الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
السيوطي وعلم أصول النحو
رأينا أن السيوطي قد وضع أصولا لنقد الرواية اللغوية تحاكي أصول المحدّثين وهو عمل يعد من مبتكراته، وقد حاول تصنيف المادة اللغوية تصنيفا يضاهي تصنيف المحدثين وقد استطاع أن يتناول بالبحث النظري في أصول اللغة بعض المسائل التي لم تكن قد استقرت الاستقرار الكافي، أو الأصول التي لم تحظ إلى ذلك الحين بأن توضع في إطار محكم منظم كما هو الحال لدى أهل الحديث.
ونحن هنا بصدد محاولة رائعة قام بها السيوطي فيما يتصل بالنحو، فقد حاول في كتابه «الاقتراح» أن يقيم بناء شامخا يمثل أصول النحو، ويكون المنهج الذي يتبعه النحاة في استنباطهم واستقرائهم، ومعبرا عما سلكوه في درس النحو من قبل.
والواقع أن المنهج النحوي أو مجموعة القواعد والنظم التي يتبعها النحويون في الاستقراء والاستنباط ظلت إلى وقت متأخر عرفا غير مكتوب، يلاحظه النحاة ويشيرون إلى التزامه واتباعه في عبارات قليلة مبتسرة، ولم يعمد أحد إلى وضع هذه النظم والقواعد في إطار علم معين.
والبحث في الأصول وهو يعني البحث في المناهج يأتي متأخرا بعد استقرار العرف العلمي الذي يدرج عليه أوائل الباحثين في علم من العلوم، هكذا كان الحال في العلوم الاسلامية، فوضع أصول الحديث إنما جاء بعد أن قامت أجيال متعاقبة من العلماء برواية الحديث والتحرج في روايته، وكان لهم عرف ملتزم، وعبارات متداولة لم تلبث أن أخذت تتجمع شيئا فشيئا، حتى وضع منها المتأخرون علما في نقد الرواية.
وقد عرف الاجتهاد الفقهي منذ عصر الصحابة، ووجد كثير من الفقهاء الذين استنبطوا كثيرا من الأحكام، وعملوا بالقياس، وكانت لهم طرق متمايزة في الاستدلال والاستنباط، وكانت هذه الطرق والأصول بمثابة العرف الذي يحرص عليه الفقهاء ويشيرون إليه في عبارات مختصرة، ولم يتح لهذه الأصول أن تتخذ شكلها العلمي التنظيري الوافر إلا بعد أن أملى الشافعي (204 هـ) رسالته التي أحاط فيها بجوانب هذا العلم، ولذلك فقد اشتهر الشافعي بأنه واضع علم الأصول، وليس يعني هذا أنه مخترع هذه الأدلة أو الموضوعات، ولكن يعني أنه أول من استطاع أن يتجرد لصياغة هذه الأفكار المتعارف عليها في إطار نظري محدود يكون بمثابة تخطيط يترسمه الفقيه في اجتهاده الفقهي.
إذا كان هذا ما حدث في علمي الحديث والفقه فهو نفس ما حدث في البيئة النحوية. لقد وجد النحاة منذ وقت مبكر، وتمت الملاحظات النحوية، واستطاع النحو أن يتخذ شكلا متكاملا في كتاب سيبويه، وقد تعارف النحاة في استقرائهم واستنباطهم ووضع مقاييسهم على عرف محدد التزموا به سواء فيما يتصل بمن يأخذون عنهم أم بالمادة اللغوية أم بطريقة استخراج القوانين، وبالرغم من وضع الضوابط النحوية منذ وقت مبكر فإن التجرد لبحث هذا المنهج النحوي لم يبدأ التفكير فيه إلا بعد وقت طويل. ذلك أن القدماء كانت عنايتهم بالتطبيق أغلب من عنايتهم بالتنظير، والعناية بالتطبيق أو الجوانب العملية من البحث هو ما تدعو إليه الحاجة في أول الأمر، ثم يأتي التنظير في المراحل التالية.
وقد قدر لأصول الفقه أن توضع منذ وقت مبكر كما رأينا، وقد أخذ علم الأصول طريقه في التدرج شيئا فشيئا، ووضعت فيه التقسيمات والتفريعات المختلفة، بيد أننا ننظر في البيئة اللغوية فلا نرى من حاول وضع أصول للنحو، حتى إذا ما قدر لهذه البيئة أن تتجه إلى هذه الوجهة فإنها تقوم بصنيعها مترسمة خطى البيئة الفقهية في أصولها، فيأتي ابن جني في القرن الرابع الهجري ويحاول أن يضع بعض الأصول النحوية في كتابه الذي ذكر أنه وضعه نتيجة لأنه لم ير «أحدا من علماء البلدين تعرض لعمل أصول النحو على مذهب أصول الكلام
والفقه» «1» ، وقد أشار ابن جني إلى عمل قام به أبو الحسن الأخفش (210 هـ) يعد ممهدا لما قام به ابن جني.
وقد ربط النحويون بين أصولهم وبين أصول الفقه، وعبارة ابن جني الآنفة، تدل على شروعه في إقامة الأصول النحوية على نمط الأصول الفقهية، وتأثره بأصول الفقه واضح في حديثه عن القياس والاستحسان والاجماع، وفي حديثه المسهب عن العلل النحوية وهل هي أقرب إلى علل المتكلمين أم إلى علل المتفقهين؟، وقد استمر تأثر أصول النحو بأصول الفقه بعد ابن جني فظهر هذا الأثر عند ابن الأنباري كما ظهر عند السيوطي.
