الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
الصوفية، فهل كان لانخراطه أثر في منهجه في الرواية تشددا وتحرجا أو تسامحا وتساهلا؟، للإجابة على ذلك لا بد أن نتناول تصوف السيوطي بشيء من الحديث نستجلي به أبعاده ونستوضح به غوامضه.
السيوطي والتصوف:
سبق أن أشرنا إلى أن التصوف في عصر السيوطي كان يتخذ شكل ظاهرة اجتماعية واضحة في البيئة المصرية، وأن تياره كان من القوة بمكان، وقد ساعد على ذلك عوامل متنوعة أهمها وجود المنشآت الصوفية التي سميت بالخوانق أو الزوايا والربط.
نشأ في هذه البيئة، وكان للتصوف أثر كبير في توجيه حياته، فجده الأعلى همام الدين كان من مشايخ الطريق، وكان لوالده ميل إلى التصوف، والكمال بن الهمام أحد الأوصياء عليه كان من المتصوفة وقد ولى مشيخة الشيخونية.
كما أن والد السيوطي قد حمله بعد مولده كما سبق أن رأينا إلى أحد كبار الأولياء ليباركه ويدعو له، وإذا كانت بيئة السيوطي الخاصة التي تتمثل في أسرته والمحيطين به وبيئته العامة التي تتمثل في المجتمع، كلتاهما يجد التصوف فيها منبتا حسنا، فلا عجب أن نشأ السيوطي ميالا منذ صغره إلى سلوك طريق المتصوفة.
ومنذ وقت مبكر نصب السيوطي نفسه للدفاع عن الصوفية ورجالها، وقد رأينا اشتراكه في المعركة حول ابن الفارض وقيامه بنصرته، وإفراده لذلك مؤلفا سماه «قمع المعارض في نصرة ابن الفارض» وقد دافع كذلك عن ابن عربي وأفرد للدفاع عنه مؤلفا سماه «تنبيه الغبي بتبرئة ابن عربي» .
وله مؤلفات أخرى في التصوف تشهد بحبه العميق لطريق المتصوفة ودفاعه عنهم، وقد ولي منذ وقت مبكر من حياته مشيخة التصوف بتربة برقوق، وقد سبق أن رأينا اتجاهه العلمي في التصوف أواخر حياته، إذ اعتزل الناس واعتكف في بيته وتجرد إلى الله، وأكب على العبادة والتأليف.
بيد أن الذي يهمنا الآن من هذا كله هو النظر في الآثار التي تركها في
التصوف، وهل لها دلالات معينة على عقله ومنهجه في التفكير؟.
لقد ترك السيوطي في التصوف عددا لا بأس به من الرسائل، وأفتى ببعض الفتاوى فيه ونرى في فتاواه تعمقه في فهم التصوف ومصطلحاته ومذاهب أهله، كما نرى دفاعه عن رجال التصوف المبرّزين وانتصاره لهم، كذلك نرى دفاعه عما يصدر عن المتصوفة من أفعال ينكرها عليهم أهل الظاهر، ويعد ذلك من الأحوال التي تعرض لهم، وعلى غيرهم أن يسلم بها «1» .
والذي نلاحظه على كتاباته في التصوف حبه العميق للمتصوفة وحسن ظنه بهم، وتساهله في إيراد الأحاديث التي تدعم أقوالهم، ولو كانت هذه الأحاديث تروي غرائب أو أشياء قد ينكرها العقل، ولا يقر بقبولها.
فهو مثلا يكتب رسالة يسميها «المنجلي في تطور الولي» «2» ، يحاول أن يثبت فيها نقلا وعقلا إمكان وجود الولي في أكثر من مكان في الوقت الواحد، ويفيض في الأقوال المثبتة لما يقول وبالرغم من ذلك فإنه في كلامه عن حديث «من أهان لي وليا فقد بارزني بالمحاربة» ، والذي عقد له رسالة سماها «القول الجلي في أحاديث الولي» «3» ، لم يزد على إيراده بأمانة جميع الطرق التي ورد بها الحديث وكلام أصحاب الحديث عن رجال هذه الطرق وتضعيف بعضهم، والحكم على الحديث بالضعف أو بالغرابة، ولم يعلق على ما نقله بشيء، وهذا يدلنا في الحقيقة على أمانته وتحرجه، بيد أنه لميله إلى التصوف يرجح ما يسند أقوالهم، فهو يرجح- مثلا- كون الحسن البصري قد لقي علي بن أبي طالب رضي الله عنه وروى عنه، مع نص ابن حجر وغيره من كبار المحدثين على أنه لم يلقه، وذلك لأن المتصوفة يروون أن عليا قد ألبس الحسن خرقة التصوف، فإثبات عدم اللقاء يهدم قولهم ولذلك كتب السيوطي رسالة سماها «إتحاف الفرقة برفو الخرقة» حاول فيها إثبات رواية الحسن عن علي وبالتالي إثبات الباسه إياه خرقة
(1) انظر الحاوي للفتاوى ج 2 ص 405 وما بعدها، بعض الفتاوى المتعلقة بالتصوف.
(2)
الحاوي ج 1 ص 335.
(3)
الحاوي ج 1 ص 560.
