الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
السنن التي سنها الرسول ولم يفعلها «1» .
بيد أن علاقته لم تلبث أن تغيرت بعد صعوده في إحدى المرات وهو يلبس الطيلسان، وقد تقدم ذكرها، وقد أذكى نيران الوقيعة بينهما ابن الكركي الذي كان خصما للسيوطي وقد انتهى الأمر بأن امتنع السيوطي عن تهنئة السلطان أو الذهاب إليه وظل على تمسكه بهذا المبدأ بقية حياته فأصبح لا يقصد السلاطين والأمراء ولا يسعى إليهم، لأنه كان يرى أن السنة عدم سعي العلماء إلى السلاطين، ومن ثم فقد أصبح السلاطين والأمراء هم الذين يقصدونه ويسعون إلى زيارته أو يرسلون إليه الرّسل.
وهكذا تمتع بمنزلة سامية بين أبناء عصره: حكامهم ومحكوميهم، وكان في القاهرة علما بارزا من أعلامها، ومؤثرا كبيرا في حياة أبنائها، كما كان معروفا في سائر بلاد الاسلام.
السيوطي بين أنصاره وخصومه:
ومن الطبيعي أن تجر عليه هذه الصلات، وتلك المكانة بعض العداوات التي تفرضها طبيعة الصراع والتنافس بين الناس في هذه الحياة، لذلك كانت حياته مليئة بالصراع بينه وبين بعض علماء عصره وأمرائه، وقد كانت بداية خصوماته منذ ذلك الوقت الذي وقف يدافع فيه عن ابن الفارض ويهاجم أعداءه، بيد أن الخصوم الذين صمدوا في وجهه طويلا يناضلونه كانوا غير أولئك الذين هاجمهم وانتصر عليهم من قبل.
وهناك حادثة أخرى يذكر أنها من أوائل الوقائع «2» التي تعرض فيها لهجوم عنيف من قبل علماء عصره وتلك هي فتواه بتحريم الاشتغال بعلم المنطق وكتبه، ويبدو أن كتابه «صون المنطق والكلام عن فن المنطق والكلام» ، الذي اعتمد فيه على كتاب ابن تيمية في الرد على المنطق كان من أول مؤلفاته التي
(1) بدائع الزهور ج 2 ص 280، حوادث عام 899 هـ.
(2)
الشعراني: ذيل الطبقات ورقة 3 ص 6.
هاجم فيها المنطق الأرسطي، ومن أوائل مؤلفاته بصفة عامة، وقد تعرض بسببه لحملة من بعض العلماء كما أشار السخاوي «1» ، وعلى أية حال فقد تمسك السيوطي بأقواله وأبداها في كل موضع، وجهر برأيه، ولم يأبه بخصومه «2» . ثم إن الرجل بعد أن استحصدت قوته وارتفعت درجته، وكثرت وظائفه تألب عليه بعض منافسيه وأقرانه من العلماء وطعنوا في مواهبه وعلمه ومؤلفاته، وتحاملوا عليه، ورموه بما ليس فيه، وبالغوا في تصوير عيوبه، وعين السخط تبدي من المساوي ما لا تبديه عين الرضا، والمعاصرة كما يقول أهل الجرح والتعديل حجاب، فينبغي أن تؤخذ أقوال المتعاصرين بعضهم في بعض بحذر شديد.
وقد انقسم عصر السيوطي إلى معسكرين: أحدهما يقوده السخاوي (903 هـ)، ومن أنصاره برهان الدين بن الكركي (922 هـ)، الذي كان إماما للسلطان، والشمس الجوجري والقسطلاني، وشمس الدين الباني وتلاميذ هؤلاء الكثيرون وأتباعهم. والمعسكر الآخر يقوده السيوطي ومن أنصاره الفخر الديمي، والشيخ أمين الدين الأقصرائي، وزين الدين قاسم الحنفي، وسراج الدين العبادي، وغيرهم وتلاميذهم الكثيرون.
ولبثت الخصومة بين الفريقين زمنا طويلا، بل إن هذه الخصومة قد استنفدت أعمار هؤلاء جميعا، والذي نلاحظه في كتابات الفريقين المتنوعة والمختلفة تأثرها بهذه الخصومة، فلا نلبث أن نجد بين حين وآخر عبارة أو عبارات يقصد بها الخصوم ردا عليهم أو قدحا فيهم.