والواقع- وهو ما سبق أن نبهت إليه في بحثي عن القياس- أنه كان على هؤلاء النحاة حين حاولوا رسم منهج للنحو أي حين قاموا بوضع أصول للنحو أن ينظروا إلى القياس النحوي الذي قامت عليه الأحكام النحوية فيحددوا ما ينبغي أن يقاس عليه، ثم كان عليهم أن يرسموا للمجتهد في اللغة طريقا واضحة المعالم في استنباط الأحكام النحوية الناتجة عن الاستقراء اللغوي، وليس يهم بعد ذلك أن تجيء هذه الأصول موافقة في بعضها لأصول الفقه ومغايرة في بعض، فالأهم أن يكون المنهج معبرا عن الواقع الذي يتناوله ويعيش فيه ويخطط له، مراعيا طبيعته ومقرراته، وأهدافه، فما الذي حدث لأصول النحو نتيجة ربطه بأصول الفقه؟
لقد نتج عن هذا الربط أمران يتصل أولهما بموضوع أصول النحو التي روعي فيها أن تطابق التقسيمات المتعارف عليها عند الفقهاء، والثاني: تطور التأليف في أصول النحو تبعا لتطور التأليف في أصول الفقه، وهو ما سنلاحظه عند المقارنة بين وضع السيوطي لأصول النحو وبين ما قام به سابقوه وأهمهم ابن جني (392 هـ)، وابن الأنباري (577 هـ)، وقد استمر الربط بين أصول النحويين وأصول الفقه منذ بدايات الحديث في أصول النحو على يد ابن جني وقليل من سابقيه، إلى نهاية مراحل التأليف في أصول النحو عند السيوطي.
(1) ابن جني: الخصائص ج 1 ص 2.
وقد بينت في بحثي عن القياس معالم التأثير ودوافعه التي أدت إلى تأثر أصول النحو بأصول الفقه، ولا أرى لزاما أن أعيد هذا الحديث فإنما أبغي هنا شيئا آخر هو بيان الدور الذي قام به السيوطي في أصول النحو، وإذا كان هذا ما نهدف إليه فقد كان من الضروري أن نبين الارتباط بين أصول النحو وبين أصول الفقه وفيما قدمناه غناء، وضرورة ذلك تنبع من أن تدرج أصول الفقه وتطور التأليف فيه أحدث أثره في أصول النحو.
ولبيان دور السيوطي نرى لزاما أن نتبين الجهود التي سبقته ليتضح بالمقارنة بين عمله وعمل السابقين معالم دوره وحدوده.
وأهم من تحدث عن أصول النحو قبل السيوطي ابن جني في القرن الرابع، ويبدو أنه كان مسبوقا ببعض المحاولات التي قام بها أبو الحسن الأخفش في كتابه المقاييس. بالإضافة إلى الإشارات والعبارات الموجزة المتناثرة المبثوثة في كتب النحو وأهمّها كتاب سيبويه والشروح عليه، بيد أنها لا تمثل تنظيرا كافيا أو مناسبا لأصول النحو.
ويظهر بعد ابن جني ابن الأنباري في القرن السادس، ولا نجد غيرهما من النحويين الذين سبقوا السيوطي من حاول أن يتناول أصول النحو بصفة عامة كصنيعهما وأهم ما هنالك غير ذلك طرق بعض الموضوعات التي تتصل بأصول النحو كبحث العلل النحوية وقد درسها الزجاجي (337 هـ)، في كتابه الايضاح ويبدو أنه أول من أفرد للتصنيف في العلل، وهو مسبوق بكثير من الأبحاث في العلة النحوية، فهم ينسبون إلى ابن أبي إسحاق أنه «أول من بعج النحو ومدّ القياس والعلل» «1» ثم بحث الخليل العلل النحوية وقرر أنه اعتلّ بما يرى أنه علة لما علل وربما يسنح لغيره ما هو علة أخرى أليق «2» ، فهو بذلك يجعل العلل النحوية أمرا عقليا اجتهاديا، وقد انفسح المجال بذلك أمام النحاة في محاولة استخراج العلل النحوية إلى أن صنف فيها الزجاجي مؤلفه.
(1) ابن سلام: طبقات فحول الشعراء ص 13.
(2)
الزجاجي: الايضاح في علل النحو ص 66.
وفي حديث الزجاجي عن العلل نستطيع إدراك تطور دراسة العلل النحوية عند النحاة حيث يورد الزجاجي بصدد بعض المسائل ما احتج به أوائل النحاة كالخليل وسيبويه، ثم ما احتج به من بعدهم، ونلمس من هذا الحديث تعقد دراسة العلل شيئا فشيئا بعد بساطتها على ضوء ما ثقف النحاة من الفقه وعلم الكلام وما مارسوه من أساليب الجدل.
وقد قسم الزجاجي في كتابه العلل النحوية إلى ثلاثة أقسام «1» : العلل التعليمية، والعلل القياسية، والعلل الجدلية، فالعلل التعليمية وتسمى بالعلل الأولى هي التي يتوصل بها إلى تعلم كلام العرب فعلة نصب «زيدا» في «إن زيدا قائم» هو مجيء «إن» قبلها لأنها تنصب الاسم وترفع الخبر ليس غير، وعلة رفع «زيد» في «قام زيد» أنه فاعل.
والعلل القياسية هي العلل الثواني التي تأتي بعد العلل الأولى كأن يسأل سائل عن العلة في نصب «إن» لفظة «زيدا» ، فيجيب النحاة بأنها هي وأخواتها أشبهت الفعل المتعدي إلى مفعول به واحد فعملت عمله، وتلاها منصوب كأنه مفعول مقدم ومرفوع كأنه فاعل مؤخر، فهي من هنا تشبه من الأفعال ما قدّم مفعوله على فاعله.
