الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
نشأة اللغة
لعل أول ما ينصرف إليه ذهن الباحث اللغوي قديما وحديثا هو أن يتساءل كيف تكون للانسان لغة؟ أتوصل الانسان إلى هذا النظام العجيب عن طريق الوحي؟ أم توصل إليه بنفسه؟.
هذه الأسئلة وأمثالها عرفها الناس في القديم والحديث، وانتهى علم اللغة أخيرا إلى أن اللغة ظاهرة اجتماعية كسائر الظواهر الاجتماعية ومعنى ذلك أنها من صنع المجتمع.
ولكن علم اللغة على الرغم من كثرة ما كتبه علماؤه حول هذا الموضوع لم يستطع أن يصل إلى رأي قاطع في كيفية نشأة اللغة، وما هي أول لغة كانت؟
وهل ترجع اللغات كلها إلى أصل واحد أم إلى أصول متعددة، ومن ثم تنادى كثير من اللغويين المحدثين بنتيجة البحث في نشأة اللغة عن أبحاث علم اللغة لأنه أقرب إلى الميتافيزيقا منه إلى العلوم، وعلى الرغم من ذلك فكثير من كتب اللغويين المحدثين لا تنفك تحفل بهذا الموضوع وبحثه وإن كانت توقن سلفا بنتائجه السلبية، بل وتحرص على تأكيدها «1» .
كان طبيعيا أن يتناول السيوطي بحث هذا الموضوع وأن يجعله أول موضوعات كتابه فيعرضه بطريقته النقلية الغالبة عليه.
والنظر فيما أورده من نقول مختلفة عن اللغويين والأصوليين تدلنا على حيرة
(1) انظر: اللغة لفندريس تعريب الدواخلي والقصاص، ص 29 - 42، علم اللغة للدكتور محمود السعران ص 55 - 57، د. علي عبد الواحد وافي: علم اللغة ص 88 - 97.
OttoJespersen: Language: ItsNatureDevelop mentandOrigin: «TheOrigin ofSpeech» 412- 434.
القوم جميعا في تحديد نشأة اللغة، وباستثناء ابن فارس من اللغويين نستطيع أن نقول إن جميعهم لم يجزموا بكون اللغة وحيا وتوقيفا، وبالرغم من أن القول بالتوقيف قد نسب إلى الأشعري فإن رأيه لم يحظ بتأييد أتباعه فإمام الحرمين ينقل عنه «أن العقل يجوز ذلك كله» «1» ، أي كون اللغة توقيفا أو اصطلاحا، والغزالي يرى جواز القول بالتوقيف والاصطلاح، ولا يرى حجة قاطعة للقائلين بالتوقيف في قوله تعالى: وَعَلَّمَ آدَمَ الْأَسْماءَ كُلَّها «2» ، ومن ثم فالرازي يذكر أن المحققين لا يقولون بالتوقيف ولا بالاصطلاح وإنما هم «متوقفون في الكل» «3» .
وابن جني الذي رجح كون اللغات اصطلاحية، وذكر بعض النظريات في تفسير نشأة اللغة من كونها من أصوات المسموعات كدوي الريح وحفيف الأشجار ونحوها لا
يستطيع أن يدلي برأي قاطع، بل ينتهي إلى التوقف وعدم ترجيح أي قول من هذه الأقوال.
ويتضح أن المعتزلة يقولون بالمواضعة والاصطلاح ويحاجون عن مذهبهم، وأن القول بالتوقيف لم يصرح بنسبته إلى أهل السنة «4» ، بل أنكر بعضهم نسبته إلى الأشعري «5» .
استطاع السيوطي أن ينقل خلاصة ما يتصل بهذا الموضوع عن اللغويين والأصوليين وأن يعرضه عرضا يتضح منه جميع المذاهب، وإذا كان المحدثون كما رأينا قد مالوا بعد طول البحث والدرس إلى تنحية هذا الموضوع عن أبحاثهم، فقد توصل بعض القدماء من قبل إلى نفس النتيجة، وقد نقل السيوطي عن صاحب رفع الحاجب «أنه لا فائدة لهذه المسألة، وهو ما صححه ابن الأنباري وغيره، ولذلك قيل ذكرها في الأصول فضول» «6» .
بيد أن السيوطي- لطبيعته النقلية- لم يصرح بموقفه من هذا المعترك، ولم
(1) المزهر ج 1 ص 21.
(2)
المزهر ج 1 ص 23.
(3)
المزهر ج 1 ص 16.
(4)
المصدر السابق ج 1 ص 20.
(5)
نفس المصدر ج 1 ص 24.
(6)
نفس المصدر ج 1 ص 26.
ينتصر لفريق على غيره، ولم يعقب على هذه النقول بما يبوح بموقفه، وقد أورد عقب هذه النقول بعض المرويات التي نذهب إلى أن الله تعالى علم آدم اللغات ومعظمها ينتهي إلى ابن عباس بصدد تفسير قوله تعالى: وَعَلَّمَ آدَمَ الْأَسْماءَ كُلَّها، ولم يعقب السيوطي بشيء على هذه النقول تصحيحا أو تضعيفا أو توجيها، فإذا قلنا: إن اختيارات الرجل في نقوله جزء من عقله، والسمة الغالبة التي يدركها الناظر في هذه النقول هي روح التردد أو التوقف عن القول بالتوقيف أو الاصطلاح، وهو كما عبرت عنه كثير من نصوصهم مذهب المحققين، فلعل السيوطي كان يختار التوقف، مع ميل إلى القول بالتوقيف، ونراه في موضع آخر يلخص هذه الأقوال الثلاثة في نشأة اللغة وينسب إلى ابن جني استحسان بعضها والميل إلى بعض، ولا يصرح عن موقفه بشيء «1» ، والذي يجعلنا نذكر ميله إلى القول بالتوقيف بعض الميل ما أورده من نقول بصدد تفسير الآية السابقة، وهذه النقول ترجح كون اللغة توقيفية.
(1) الاقتراح ص 6، 7.