبر عنه هو الفكر بما يحتويه من انفعالات ورغبات وغير ذلك «2» .
على أن انتقاد الرأي الشائع الذي يذهب إلى أن اللغة وسيلة لتوصيل الفكر لا يعتمد إلا على بعض المظاهر التي يرى فيها أصحابه أن الغرض الأساسي من استعمال اللغة ليس توصيل الفكر، أو بعبارة أكثر دقة لا يكون توصيل الفكر هو هدف اللغة، ويمثلون لذلك بالكلام الانفرادي وبلغة الصلاة والعبادة ولغة التحية واللعب بالأصوات وغير ذلك «3» ، بيد أن هذه المظاهر لاستعمال اللغة لا تخرج في حقيقة الأمر باللغة عن كونها ألفاظا متعارفا عليها تعبر عن معان متعارف عليها، فالذي يتحدث إلى نفسه يتحدث بلغة يفهمها وكأنه بذلك يعبر عن نفسه ويوصل أفكاره إليها، فالمتكلم والسامع هنا شخص واحد، وليست اللغة التي نستعملها في الصلاة أو العبادة أو التحية إلا ألفاظا معبرة عن معان معينة ومعروفة في جملتها، كما أنه ليس في تحديد اللغة بأنها أصوات أو ألفاظ معبرة عن المعاني ما يفهم منه اغفال وظيفتها الاجتماعية وهي ما حاول المحدثون التنبيه عليه والظهور بمظهر المستدركين له، فماذا كان مفهوم وظيفة اللغة عند اللغويين العرب ومنهم السيوطي؟.
لقد قدر اللغويون القدماء وظيفة اللغة في المجتمع وصلتها به حتى اعتبر المعتزلة وغيرهم أصل اللغات اصطلاحا بمعنى أن المجتمع هو الذي اصطلح وتعارف على اللغة، وحتى هؤلاء الذين قالوا بالتوقيف لا يطردون في كثير من المسائل مع مذهبهم الذي نادوا به ويرون أن التوقيف ليس معناه الحجر عليهم
(1) د. محمود السعران: اللغة والمجتمع ص 7.
(2)
المصدر السابق ص 5.
(3)
نفس المصدر ص 8 - 10.
حتى لا ينطق بسواه «1» ، وهم بذلك يرون جواز الاصطلاح، وبعض من قال بالتوقيف يراه في بداية نشأة اللغة، أما في مراحل نموها فهي اصطلاح، والمحققون من القدماء يتوقفون في هذه المسألة فلا يقولون بالتوقيف ولا بالمواضعة.
وقد نقل السيوطي في بيان الحكمة الداعية إلى وضع اللغة ما يفيد تقدير المسلمين للوظيفة الاجتماعية للغة وإقراره لذلك فهو ينقل عن الكيا الهراسي أن اللغة إنما تنشأ في المجتمع وأن الانسان مدني بطبعه، والتوحش دأب السباع، وهو ينتهي إلى ما تنتهي إليه البحوث الحديثة من أن اللغة وظيفة انسانية وظاهرة اجتماعية «2» ، وهذا ما أكده بوضوح الفخر الرازي فيما نقله عنه السيوطي إذ يقول «السبب في وضع الألفاظ أن الانسان الواحد وحده لا يستقل بجميع حاجاته، بل لا بد من التعاون، ولا تعاون إلا بالتعارف، ولا تعارف إلا بأسباب كحركات أو إشارات أو نقوش أو ألفاظ توضع بإزاء المقاصد، وأيسرها وأعمها وأفيدها الألفاظ
…
فلما كانت الألفاظ أيسر وأفيد وأعم صارت موضوعة بازاء المعاني «3» . والرازي بهذا يصل بين تحديد اللغة بالألفاظ الموضوعة للمعاني وبين وظيفة اللغة في المجتمع وصلتها به.
أما عن طبيعة اللغة فقد فهم اللغويون العرب لغتهم على أنها كائن حي متطور ولذلك فقد قدروا حاجتها إلى الاختراع والتوليد والاشتقاق بتجدد الحياة وتجدد المعاني،
كما تحدثوا عن الممات من الألفاظ والمولد منها وما ذلك إلا تقديرا لهذه الحياة الدافقة في اللغة، ودراستهم للمجاز تمثل إدراكا واعيا للتغير الدلالي، وهكذا فإنهم قد تناولوا مظاهر التغير اللغوي المتنوعة بما يعني إدراكهم لطبيعة اللغة.
وقد كان للمسلمين عناية تامّة بالدرس الصوتي باعتباره عاملا من أهم عوامل المحافظة على الأداء القرآني، ولقد تطورت هذه الدراسة على أيدي
(1) المزهر ج 1 ص 26.
(2)
المزهر ج 1 ص 36.
(3)
المصدر السابق ج 1 ص 38.
القراء الذين كانوا نحاة في نفس الوقت، وكان للخليل أثر في تقدّم هذه الدراسة، ونتيجة لعنايته بالأصوات ومخارجها رتب معجمه «العين» ترتيبا صوتيا بحسب مخارج الحروف وتبعه في هذا الترتيب الصوتي صاحب التهذيب.
ولعلّ من آثار العناية بالدرس الصوتي ما ظهر عند السيوطي في محاولته الفصل في الدراسة بين الألفاظ والمعاني وإن كان هذا الفصل غير موفق في بعض الأحيان وسنبين ذلك في دراستنا للألفاظ والمعاني كما وضعها السيوطي.