والعلل الجدلية وتسمى بالعلل الثوالث هي كل ما يأتي من العلل بعد ذلك، فكل ما يعتلّ به في باب «إنّ» بعد ما قدمنا هو من قبيل العلل الثوالث، كأن يسأل سائل: بأي الأفعال شبهت «إن» وأخواتها: أبالماضية أم المستقبلة؟ أو يسأل آخر لماذا لم يجز في «إن» وأخواتها أن يتقدم مرفوعها على منصوبها كما يحدث ذلك في الفعل؟ فكل ما يعتلّ به النحاة جوابا عن هذه الأسئلة ونحوها هو من قبيل العلل الثوالث.
ولا يخفى أن العلل التعليمية هي التي تمس الحاجات العملية لدارس النحو والناطقين باللغة، أما العلل الثواني والثوالث فليست إلا من قبيل الفلسفة اللغوية التي تحاول تعليل
ما هو كائن بالفعل في اللغة بعلل يخترعها النحاة بعد
(1) المصدر السابق ص 64.
طول النظر والتأمل وهذه الفلسفة تحاول جاهدة تلمس وجوه الحكمة في أوضاع اللغة، ولذلك فهي لا تفيد الحاجات العملية للناطقين، وقد كانت سببا في ثورة ابن مضاء القرطبي الذي دعا إلى إسقاط هذه العلل من النحو «1» .
وقد تطور درس العلل النحوية بعد الزجاجي، فأسهب ابن جني في الحديث عنها وتبعه ابن الأنباري، ونجد في كتابه «الانصاف» كثيرا من الأمثلة لهذه العلل الثواني والثوالث التي تعقد درسها شيئا فشيئا، ونرى بعد ذلك صورة لما آل إليه أمر هذه العلل النحوية التي حاول بعض المتأخرين حصرها في أربع وعشرين علة «2» ، وهي علل يقصد منها تعليل الصور النحوية بربطها بأسبابها وحمل بعضها على بعض على نحو ما يصنع الفقهاء «3» .
ونعود ثانية إلى تفصيل الجهد الذي قام به ابن جني وابن الأنباري، ثم ننظر في عمل السيوطي.
الواقع أن ابن جني بالرغم من ضخامة كتابه الخصائص الذي ذكر في أوله أنه وضعه في أصول النحو فإنه خارج في أكثر أبوابه عن «الأصول» بالمعنى الذي تقرر فيما بعد وقد تناول فيه بعض أدلة النحو فتحدث عن السماع والاجماع والقياس، وتناول العلل النحوية بحديث مفصل، بيد أن كثيرا من مباحث الكتاب تخرج عن مباحث علم الأصول وتتناول موضوعات أخرى متصلة باللغة، بل إن حديث ابن جني عن الموضوعات التي أشرنا إليها لم يكن حديثا مركزا، وبالرغم من وقوفه على كثير من الحقائق الهامة في الأصول فإن كتابته تعد بداية لمن بعده، وتأتي أهميته من أنه أول من تناول بالبحث المسهب بعض المسائل التي عرفت في علم أصول النحو معتمدا على أوليات قام بها أبو الحسن الأخفش ومن قبله الخليل وسيبويه، ويعد وصف السيوطي لعمل ابن جني في الأصول أصدق الأوصاف حيث يذكر أنه «وضعه في هذا المعنى وسماه أصول النحو لكن أكثره خارج عن هذا المعنى، وليس مرتبا، وفيه الغث والسمين
(1) ابن مضاء القرطبي: الرد على النحاة ص 151.
(2)
الاقتراح ص 47، 48.
(3)
د. سيد خليل: مصر في تاريخ النحو، مقال بمجلة كلية الآداب مجلد 13 ص 67.
والاستطرادات» «1» .
ومن الطبيعي أن تكون أولية التأليف غير متكاملة وغير متناسقة، وهذا شأن جميع العلوم فلا عجب أن يختلف متناولو أصول النحو بعد ابن جني عنه، ويكتسب حديثهم نوعا من التقسيم والتنظيم الذي نلاحظه دائما في تدرج العلوم ونموها حيث تتدرج الملاحظات شيئا فشيئا لتأخذ شكل القوانين أو الأصول الثابتة المقررة، وتستقر للعلم بعض المصطلحات ويتحدد معناها.
فإذا ما نظرنا في صنيع ابن الأنباري (577 هـ) ولا نعرف من تكلم بعد ابن جني في أصول النحو قبله وجدنا ذلك العلم قد أخذ يستقر شيئا من الاستقرار، وقد حمل ابن الأنباري النحو وأصوله على الفقه وأصوله، فتأثر بصنيع الفقهاء والأصوليين، وحاول تطبيق ذلك في اللغة، فإذا كانت هناك مسائل في الخلاف معروفة بين الفقهاء فإن ما يناظرها في البيئة النحوية هو مسائل الخلاف بين البصريين والكوفيين التي رتبها مؤلفها على نمط المسائل الخلافية بين الشافعي وأبي حنيفة، وهذه محاولة لا نشاء فن الخلاف في النحو كما هو معروف لدى الفقهاء، كما تأثر ابن الأنباري أيضا بعلمي الكلام والفقه في وضع فن «الجدل» الاعرابي في كتابه الاغراب في جدل الاعراب، وبعض مسائله تتصل بمباحث أصول النحو.
أما علم أصول النحو فقد ترك ابن الأنباري فيه كتابه «لمع الأدلة» الذي حاول فيه وضع الأصول النحوية على نمط الأصول الفقهية، بيد أنه قد تكلم بايجاز شديد في جميع موضوعات أصول النحو، وقد قسم كتابه تقسيما أكثر ملاءمة للأصول، وأكثر مشابهة لتقسيمات أصول الفقه مما وجدناه عند ابن جني، وقد جعل كتابه في ثلاثين فصلا، ولا يهولنك ذلك فأغلب هذه الفصول لا يتجاوز صفحة واحدة وكان يحسن به أن يسميها مسائل بدلا من تسميتها بالفصول، وقد تناول في هذه الأقسام تعريف أصول النحو فحده بأنه «أدلة النحو التي تفرعت منها فروعه وأصوله، كما أن أصول الفقه أدلة الفقه التي
(1) الاقتراح ص 2.
