الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
الوضع اللغوي
يرتبط بحث القدماء في الوضع اللغوي بأفكارهم عن نشأة اللغة، ولذلك بحث السيوطي نشأة اللغة والقول بكونها توقيفا أو اصطلاحا تحت اسم «بيان واضع اللغة» . وسواء أكانت اللغة إلهاما أم اصطلاحا أم مزيجا منهما معا بطريقة أو بأخرى،- عندهم- فلا بد من وضع يجعل لفظ كذا بإزاء معنى كذا، وقد تناول بعض المسائل المتصلة بالوضع اللغوي في كتابه وهي بحوث نظرية أفاض فيها الأصوليون بيد أنها تقوم- في غالبها- على الاحتمالات الفرضية، والصور الذهنية الامكانية، ولكن بعض هذه المسائل يمس جوانب هامة في البحث اللغوي.
فقد تحدث عن الحكمة الداعية إلى الوضع فنقل عن الكيا الهراسي وعن الفخر الرازي ما يبين فهمهما للغة وصلتها بالمجتمع، وأن حاجة الانسان إلى غيره من بني جنسه هي التي دفعت إلى وضع اللغة «1» .
ثم تحدث عن حدّ الوضع فنقل عن السبكي أنه «تخصيص الشيء بالشيء بحيث إذا أطلق الأول فهم منه الثاني» «2» ، وتناول بعد ذلك الخلاف الذي نشأ ومؤداه: هل وضع الواضع المفردات والمركبات الاسنادية أو المفردات خاصة دون المركبات الاسنادية؟ وقد نقل السيوطي عن الأصوليين والنحويين واللغويين أقوالهم واختلافهم في ذلك، فذكر أن الرازي وابن الحاجب وابن مالك وغيرهم يذهبون إلى أن الواضع قد وضع المفردات دون المركبات الاسنادية وحجتهم في ذلك أنه لو كان الواضع قد وضع المركبات الاسنادية لتوقف استعمال الجمل على النقل عن العرب كالمفردات.
(1) المزهر ج 1 ص 36 - 38.
(2)
المزهر ج 1 ص 38 - 40.
ورجح القرافي والتاج السبكي أن المركبات موضوعة كالمفردات.
ولم يوضح السيوطي موقفه من هذا الخلاف، والواقع أن بحوث النحويين في الجملة وترتيبها وجواز التقديم والتأخير وما يتصل بنظام الجملة وتركيبها استنادا إلى ما نقل عن العرب يدل على أن القول بأن المركبات موضوعة كالمفردات أقرب إلى الصواب، وهو ما ترسمه النحاة في بحث نظام الجمل وتركيبها. وقد نقل السيوطي عن أبي حيان في شرح التسهيل ما يؤكد هذه الفكرة حيث يقول:
ويشتد الجدل حول كون المركبات موضوعة أم لا، وسبب الخلاف- كما يبدو- عدم تحديد المعنى المراد بالوضع وما يترتب عليه، فبعض من لا يرى أن المركبات موضوعة إنما ينفي ذلك لأن القول بكونها موضوعة يعني أن استعمالها وفهم معناها متوقف على النقل عن العرب كالمفردات، وقد نقل السيوطي عن صاحب البحر المحيط هذه الخلافات، وقد حاول الزركشي أن يتوصل إلى قول يحسم به الخلاف حيث ذهب إلى أن العرب إنما وضعت أنواع المركبات، أما جزئيات الأنواع فلا «2» .
ويكاد ابن جني يقف على الجادة حين يتصور تطور اللغة وأثر كثرة الاستعمال في تطور الصيغ، ولكن رغبته في نسبة الحكمة إلى العرب واضعي اللغة ترجعه عن ترجيح هذه النظرية الصادقة ليقول بأن «ما غير لكثرة استعماله، إنما تصورته العرب قبل وضعه، وعلمت أنه لا بد من كثرة استعمالها إياه فابتدءوا بتغييره علما
(1) المزهر ج 1 ص 42، 43.
(2)
المزهر ج 1 ص 45.
بأن لا بد من كثرة الداعية إلى تغييره وهذا في المعنى كقوله:
رأى الأمر يفضى إلى آخر
…
فصير آخره أولا
وقد كان أيضا أجاز- أي أبو الحسن- أن يكون «قد كانت قديما معربة، فلما كثرت غيرت فيما بعد، والقول عندي هو الأول لأنه أدل على حكمتها وأشهد لها بعلمها بمصاير أمرها» «1» . هذا عن بحث الوضع اللغوي وتطور هذا الوضع.
وتأسيسا على هذا فهم يفسرون ظاهرة اختلاف اللهجات العربية باختلاف الوضع الأول فما وضع في الأصل وضع مختلفا ثم أحدثوا من بعد أشياء كثيرة للحاجة إليها غير أنها على قياس ما وضع في الأصل مختلفا «2» ، ونجد السيوطي حين يتحدث عن هذه الفكرة ينقل بعض حديث ابن جني ولا يعقب بشيء فكأنه يتابعه في فكرته «3» .
وقد أنكر أمين الخولي على القدماء بحثهم في الوضع بهذا المنهج، وأنكر فكرة ابن جني وغيره التي دفعت اللغويين إلى أن يردوا كل شيء في «اللغة» إلى الوضع الذي وضعه الواضع الأول بحكمة استقبلت من أمر الحياة ما استدبر، وتعرفت المستقبل فصيرت الآخر أولا» «4» .
وقد انتهى من حديثه في الوضع اللغوي وما عرف عند القوم بعلم الوضع إلى نتائج مضمونها عدم التسليم بأن العربية قد تكونت بالوضع على النحو الذي بينوه، وأن علم الوضع يقوم على أساس مناقض لطبيعة اللغة الاجتماعية، فهو عمل عقلي صناعي لا لغوي، وأن التطور أصل أصيل في حياة اللغة «5» .
وقد رأينا إدراك القدماء لهذا التطور في حياة اللغة، بيد أنه قد شابه عندهم وألقى عليه كثيرا من الظلال ما أرادوه من نسبة الحكمة إلى العرب، بالإضافة إلى بعض الأفكار غير الصحيحة التي حالت دون ظهور التصورات الواقعية وسيادتها.
(1) الخصائص ج 2 ص 31.
(2)
الخصائص ج 2 ص 29.
(3)
المزهر ج 1 ص 55، 56.
(4)
مشكلات حياتنا اللغوية ص 34.
(5)
المصدر السابق ص 41، 42.