التصوف «1» . ورجح كون الخضر وإلياس عليهما السلام على قيد الحياة، وأجاب عن ذلك بأنه يرتضي القول الذي يذهب إلى أنهما من الأحياء فقال:
والمرتضى قول الحياة فكم له
…
حجج تجل الدهر عن إحصاء
خضر وإلياس بأرض مثل ما
…
عيسى وإدريس بقوا بسماء «2»
بيد أنه يلاحظ عليه التساهل في إيراد الأحاديث التي تدعم ما يذهب إليه الصوفية، وبالرغم من أنه لا يصف طرق هذه الأحاديث بغير ما وصفها به المحدثون فإنه يحاول أن يتلمس أكبر عدد من الطرق التي وردت للحديث الواحد لتقوية ما يورده، ويتضح ذلك فيما أورده عن وجود القطب والأوتاد والنجباء والأبدال، وهو ما اشتهر عند الصوفية، وقد قوبل بالانكار فألف في ذلك رسالة سماها «الخبر الدال على وجود القطب والأوتاد والنجباء والأبدال» «3» ، ذكر فيها جميع الأسانيد التي روى بها الحديث وبالرغم من نصه على أن جميع ما ورد كان مرفوعا أو موقوفا فإنه يميل إلى اعتقاد ما ذكره لكثرة الطرق، وكثير من الأخبار التي أوردها عن التابعين وعن غيرهم في هذا المجال فيها تساهل يجعلنا لا نطمئن إليها.
على أن التساهل في قبول الروايات الذي رأيناه عنده بصدد التصوف في بعض الأحيان قد ظهر لديه في أماكن أخرى حيث أورد كثيرا من الأخبار غير الصحيحة أو الموضوعة ولم ينبه على وضعها، ففي حديثه عن نزول عيسى عليه السلام في آخر الزمان أورد بعض الاسرائيليات التي رواها كعب الأحبار ووهب ابن منبه وأضرابهما ولم ينبه عليها «4» ، وفي الحديث عن أخبار المهدي «5» ، أورد كثيرا من الروايات التي نقلها عن أبي نعيم وغيره، وكثير مما نقله تشهد متونه باستحالة صحته، ومع ذلك لم ينبه إلى حقيقة هذه الأخبار وإنما اكتفى بجمع ما
(1) الرسالة بكتاب الحاوي ج 2 ص 191 وما بعدها.
(2)
الحاوي ج 2 ص 250.
(3)
الرسالة بكتاب الحاوي ج 2 ص 417.
(4)
الاعلام بحكم عيسى عليه السلام، رسالة بالحاوي ج 2 ص 277 وما بعدها.
(5)
العرف الوردي في أخبار المهدي، رسالة بالحاوي ج 2 ص 123 - 166.
يتصل بالمهدي، وبعض هذه الأخبار يبدو عليه مسحة الوضع في العصر العباسي لا سيما الأخبار التي وردت فيها الاشارة إلى الرايات السود التي تخرج من قبل المشرق، وبعض هذه الأخبار يجعل خروج المهدي انتقاما من أهل الشام وظلمهم، وأن المهدي سينتقم منهم، ويعدل بين المسلمين ويتضح من روح هذه الأخبار أنها من الموضوعات زمن الأمويين، وجانب من الأخبار يذكر فيه السفياني الذي يهاجم الكوفة ويطلب أهل خراسان، والمعروف في التاريخ أن السفياني كان أحد الخارجين على الدولة العباسية، إلى كثير من الأخبار التي تمتزج بأحداث التاريخ المتعاقبة التي مرت بالأمة الاسلامية والتي يتضح فيها أنها لم تخل من حشو كثير وتزيد، كما أن بعضها تقطع ببطلانه ووضعه، كذلك فإن من الضعيف أو الموضوع الذي قبله السيوطي الأحاديث التي تتصل بعمر الدنيا، وأنه سبعة آلاف سنة «1» ، على أن قبوله لبعض هذه الأحاديث كان نتيجة لما شاع في عصره من اعتماد الناس على حديث باطل هو أن النبي صلى الله عليه وسلم لا يمكث في قبره ألف سنة، وقد بين السيوطي بطلان هذا الحديث، وبين أن مقدمات الساعة وأشراطها وما ورد في ذلك من آثار تقضي بمجاوزة الأمة الألف، وذكر أن الأمة لن تجاوز بعد الألف خمسمائة عام، وقد كان غير موفق في هذا التقدير لأن أشراط الساعة من خروج الدجال والمهدي وغيره تستلزم أكثر من مائتي عام- كما نص على ذلك- وهذا ما لم يحدث إلى الآن، والحق أنه كان عليه أن يتوقف في مثل هذا الموضوع وأن يبتعد عن التقدير في مثل هذه الغيبيات «2» .
ومن قبيل ما ذكرناه جملة كثيرة من الأحاديث التي ساقها في كتابه «الخصائص الكبرى» أو «كفاية الطالب اللبيب في خصائص الحبيب» فقد تساهل في إيراد وقبول كثير من الآثار في سيرة النبي صلى الله عليه وسلم وأورد كثيرا مما نص أئمة الحديث على وضعه وبطلانه. نخلص من ذلك إلى أن السيوطي برغم معرفته التامة بالحديث وعلومه ونقده فإنه كان يميل إلى التساهل في قبول المرويات التي تتصل بالتصوف والمسائل الغيبية، والأمور المستقبلية وقد كان هذا التساهل ناتجا عن انخراطه في
(1) الحاوي للفتاوى ج 2 ص 168 - 171.
(2)
الكشف عن مجاوزة هذه الأمة الألف، رسالة بالحاوي ج 2 ص 166.