الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
ابتدأ السيوطي موشحه النحوي بقوله:
إلى اله الأنام من نحلا
…
أفضاله كلّ آمل أملا أرغب
ثم صلى على نبيه وبين فضل علم النحو، وشرع في حد الكلام بقوله:
فحدنا للكلام قد نقلا
…
قصد مفيد للقصد قد شملا كاشرب
ثم تتبع في عجل المعرب والمبني والنكرة والمعرفة ثم تناول المرفوعات فالمنصوبات فالمجرورات فالمجزومات، ثم تحدث عن التوابع بنفس الايجاز الذي اتبعه في المتن السابق، بيد أنه هنا يتحدث عن المجزومات أكثر تفصيلا من حديثه في متن الشمعة، وهنا يحتم عليه النظم والايجاز الشديد أن يعرض لمعالم الموضوعات دون تفصيل كبير، كما يبدو نظمه غير مبين للمعنى في نفسه في بعض الأحيان.
تلك أهم مؤلفات السيوطي في النحو ويتضح منها الجهد العظيم الذي أسداه إلى هذا العلم والمقدرة الفائقة على تمثل مسائله وتصنيفها ودراستها، كما توضح موقفه من المدارس النحوية السابقة ومن النحاة السابقين.
وإذا كان النحو يعني بربط مسائله بالحياة العامة من نواحيها المختلفة حيث يستفيد منه المشرع والفقيه والمتناول للنصوص وكاتب الديوان، وقد اتضحت بعض مظاهر هذا المفهوم في مؤلفات السيوطي السابقة، فإن له مجموعة من الآثار تمثل هذا المفهوم، أي دراسة النصوص نحويا أو بعبارة أخرى العناية بالجانب التطبيقي في دراسة النحو، وتتمثل في إبراز وظيفة النحو في فهم النصوص باعتباره عنصرا من أهم عناصر المعنى الكلي، وهذه الآثار تتمثل في
الفتاوى النحوية
التي أفتاها، وفي ثلاث رسائل أوردها بكتاب الحاوي.
الفتاوى النحوية:
والفتاوى النحوية تطلعنا على تقدير السيوطي وأهل عصره لوظيفة النحو وأهميته في فهم النصوص أو ما يمكن أن نطلق عليه وصل النحو بالحياة، فهي مجموعة من الأسئلة التي وردت إلى السيوطي نثرا أو نظما وأجاب عنها معللا
أجوبته بعلل مقنعة وهي تنيف على عشرين مسألة «1» ، توضح عناية السيوطي بدراسة النصوص وتوجيهها نحويا بحيث يتفق الإعراب أو التحليل النحوي للنصوص مع المعنى السياقي الذي يفهم من عناصر وقرائن متعدّدة، وكأنه ينبه على أهمية السياق في توجيه الإعراب حتى لا يكون التحليل الخاطئ سببا في توجيه خاطئ للمعنى.
فمنها أحاديث طلب إليه ضبط نصوصها فضبطها ووجه ضبطه، أو طلب إليه إعرابها وتوجيه قوله، فقد سئل- مثلا- عن «الجنة» في قوله صلى الله عليه وسلم:«من شهد أن لا إله إلا الله وأن محمدا رسول الله والجنة حق والنار حق» ، هل الجنة بالرفع أو النصب؟ فأجاب بأنه «بالنصب لا يجوز غيره لأنه الذي يستقيم به المعنى ولا ينافي هذا قول النحاة: يجوز الرفع بعد استكمال الخبر لأنه حيث جاز أن يكون مستأنفا، والاستئناف هنا يخل بالمعنى إذ يصير المراد الإخبار بأن الجنة حق، وليس مرادا، وإنما المراد إدخاله في المشهود به فتعين النصب» «2» .