تنوعت عنها جملته وتفصيله» «1» ، كما بين فائدته، ثم قسم هذه الأدلة إلى أقسام ثلاثة هي النقل والقياس واستصحاب الحال، وتناول النقل وتقسيمه إلى متواتر وآحاد وشروط كل منهما، وما يتصل بنقد الرواية وعدالة الرواة، ثم انتقل إلى الحديث عن القياس في الفصل العاشر واحتج لثبوته في النحو، وسنتبين أن كثيرا من الحديث عن القياس إنما هو حديث نظري عقلي مستمد من الفقه وأصوله بعيد عن اللغة وطبيعتها ومقتضياتها، ثم تناول أقسام القياس وهي أقسام شابهت أقسام القياس الفقهي، ولم تحك الواقع اللغوي، ثم تحدث عن العلة وشروطها وجواز التعليل بعلتين وأمثال هذه المسائل التي نجدها عند الأصوليين، ثم تناول وجوه الاستدلال فذكر الاستدلال
بالتقسيم والاستدلال الأولى والاستدلال ببيان العلة ثم تحدث عن الاستحسان وتعارض الأدلة، واستصحاب الحال، والاستدلال بعدم الدليل.
ونلاحظ على تقسيمات ابن الأنباري أنها مستقاة مما وصل إليه علم الأصول الفقهي في عهده حيث تميزت هذه الأقسام، واتضحت وأفاض في الحديث عنها الأصوليون، وقد حاول ابن الأنباري نقلها من البيئة الفقهية إلى البيئة النحوية، فأفلح في كثير من الجوانب، وتعسف وأخفق في جوانب غير قليلة حيث بدت بحوثه غير معبرة عن الواقع اللغوي وغير مستقاة من المسلك النحوي الأصيل الذي اختطه أئمة النحو واللغة وسلكوه في العصر الأول، وحينئذ فإنها لا تعدو أن تكون حديثا نظريا عقليا يعتمد على منطق ذهني مجرّد بعيد عن اللغة.
وأتى السيوطي ورأى انصراف القوم- في عصره- عن أصول النحو والتأليف فيه، كما أنه لم يسبقه على مدى قرون طويلة غير هذين الرجلين اللذين لم يتمكنا من إرساء بناء قوى لعلم أصول النحو يكون بالنسبة للنحو كأصول الفقه بالنسبة للفقه، وكل ما أثر عن غيرهما إنما هو شذرات متناثرة وعبارات مقتضبة في ثنايا كتب اللغة والنحو والأدب. وقد نظر السيوطي في صنيع القوم قبله وحاول الافادة منه بما يناسب علم الأصول نافيا عنه ما هو خارج عنه، ويصف عمله وصفا دقيقا بقوله: «واعلم أني قد استمددت في هذا الكتاب كثيرا من
(1) لمع الأدلة في أصول النحو ص 80.
كتاب الخصائص لابن جني فإنه وضعه في هذا المعنى، وليس مرتبا وفيه الغث والسمين والاستطرادات، فلخصت منه جميع ما يتعلق بهذا المعنى بأوجز عبارة وأرشقها، وأوضحها معزوا إليه، وضممت إليه نفائس أخر ظفرت بها في متفرقات كتب اللغة والعربية والأدب وأصول الفقه، وبدائع استخرجتها بفكري ورتبته على نحو ترتيب أصول الفقه في الأبواب والفصول والتراجم» «1» .
ولم يغفل السيوطي الحديث عن ابن الأنباري الذي سبقه في هذا الميدان، فقد ذكر كتابيه في الأصول والجدل، وبين موضوعات الفصول التي تناولها الكتابان، ثم بين إفادته منهما بقوله:«وقد أخذت من الكتاب الأول- يقصد لمع الأدلة في أصول النحو- اللباب، وأدخلته معزوا إليه في خلل هذا الكتاب، وضممت خلاصة الثاني في مباحث العلة، وضممت إليه من كتاب الانصاف في مباحث الخلاف جملة ولم أنقل من كتبه حرفا إلا مقرونا بالعزو إليه ليعرف مقام كتابي من كتابه» «2» .
وتوضح لنا العبارة الأخيرة إدراك السيوطي أن أهم من تناول أصول النحو قبله ابن الأنباري، وأنه أراد بكتابه أن يفوق صنيع سابقه.
ويتميز عمل السيوطي عن سابقيه بما يأتي:
أولا: الفهم الدقيق والمحدد لعلم أصول النحو، وموضوعه وأهدافه، فقد حدّه بأنه «علم يبحث فيه عن أدلة النحو الاجمالية من حيث هي أدلته، وكيفية الاستدلال بها، وحال المستدلّ» «3» ، وهو حد أكثر بيانا وتفصيلا من حد ابن الأنباري الذي ذكر أن «أصول النحو أدلة النحو التي تفرعت منها فروعه وفصوله» «4» .
وقد حدد ابن جني أدلة النحو بثلاثة أدلة هي السماع والاجماع والقياس، وحددها ابن الأنباري بأنها النقل والقياس واستصحاب الحال، فخلص السيوطي من ذلك إلى تحديدها بأربعة هي السماع والاجماع والقياس
(1) الاقتراح ص 2.
(2)
الاقتراح ص 4.
(3)
المصدر السابق ص 4.
(4)
لمع الأدلة ص 80.
والاستصحاب، وذكر أن هناك أدلة أخرى تأتي في مرتبة دون ذلك.