وقد ألف السيوطي في الانتصار لنفسه ومهاجمة خصومه مجموعة من الرسائل فضلا عن هجومه في كثير من كتاباته الأخرى، وأهم ما ألفه «الكاوي في الرد على السخاوي» ، و «الجواب الذكي عن قمامة ابن الكركي» و «الصارم الهندكي في عنق ابن الكركي» ، وله في الرد على الجوجري «الحبل الوثيق في نصرة الصديق» ، وقد هاجمهم أيضا في رسالته «التنفيس في الاعتذار عن الفتيا
(1) الضوء اللامع ج 4 ص 66.
(2)
القول المشرق في تحريم الاشتغال بالمنطق: رسالة ضمن كتاب الحاوي للفتاوي ج 1 ص 393 - 397، والرسالة مخطوطة ضمن مخطوط بدار الكتب برقم 21606 ب.
والتدريس»، وفي «مسالك الحنفا في والدي المصطفى» ، وفي كثير من المواضع الأخرى.
وقد تعرض السيوطي لهجوم عنيف من قبل خصومه كما تعرض لكيدهم له لدى أولي الأمر وقد ترجم له السخاوي ترجمة مظلمة في كتابه «الضوء اللامع» ، ووجه إليه مجموعة من الاتهامات والانتقادات كما غمزه في مواضع كثيرة، وأهم هذه الانتقادات ما يتصل بسرقة المؤلفات فلقد ادعى السخاوي أن السيوطي قد اختلس منه حين كان يتردد إليه كثيرا مما عمله «كالخصال الموجبة للضلال، والأسماء النبوية، والصلاة على النبي صلى الله عليه وسلم، وموت الأبناء، وما لا أحصره، بل أخذ من كتب المكتبة المحمودية وغيرها كثيرا من التصانيف التقدمة التي لا عهد لكثير من العصريين بها في فنون فغير فيها يسيرا وقدم وأخر ونسبها لنفسه، وهوّل في مقدماتها بما يتوهم منه الجاهل شيئا مما لا يوفي ببعضه» «1» .
كما ذكر السخاوي أن هناك مؤلفات للسيوطي اختلسها من مصنفات ابن حجر وهي «لباب النقول في أسباب النزول، وعين الاصابة في معرفة الصحابة، والنكت البديعات على الموضوعات، والمدرج إلى المدرج، وتذكرة المؤتسى بمن حدث ونسى، وتحفة النابه بتلخيص المتشابه، وما رواه الواعون في أخبار الطاعون، والأساس في مناقب بني العباس، وجزء في أسماء المدلسين، وكشف النقاب عن الألقاب، ونشر العبير في تخريج أحاديث الشرح الكبير» «2» ، ويعقب على ذلك قائلا:«فكل هذه تصانيف شيخنا، وليته إذ اختلس لم يمسخها، ولو نسخها على وجهها لكان أنفع وفيها مما هو لغيره الكثير» «3» .
تلك أهم الاتهامات التي وجهت إلى السيوطي من قبل أكبر خصومه، ولم يكتف السخاوي بهذه التهمة بل وجه إليه عديدا من الانتقادات القاسية منها أنه كثير المجازفة، وأنه كان يكذب في بعض الأحيان، ومنها أنه كثير الادعاء، يقع
(1) الضوء اللامع ج 4 ص 66.
(2)
الضوء اللامع ج 4 ص 68.
(3)
المصدر السابق ج 4 ص 68.
في كثير من التصحيف والتحريف لكونه لم يزاحم الفضلاء في دروسهم بل استبد بأخذه من بطون الدفاتر والكتب «1» ، كما أنه سريع الكتابة معروف لدى السخاوي بالهوس ومزيد الترفع حتى على أمه، كذلك ترفعه على شيوخه ومن أسدى إليه المعروف «2» ، كما هوجم أقسى الهجوم في دعواه بلوغ درجة الاجتهاد المطلق.
وإذا كان السخاوي قد وجه إليه هذه التهم القاسية وأشباهها فإن أنصار السخاوي لم يفتئوا أيضا يهاجمونه ويكيدون له، فقد كاد له ابن الكركي عند السلطان إبان حادثة الطيلسان التي أشرنا آنفا إليها «3» .
وإن يكن السيوطي قد عانى في حياته من كيد خصومه الكثيرين له وهجومهم عليه، وانتقادهم له فإنه- في حقيقة الأمر- كان أقوى منهم عريكة، وأشد بأسا، ولقد كانت قسوة الهجوم عليه كما يتضح في بعض مواضع ترجمة السخاوي له محاولة للرد على انتقاداته القاسية لخصومه وهجومه عليهم وانتقاصه لهم.