ومن هذه المسائل أبيات من منظومات علمية في العروض، أو نصوص من كتب فقهية أو نصوص شعرية أو نصوص من خطب أو أقوال تفوه بها بعض أهل العلم في عصره. ولم تقتصر فتاواه على الناحية الاعرابية بل تناولت بنية الألفاظ وبعض المسائل الأخرى.
ونلاحظ على إجابات السيوطي أنها أجوبة قاطعة- في الغالب- يقطع فيها بصحة رأي واحد ويعلل مذهبه تعليلا واضحا محكما يعتمد أولا على المعنى ويضع في الاعتبار الأصول النحوية، ولا يغرب في تعليلاته، ويحاول وضع قواعد دقيقة للنظر في النصوص وتوجيهها، حيث ينبغي أن يكون الإعراب مناسبا للمعنى الذي يفهم من عناصر وقرائن متعدّدة، فالإعراب أحد عناصر الوصول إلى المعنى وليس هو جميع العناصر.
وتبين لنا هذه الفتاوى بعض معالم مذهب السيوطي النحوي، وقد تبينت في
(1) الحاوي للفتاوى ج 2 ص 461 - 475.
(2)
الحاوي للفتاوى ج 2 ص 461.
إحداها موقفه من الاحتجاج بالحديث في اللغة، والمعروف أن النحاة الأقدمين لم يستشهدوا بالحديث نظرا لوفرة المادّة اللغوية التي انصرفوا إليها ومنها البادية التي كانت معينا لا ينضب من اللغة المنطوقة الفصيحة إلى منتصف القرن الرابع الهجري، أما المتأخرون من النحاة فتنوعت مواقفهم، فمنهم من يجيز الاحتجاج مطلقا كابن مالك، ومنهم من يمنعه مطلقا كأبي حيان، ومنهم من يتوسط بين المذهبين كالشاطبي فيقيد الاحتجاج بأحاديث لها شروط معينة تضمن سلامتها.
وقد وقف السيوطي موقفا وسطا يبدو منه أنه يبيح الاحتجاج بالحديث في نفس الوقت الذي يضع فيه اعتبارا لما حدث لبعض الأحاديث من تحريف من قبل الرواة يجعلها غير مقبولة في الاحتجاج، فقد أجاب عن حديث:«كما تكونوا يولي عليكم» حيث سئل عن حذف النون دون ناصب أو جازم بتخريجه على ثلاثة أوجه: «أحدها أنه على لغة من يحذف النون دون ناصب وجازم كقول الشاعر:
أبيت أسري وتبيتي تدلكي، وخرج على هذه اللغة من الحديث قوله صلى الله عليه وسلم:
«لا تدخلوا الجنة حتى تؤمنوا، ولا تؤمنوا حتى تحابوا» ، الثاني: وهو رأي الكوفيين والمبرد أنه منصوب أورده شاهدا على مذهبهم أن «كما» تنصب وعدوها من نواصب المضارع وهو مذهب ضعيف، والثالث: أنه من تغيير الرواة» «1» .
وإذا كان السيوطي هنا يتردد بين تأويل هذا الحديث وتوجيهه وبين نفي صحة عربيته فهذا يعني أنه لا يحتج بالأحاديث مطلقا وإنما يقف فيها موقفا وسطا، ولو كان ممن يحتجون بها مطلقا لاكتفى بذكر الوجهين الأول والثاني أو بأحدهما، فالنحاة إنما يتأولون من النصوص ما هو معتمد عندهم في الاحتجاج.
ونستطيع أن نلمح مظاهر الاتساق في مذهب السيوطي النحوي من اتفاق أقواله وتعاضدها في كتبه المتنوعة، وفي إحدى هذه الفتاوى ينتقد تعريف اللفظ بأنه «الصوت المشتمل على بعض الحروف» لأنه تعريف غير جامع يخرج عنه الحرف الواحد كواو العطف وفائه وباء الجر ولامه، والأحسن تعريف اللفظ بأنه
(1) الحاوي للفتاوى ج 2 ص 470.