وقد بين السيوطي معنى الأدلة الاجمالية وبين أن الأدلة الاجمالية هي التي يتناولها بالبحث علم الأصول، أما الأدلة التفصيلية كدليل جواز العطف على الضمير المجرور من غير إعادة الجار وأمثال ذلك فمجاله علم النحو نفسه، وليس من مباحث أصوله.
وبين أن قوله: من حيث هي أدلته «بيان لجهة البحث عنها أي البحث عن القرآن بأنه حجة في النحو لأنه أفصح الكلام سواء كان متواترا أم آحادا، وعن السنة كذلك بشرطها الآتي، وعن كلام من يوثق بعربيته كذلك، وعن اجتماع أهل البلدين كذلك، أي أن كلا مما ذكر يجوز الاحتجاج به دون غيره، وعن القياس وما يجوز من العلل فيه وما لا يجوز» «1» .
ثم شرح معنى كيفية الاستدلال مبينا أنه عند تعارض الأدلة ونحوه «كتقديم السماع على القياس واللغة الحجازية على التميمية إلا لمانع، وأقوى العلتين على أضعفهما، وأخف الأقبحين على أشدهما قبحا» «1» ، ثم بين معنى قوله «وحال المستدل» بأنه يتناول البحث في المستنبط للمسائل من الأدلة المذكورة: صفاته وشروطه وما يتبع ذلك «1» .
ثانيا: ترتيب الكتاب بحسب ما يقتضيه علم الأصول، وهو ما لم يقم به ابن جني فكتابه يحوي ما يتصل بالأصول وما هو خارج عنها، كما أن ابن الأنباري لم يوفق في ترتيب كتابه، وأهم ما يميز كتاب السيوطي ترتيبه الموافق للموضوع، فإذا كان علم الأصول يبحث عن الأدلة الاجمالية وكيفية الاستدلال بها وحال المستدل، فقد تناول السيوطي
كلا من هذه الأدلة في فصل مستقل سماه كتابا، فالكتاب الأول في السماع، والثاني في الاجماع، والثالث في القياس، والرابع في الاستصحاب والخامس في أدلة شتى، والسادس في التعارض والترجيح، والسابع في أحوال مستنبط النحو.
ويعد هذا الترتيب على هذا النسق أو في ترتيب وأكثره دقة فيما يتصل بأصول
(1) الاقتراح ص 5.
النحو، وهو ما لم يتنبه إليه ابن الأنباري الذي ألف في الأصول من قبل.
والواقع أن التدرج التاريخي واستقرار علم أصول الفقه بحيث درج الفقهاء على أن يبدءوا مؤلفاتهم بالمقدمات اللغوية التي تهم الأصوليين، ثم يتحدثون بعد ذلك عن الأصول الأربعة القرآن والسنة والاجماع والقياس ثم يتبعون ذلك ببقية الأدلة، هو الذي حدا بالسيوطي إلى أن يرتب كتابه على النحو الذي انتهى إليه الفقهاء في أصولهم، ولعل هذا الترتيب لم يكن قد استقر عند وضع ابن الأنباري كتابه، وقد عبر السيوطي عن سبقه وابتكاره في هذا الكتاب قائلا: إن «جمعه وترتيبه صنع مخترع، وتأصيله وتبويبه وضع مبتدع» «1» .
ثالثا: المقدمات التي قدم بها السيوطي لكتابه لم يتناولها ابن الأنباري، وقد تشتت وتفرق بعضها في مباحث ابن جني، بينما جمعها السيوطي وجعلها بمثابة المقدمات لهذا الكتاب، وقد تناول فيها باختصار شديد يبين فهمه أنها مقدمات لهذا العلم وليست من أصوله، تناول فيها حدود النحو واللغة والقول في نشأة اللغة ومناسبة الألفاظ للمعاني، والدلالات النحوية، كما تناول الحكم النحوي وقسمه كتقسيم الفقهاء للحكم الفقهي إلى واجب وممنوع وحسن وقبيح وخلاف الأولى وجائز على السواء «فالواجب كرفع الفاعل وتأخيره عن الفعل، وجر المضاف إليه وتنكير الحال والتمييز ونحو ذلك، والممنوع كأضداد ذلك، والحسن كرفع المضارع الواقع جزاء بعد شرط ماض، والقبيح كرفعه بعد شرط المضارع، وخلاف الأولى تقديم الفاعل في نحو «ضرب غلامه زيدا» ، والجائز على السواء كحذف المبتدأ أو الخبر وإثباته حيث لا مانع من الحذف ولا مقتضى له» «1» .
وهذا التقسيم تحت هذه المصطلحات الأصولية لا نجده عند ابن جني ولا عند ابن الأنباري، وقد قسمه أيضا إلى رخصة وغيرها، فالرخصة ما جاز استعماله لضرورة الشعر وتتفاوت الضرورة حسنا وقبحا، وقد بين السيوطي مراتب الحسن والقبح في الضرورة الشعرية ممثلا بالأمثلة «3» .
(1) الاقتراح ص 10.
(3)
الاقتراح ص 11، 12.
كما تحدث عن تعلق الحكم بشيئين فصاعدا، وهو نفس ما تحدث عنه ابن الأنباري في جواز تعليل الحكم بعلتين «1» ، وقد بحثه السيوطي في مباحث العلة بيد أنه في المقدمات عنى بما يتعلق به الحكم من أشياء قد يجوز أن تجتمع كمسوغات الابتداء بالنكرة فكل منها مسوغ على انفراده، ولا يمتنع اجتماع اثنين فأكثر، ومنها ما لا يجوز اجتماعه كالتنوين مع الاضافة فهما خاصتان للأسماء ولا يجوز اجتماعهما، وقد أورد هنا أيضا بعض الأمثلة لكلا النوعين.