ولئن كان قلم السيوطي سيالا كثير الانتاج فلقد وجهه إلى التعبير عن كل شيء يريده ومن هنا فلقد خصص جملة من رسائله لمهاجمة خصومه، كما أن رسائله الأخرى التي لم يخصصها لهذه المعارك لم تخل من تنقصهم ومهاجمتهم في أحيان كثيرة، وكما ترجم السخاوي للسيوطي فإن الأخير لم ينس أن يترجم له، بيد أن هذه الترجمة كانت موجزة، ويبدو أن السيوطي لم يفصل الهجوم في ترجمته اعتمادا على كتاباته الكثيرة التي فوّق سهامها إلى أعدائه. وقد ذكر السيوطي عن السخاوي أنه لا يحسن من غير الفن الحديثي شيئا أصلا، وأنه قد أكب على التاريخ- وهو يقصد بالتاريخ تراجم الرجال- «فأفنى فيه عمره، وأغرق فيه عمله، وسلق فيه أعراض الناس، وملأه بمساوئ الخلق وكل ما رموا به ان صدقا وإن كذبا، وزعم أنه قام في ذلك بواجب، وهو الجرح والتعديل، وهذا
(1) نفس المصدر ج 4 ص 68.
(2)
نفس المصدر ج 4 ص 69، 70.
(3)
الشعراني: ذيل الطبقات الكبرى ورقة 18 - 20، ص 36 - 40.
جهل مبين وضلال وافتراء على الله، بل قام بمحرم كبير، وباء بوزر كثير
…
وأنا نبهت على ذلك لئلا يغتر به أو يعتمد على ما في تاريخه من الإزراء بالناس خصوصا العلماء ولا يلتفت إليه» «1» ، وسنرى بعد قليل أن السيوطي كان على جانب كبير من الصواب فيما اتهم به تراجم السخاوي التي كان صاحبها شديد القسوة في أحكامه على من يترجم لهم، ولم تخل من اتباع الهوى في بعض الأحيان.
ويكتب السيوطي ستة رسائل حول موضوع أبوي الرسول صلى الله عليه وسلم يتعرض في جميعها لمسألة أحب التنبيه إليها وتأكيدها، وهي القول بنجاتهما من النار وأنهما من أهل الجنة، ويبدو أن السخاوي قد عارض السيوطي فيما ذهب إليه، أو أنه توقف في هذه المسألة ولم يجب فيها باثبات النجاة أو نفيها كما صرح في آخر ترجمته للسيوطي وقد هاجمه السيوطي هجوما شديدا في بعض رسائله، وأكثر الهجوم في مقامته السندسية حيث يقول: «ليث شعري ما الذي أنكره علي وفوق بسببه سهامه إليّ، أترجيح جانب النجاة، أما لي فيه من سلف صالح؟
أما تقدمني إليه من أئمة كل منهم لو وزن بالجبال فهو عليها راجح؟ فإن اعتذر بعدم الوقوف كان عذره جليا
…
إلى أن يقول من نظمه:
شحّ السخاوي بالانجاء يذكره
…
عن والدي سيد الأنباء والأمم
إن عزّ أن يبلغ البحر الخضم روى
…
يا ليته يستقي من وابل الديم» «2»
وقد استمر السيوطي في هجومه بأسلوب سيال وحجج قوية كما تعرض في هذه المقامة لمجموعة من المسائل التي كانت مثارا للخلاف بينه وبين خصمه موجها إليه أقسى الانتقادات معتمدا فيها يورده ويحتج به على الأدلة النقلية والعقلية وقد أشار فيها إلى إنكار السخاوي إمكان رؤية الأنبياء يقظة من قبل الأحياء وقد كان السيوطي أفتى بامكانها وقد شدد السيوطي عليه النكير وذهب إلى أن قول السخاوي يجره إلى التكفير، وعندئذ أحجم السخاوي عن إنكاره
(1) نظم العقيان في أعيان الأعيان ص 152، 153.
(2)
المقامة السندسية في النسبة المصطفوية ص 12، 13 من ط. حيدرآباد، ص 93 من ط الجوائب.
وتأول ما قاله «1» ، وكان السخاوي قد ألف في إنكاره على السيوطي مؤلفا سماه «الإرشاد والموعظة لزاعم رؤية النبي صلى الله عليه وسلم بعد موته في اليقظة» «2» ، وكان ذلك سببا في أن يؤلف السيوطي رسالة كبيرة في إمكان رؤية النبي والملك يسميها بتنوير الحلك وذلك لأن «طائفة من أهل العصر ممن لا قدم لهم في العلم بالغوا في إنكار ذلك والتعجب منه، وادعوا أنه مستحيل» «3» .