ثم يتحدث عن العربي والعجمي من الكلام فيتضح من حديثه أنه يطلق على المعرب اسم العجمي متابعا أبا حيان الذي قال: «العجمي عندنا هو كل ما نقل إلى اللسان العربي من لسان غيره» «2» ، ثم لخص السيوطي كيفية معرفة عجمة الاسم، ويعد ذلك خلاصة حديثه عنه في كتابه المزهر.
ثم نقل السيوطي تقسيم الألفاظ إلى واجب وممتنع وجائز وهو تقسيم عقلي نظري لا تدفع إليه الحاجة اللغوية الحقيقية، وإنما يدفع إليه الكلف بتصنيف ظواهر اللغة أو ألفاظها تحت أقسام وبمصطلحات فقهية.
رابعا: تناول السيوطي الأدلة النحوية بالبحث التفصيلي من الناحية التي حددها والتي يعنى بها علم الأصول وهي البحث في حجية هذه الأدلة وكيفية الاستدلال بها، فعقد الكتاب الأول للسماع وهو المصدر الذي اعتمد عليه النحاة وقد حدده بأنه «ما ثبت في كلام للسماع وهو المصدر الذي اعتمد عليه النحاة وقد حدده بأنه «ما ثبت في كلام من يوثق بفصاحته فشمل كلام الله تعالى وهو القرآن، وكلام نبيه صلى الله عليه وسلم، وكلام العرب قبل بعثته، وفي زمنه وبعده إلى أن فسدت الألسنة بكثرة المولدين نظما ونثرا عن مسلم أو كافر» «3» .
ثم أخذ في تفصيل الحديث عن حجية كل نوع من أنواع المادة اللغوية، ولم يقم ابن جني ولا ابن الأنباري بمثل هذا العمل، ولم نجده عند غير السيوطي إلا في بعض إشارات يسيرة ومقتضبة استطاع السيوطي أن يجمعها وأن يدخلها ضمن حديثه، فضم شملها بعد تفرق في كتب اللغويين، وقد نظّم هذا الفصل
(1) ابن الأنباري: لمع الأدلة ص 117.
(2)
الاقتراح ص 23.
(3)
الاقتراح ص 14.
تنظيما دقيقا ضم خلاصة المنقول عن القدماء فيما يتصل بالمادة اللغوية وكيفية الاحتجاج بها، ومن يوثق به ومن لا يوثق، وكيفية تصنيفها، وأحوال الناطقين، وما لا يجوز الاحتجاج به.
وفي بقية فصول الكتاب نرى للسيوطي ابتكارات جديدة تنم عن فهم عميق لنصوص السابقين ومحاولة لتهذيب علم أصول النحو وتحديد مسائله تحديدا قاطعا فنراه يقرر القاعدة في أحيان كثيرة ثم يورد من النقول ما يدل عليها.
وقد استطاع بعمله هذا أن يجمع خلاصة أقوال السابقين وأن يتمثلها ثم يرتبها ترتيبا يتناسب مع علم الأصول مضيفا إليها بعض أفكاره، كما استطاع أن يضم إليها مباحث جديدة أغفلها من تحدث في أصول النحو قبله، ومما أغفله ابن جني وابن الأنباري معا فضلا عما قدمنا البحث عن أحوال مستنبط النحو الذي عقد له السيوطي الفصل السابع من كتابة «1» .
ويعد كتاب السيوطي من هذه الناحية أهم الكتب التي تناولت أصول النحو، بل إننا لا نكون مغالين إذا قلنا إن أصول النحو بالمعنى العلمي الدقيق لم يوضع فيها غير كتاب السيوطي.
ونستطيع من خلال هذا الكتاب تبين المنهج النحوي بصورة جلية، والفروق بين البصريين والكوفيين في المنهج.
كما نستطيع تبين مواقف السيوطي من بعض القضايا الهامة في الأصول فله موقف حاسم تجاه الاحتجاج بالقرآن الكريم وقراءاته حيث ذهب إلى أن: «كل ما ورد أنه قرئ به جاز الاحتجاج به في العربية سواء كان متواترا أم آحادا أم شاذا، وقد أطبق الناس على الاحتجاج بالقراءات الشاذة في العربية إذا لم تخالف قياسا معروفا، بل ولو خالفته يحتج بها في مثل ذلك الحرف بعينه، وإن لم يجز القياس عليه، كما يحتج بالمجمع على وروده ومخالفته القياس في ذلك الوارد بعينه ولا يقاس عليه نحو «استحوذ» ، وما ذكرته من الاحتجاج بالقراءات الشاذة لا أعلم فيه خلافا بين النحاة، وإن اختلف في الاحتجاج بها في الفقه،
(1) الاقتراح ص 84.
ومن ثم احتج على جواز إدخال لام الأمر على المضارع المبدوء بتاء الخطاب بقراءة: «فبذلك فلتفرحوا» ، كما احتج على إدخالها على المبدوء بالنون بالقراءة المتواترة:«ولنحمل خطاياكم» ، واحتج على صحة قول من قال: ان «الله» أصله «لاه» بما قرئ شاذا: «وهو الذي في السماء لاه وفي الأرض لاه» «1» .
وقد خطأ السيوطي قوما من النحاة كانوا يعيبون على عاصم وحمزة وابن عامر قراءات بعيدة في العربية، وذلك لأن معول ثبوت القراءات إنما هو على الرواية وليس على موافقة الأصول النحوية «2» .
والذي نلاحظه أن موقف المتقدمين من النحاة فيه غير قليل من التعسف تجاه الاحتجاج بالقراءات القرآنية لا سيما ما خالف القواعد النحوية، ونلاحظ تغير النظرة عند المتأخرين الذين جوزوا بعض الاستعمالات مستندين إلى بعض القراءات كاعتماد ابن مالك على قراءة ابن عامر «قتل أولادهم شركائهم» في تقرير جواز الفصل بين المضاف والمضاف إليه بمعمول المضاف، وهي القراءة التي أنكرها البصريون والزمخشري «3» وقد تبع المتأخرين من النحاة ابن مالك فيما ذهب إليه، وهناك أمثلة أخرى تدل على تغير موقف المتأخرين من النحاة عن موقف المتقدمين على النحو الذي بيناه.
ويتخذ السيوطي موقفا وسطا في الاحتجاج بألفاظ الحديث الشريف وتراكيبه بين المجيزين مطلقا والمانعين مطلقا وقد عبر عن ذلك بقوله: «وأما كلامه صلى الله عليه وسلم فيستدل منه بما ثبت أنه قاله على اللفظ المروي، وذلك نادر جدا» «4» .
وقد نقل عنه هذا الرأي البغدادي في مقدمة خزانة الأدب «5» ، وقد رأينا اتساق موقف السيوطي مع ما قرره في أصوله في تناوله لبعض الأحاديث وفي كتبه النحوية المختلفة. وفيما يتصل بكلام العرب الذين يحتج بهم تبع السيوطي
(1) الاقتراح ص 15، 16.
(2)
الاقتراح ص 16.
(3)
شرح الأشموني على ألفية ابن مالك ج 2 ص 276، حاشية الصبان ج 2 ص 27.
(4)
الاقتراح ص 16.
(5)
خزانة الأدب ج 1 ص 26.
التحديد المتعارف عليه عند اللغويين وهو اختتام الشعراء الذين يحتج بهم بابن هرمه، بيد أنه زاد على هذه المادة اللغوية مصنفات الامام الشافعي وهو ما لم يشر إليه أحد من النحاة قبله، وقد اعتمد في ذلك على قول ابن حنبل: كلام الشافعي في اللغة حجة «1» ، وقد وجدنا محقق رسالة الشافعي في عصرنا يعتمد على هذا القول محاولا استخراج بعض الأقيسة النحوية الجديدة من استقراء أسلوب الشافعي وعباراته.
ويتسم موقف السيوطي في بعض الأحيان بالتساهل في قبول المرويات فهو لا ينتقد موقف الزمخشري الذي احتج في تفسيره ببيت لأبي تمام بل يقره في ذلك «2» ، حيث ذهب الزمخشري إلى أن أبا تمام وإن كان محدثا لا يحتج بشعره في اللغة إلا أنه من علماء اللغة فنجعل ما يقوله بمنزلة ما يرويه، ويبرر السيوطي ذلك بأن ما تقرر من
إجماعهم على أنه لا يحتج بكلام المولدين والمحدثين في اللغة والعربية خاص بغير أئمة اللغة ورواتها.
وقد قوبل مسلك الزمخشري السابق بانكار شديد لدى النحاة، وقد ردّ البغدادي على تعليله بأن «قبول الرواية مبني على الضبط والوثوق، واعتبار القول مبني على معرفة أوضاع اللغة العربية والاحاطة بقوانينها، ومن البين أن إتقان الرواية لا يستلزم إتقان الدراية» «3» .
على أن ما ساد في البيئة النحوية هو عدم الاحتجاج بأقوال المولدين سواء أكانوا من رواة اللغة وعلمائها أم من غيرهم، وما أجازه السيوطي لم يطبقه أحد من النحاة. وقد اعتمد البغدادي في حديثه عن اللغة التي يصح الاستشهاد بها في كثير من الأحيان على ما أورده السيوطي بكتابه، وإن أغفل العزو في النقل إليه.
بيد أننا للانصاف نأخذ على السيوطي وسابقيه ابن الأنباري وابن جني أن
(1) الاقتراح ص 20.
(2)
الاقتراح ص 26، 27.
(3)
خزانة الأدب ج 1 ص 21.
ربطهم أصول النحو بأصول الفقه قد ساقهم إلى بحث بعض المسائل بأسماء أي مصطلحات فقهية ليس لها واقع فعلي في اللغة، أو تناول أخرى بطريقة عقلية جدلية لا تتصل أيضا باللغة، وهم بذلك قد وضعوا في أصول النحو ما ليس منه، وأهم هذه المسائل التي دخلت أصول النحو أثرا من آثار أصول الفقه ما يأتي:
1 -
بعض المسائل المتصلة بالقياس، والتي ضخم بها هؤلاء بحث القياس دون حاجة داعية إليه في اللغة، حيث أرادوا أن يكون للنحو قياس شبيه بالقياس الفقهي يحدونه بأنه «حمل فرع على أصل بعلة وإجراء حكم الأصل على الفرع» ، أو «إلحاق الفرع بالأصل بجامع» ، أو «حمل غير المنقول على المنقول إذا كان في معناه» أو غير ذلك من الحدود التي تطابق حد القياس الأصولي «1» .
وإذا كان الأصوليون قد حددوا أركان القياس بأربعة أركان هي الأصل والفرع والعلة الجامعة والحكم فقد نقل ابن الأنباري وتبعه السيوطي هذا التحديد إلى القياس النحوي، ومثل ابن الأنباري لهذا القياس قائلا:«وذلك مثل أن تركب قياسا في الدلالة على رفع ما لم يسمّ فاعله فتقول: اسم أسند الفعل إليه مقدما عليه فوجب أن يكون مرفوعا قياسا على الفاعل، فالأصل هو الفاعل والفرع هو ما لم يسمّ فاعله، والعلة الجامعة هي الاسناد والحكم هو الرفع، والأصل في الرفع أن يكون للأصل الذي هو الفاعل، وإنما أجرى على الفرع الذي هو ما لم يسمّ فاعله بالعلة الجامعة التي هي الاسناد، وعلى هذا النحو تركيب قياس كل قياس من أقيسة النحو» «2» ، وقد نقل السيوطي هذا النص عن ابن الأنباري خلال حديثه عن القياس «3» ، ولم يعقب عليه بما يبين أنه نوع مخالف للقياس النحوي الحقيقي الذي تستخرج به الأحكام النحوية، فالواقع أن القياس بهذا المعنى حادث من العرب أنفسهم، ونحن لم نستخرج الحكم النحوي عن طريقه، فالرفع في نائب الفاعل إنما استفدناه عن طريق
(1) ابن الأنباري: لمع الأدلة ص 93، السيوطي: الاقتراح ص 38.