كما دافع السيوطي عن فتاواه التي أفتى بها وتعرض بسببها لانتقاد بعض خصومه أو مخالفتهم فقد أفتى في رسالته «تنزيه الأنبياء عن تسفيه الأغبياء» «4» ، التي تدور كما يتضح من اسمها حول عدم التعريض بالأنبياء وأحوالهم وتشبيه ما يحدث من الأحياء من نقص ببعض أحوال الأنبياء، أو ذكرهم في مواضع تنقص أقدارهم، وقد أفتى بأن فاعل ذلك يعزر، وقد أورد نقولا عديدة وأدلة متنوعة تؤيد فتواه، ثم نجده يهاجم خصومه قائلا:«المماراة في مثل هذا الموضع والتدليس وقصد الانتقام بالضغائن الباطنة لا يضر إلا فاعله، ولا يصيب المشنع عليه من ضرره شيء» إلى أن يقول: «لأن يكون كل أهل العصر في هذه المسألة خصمائي أحب إلي من أن يخاصمني نبي واحد فضلا عن جميع الأنبياء» «5» .
ويتضح من أقوال السيوطي أن فتاواه كانت تتعرض لنقد من قبل خصومه، ولذلك فهو لا يكل من الدفاع بجميع الأدلة عنها «6» ، وقد رأينا هجومه العنيف من قبل على خصومه حين اعتزم في وقت من الأوقات أن يعتزل الافتاء والتدريس.
وقد هاجم السيوطي جميع أعدائه وخصص رسائل لمهاجمتهم، بيد أن جانبا كبيرا من انتقاده لخصومه كان موضوعيا بمعنى أنه كان نتيجة للاختلاف في
(1) المقامة السندسية ص 92، 93.
(2)
الضوء اللامع ج 8 ص 19 ترجمة السخاوي.
(3)
الرسالة بكتاب الحاوي ج 2 ص 437 - 460، والنص ص 437.
(4)
الحاوي ج 1 ص 359 وما بعدها.
(5)
المصدر السابق ص 374.
(6)
المصدر السابق ج 1 ص 370.
الفتاوى أو الاستنباط، فقد هاجم خصمه الجوجري وأنكر عليه ما أفتى به في تفسير قوله تعالى: وَسَيُجَنَّبُهَا الْأَتْقَى بأن الآية وإن نزلت في أبي بكر فإنها عامة المعنى إذ العبرة بعموم اللفظ لا بخصوص السبب، وقد أفتى الجوجري بذلك نتيجة لما حدث من خلاف بين بعض أمراء المماليك في تفضيل أبي بكر على سائر الصحابة، وقد ردّ السيوطي على فتوى الجوجري بقوله:«هذا شأن من يلقي نفسه في كل واد، والرجل فقيه فماله يتكلم في غير فنه؟ وهذه المسألة تفسيرية حديثية أصولية كلامية نحوية، فمن لم يكن متبحرا في هذه العلوم الخمسة لم يحسن التكلم في هذه المسألة» «1» ، ثم يفند السيوطي بالأدلة العلمية النقلية والعقلية قول الجوجري، ويؤيد ما ذهب إليه من نزول الآية في حق أبي بكر واعتباره أفضل الصحابة، ويحمل على الجوجري حملة قوية يذكر فيها أنه ليس أهلا للفتيا في هذا الفن لأنه لا يتقنه، ولو جاز له أن يفتي فيه لكان ذلك جائزا لآحاد الطلبة، وللعوام والسوقة إذ «لا يعدم أحد منهم أن يكون عارفا بعدة من المسائل تعلمها من عالم، أو رآها في كتاب، ولا ريب في أنه لا يجوز لأحد منهم أن يفتي» «2» ، ويذكر أن مدار الفتوى على التبحر في العلم «فمن تبحر في فن أفتى به، وليس له أن يتعدى إلى فن لم يتبحر فيه» «3» ، ويستمر السيوطي في بيان التأهل للفتوى في الفنون المختلفة ويسيل قلمه دافقا ويصرح من حين إلى آخر باسم خصمه الذي كان ينبغي أن يلاحظ هذه الأقوال ويعرفها قبل أن يقدم على الفتوى «4» .
وقد جر التصدي للإفتاء على السيوطي بعض العداوات بيد أنه- في حقيقة الأمر- لم يكن يأبه بمن يخالفه إذا أثبت له البحث أنه على الحق، وقد خالف في بعض فتاواه أكثر مفتي عصره، وفي هذه الأحوال كان يعرض للمسائل عرضا موضوعيا علميا يثبت فيه ما يراه حقا ويدفع ما يراه باطلا معبرا عن ذلك
(1) الحبل الوثيق في نصرة الصديق، رسالة له بكتاب الحاوي ج 1 ص 504، النص ص 504، 505.
(2)
المصدر السابق ص 507.
(3)
نفس المصدر ص 508.
(4)
نفس المصدر ص 508 - 515.