(2)
ابن الأنباري: لمع الأدلة ص 93.
(3)
الاقتراح ص 39.
استقراء المنقول عن العرب إذ استفاض عنهم رفع الاسم مع الفعل المبني للمجهول بصورة تبين أنهم يريدون لهذا الاسم الرفع في كل موضع، فالقياس السابق قياس متكلف مصنوع لا يفيد إثبات الحكم وإنما يحاول تعليل ما جاء عن العرب، فهو ليس إلا ضربا من ضروب التعليل التي تحاول تلمس الحكمة واستخراجها من صور اللغة وأوضاعها.
وبالرغم من أن السيوطي لم يفض في الحديث عن هذا النوع من القياس فإننا نأخذ عليه وضع هذا النقل بين بحثه المستفيض الذي تناول به القياس اللغوي الحقيقي مبينا شروطه وأحكامه.
ومما أدخله السيوطي في القياس اللغوي تأثرا بأصول الفقه وليس له ثمرة عملية تقسيمه القياس إلى أربعة أقسام: «حمل فرع على أصل، وحمل أصل على فرع، وحمل نظير على نظير، وحمل ضد على ضد، وينبغي أن يسمى الأول والثالث قياس المساوي، والثاني قياس الأولى والرابع قياس الأدون» «1» ، وقد مثل له بأمثلة تدلنا على أنه لم يكن ينبغي أن يوضع مع مبحث القياس الحقيقي الذي تستنبط به الأحكام النحوية، وإنما مكانه الفلسفة النحوية التي تحاول تعليل الصور اللغوية وارتباطها بعضها ببعض، حيث يحاول هؤلاء النحاة التدليل على أن اللغة تسير في ذلك مراعية منهجا قياسيا معروفا. فهي ليست غير محاولات لإقامة أشكال قياسية مما هو كائن في اللغة، ولا تفيدنا أحكاما نلحق بها ما لم يسمع بما سمع أو نحو ذلك مما هو شأن القياس النحوي الحقيقي.
واستخراج هذه الأشكال القياسية أشبه ما يكون بصنيع الفقهاء الذين يتلمسون ضروبا من هذه الأقيسة في نصوص الكتاب والسنة، ويستدلون بذلك على حجية استخدام القياس فيما بعد أصلا من أصول التشريع «2» .
2 -
بعض ما يتعلق بالعلل النحوية، ونلاحظ أن دراسة العلل النحوية عند
(1) الاقتراح ص 42.
(2)
ابن القيم: إعلام الموقعين ج 1 ص 114 - 172.
ابن جني وابن الأنباري والسيوطي متأثرة بالعلة الفقهية والعلة الكلامية، وقد طرقوا لذلك نفس الموضوعات التي طرقها الفقهاء من قبلهم، وبدا أن بعض ما يفيضون فيه لا يعبر عن واقع اللغة كحديث ابن الأنباري عن الحكم في محل النص وثبوته: أبالنص أم بالعلة «1» ؟، وقد نقل عنه السيوطي ذلك، بينما لا نرى لهذا المبحث ثمرة عملية في اللغة، وحديث السيوطي عن مسالك العلة «2» ، الذي أفاض في بحثه وترسم فيه خطى الفقهاء، وقد سبقه ابن جني ببحث مستفيض في العلل النحوية.
3 -
اعتبار ابن جني الاجماع دليلا من أدلة النحو، وتابعه السيوطي في ذلك، وقد عده السيوطي الدليل الثاني بعد السماع، وهم يريدون به إجماع نحاة البلدين، وليس هنا برهان واقعي يمكن أن نستند إليه في اعتبار الاجماع حجة في اللغة، وبالرغم من شعور ابن جني والسيوطي بذلك فإنهما تأثرا بالفقه وترسما له قد اعتبراه من أدلة النحو، وزاد السيوطي بأن جعله الدليل الثاني، وخصص له الفصل الثاني من كتابه «3» .
وبالرغم مما شاب كتاب الاقتراح من الخلط بين نوعي القياس، ومن تناول بعض المسائل التي لا تعبر عن الواقع اللغوي السليم، ولا تؤدي إليه فائدة، فإننا نجد فيه كذلك تعبيرا عن المنهج النحوي بحيث يعد أهم الكتب التي تمثل علم أصول النحو في نهاية تدرجه عند القدماء.
وقد تناوله ابن علان بشرح كبير نلاحظ فيه أنه لم يخالف السيوطي في غالب أقواله، بل يدل حديثه أثناء الشرح على إكباره الشديد له، فهو يذكر عن السيوطي أنه «مخض لبان علم العربية حتى أخرج بحسن صنيعه هذه الزيادة فجعلها أصلا لما تفرعت عنه وخرجت منه، وقد تدرك العناية الأخير فينال ما يجبر وصمة التأخير» «4» .
وهو يريد بقوله أن عمله قد فاق به المتقدمين، وأبدع فيه ما لم يبدعوا.
(1) لمع الأدلة ص 121، الاقتراح ص 51.
(2)
الاقتراح ص 58.
(3)
الاقتراح ص 35.
(4)
شرح ابن علان على الاقتراح (مخطوط) ص 5، 6.