الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
(نفي التهيؤ للفعل أبلغ من نفي الفعل)
ويفيد هذا التركيب معنى زائداً على نفى مجرد الفعل وهو نفي التهيؤ للفعل المنفي عنه وإرادته والصلاحية له، بمعنى أن النفي عنه ما في الجملة من معنى منفي عنه أيضاً إرادة ذلك الفعل والتهيؤ والاستعداد والصلاحية له كما أوضح ذلك أبو حيان في البحر، وابن هشام في المغني، وصاحب النحو الوافي وغيرهم.
ولا شك أن " نفي التهيئة والإرادة للفعل أبلغ من نفي الفعل، لأن نفي الفعل لا يستلزم نفي إرادته، ونفي التهيئة والصلاح والإرادة للفعل تستلزم نفي الفعل، فلذلك كان النفي مع لام الجحود أبلغ.
وعلى هذا يكون معنى الآية الكريمة: ما كان من شَأن النبي صلى الله عليه وسلم من حيث هو نبي، وما كان شأن المؤمنين من حيث هم مؤمنون أن يدعوا للمشركين بالمغفرة، ولا أن يطلبوا من الله لهم الرحمة (مِنْ بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُمْ أَنَّهُمْ أَصْحَابُ الْجَحِيمِ) لأن النبوة تنافي العطف على الشرك، والإيمان من حيث هو إيمان يمنع المؤمنين من ذلك، ولو دعتهم رقة القرابة وشفقة الرحم، ووشائج الدم إلى العطف والحنو عليهم، وحب المغفرة لهم.
فالآية على هذا الوجه لا تدل على وقوع الاستغفار بل تدل على نفيه، فهي تبرئة وتنزيه للنبي صلى الله عليه وسلم والمؤمنين عن أن يقع منه أو منهم ذلك حسبما يدل عليه هذا الأسلوب.
وتذييل الآية الكريمة بقوله (مِنْ بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُمْ أَنَّهُمْ أَصْحَابُ الْجَحِيمِ) تعليل لنفى الاستغفار للمشركين، وبيان لسبب عدم صدوره من النبي صلى الله عليه وسلم والمؤمنين، لأنَّهم يعلمون أن الله تعالى لا يغفر أن يشرك به فلا يسألون " ربهم ما قد علموا أنه لا يفعله ".
ويؤيد هذا الفهم قوله تعالى: (لَا تَجِدُ قَوْمًا يُؤْمِنُونَ بِاللهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ يُوَادُّونَ مَنْ حَادَّ اللهَ وَرَسُولَهُ وَلَوْ كَانُوا آبَاءَهُمْ أَوْ أَبْنَاءَهُمْ أَوْ إِخْوَانَهُمْ أَوْ عَشِيرَتَهُمْ. . . .).
ولا يعكر على هذا الفهم ما ورد من استغفار إبراهيم لأبيه في قوله تعالى: (وَمَا كَانَ اسْتِغْفَارُ إِبْرَاهِيمَ لِأَبِيهِ إِلَّا عَنْ مَوْعِدَةٍ وَعَدَهَا إِيَّاهُ فَلَمَّا تَبَيَّنَ لَهُ أَنَّهُ عَدُوٌّ لله تَبَرَّأَ مِنْهُ) لأن استغفاره له كان قبل التبين، فلما تبين له أنه من أصحاب الجحيم أمسك عنه لأنه ليس من شأن النبي أن يستغفر للمشركين الذين هم من أصحاب الجحيم.
وتبين أصحاب الجحيم يكون إما بموتهم على شركهم وكفرهم بالله وإما بنزول الوحي فيهم يدمغهم بأنهم من أصحاب النار خالدين فيها كما نزل في أبي لهب وغيره، أو بإخباره تعالى بأنهم طبع على قلوبهم.
.
أما الوجه الثاني من وجهي استعمال هذا الأسلوب في القرآن الكريم فهو متضمن لمعنى النهي كقوله تعالى: (وَمَا كَانَ لَكُمْ أَنْ تُؤْذُوا رَسُولَ اللهِ).
وقد جعل منه بعض العلماء آية بحثنا هذا وأمثالها من نحو قوله تعالى (مَا كَانَ لِنَبِيٍّ أَنْ يَكُونَ لَهُ أَسْرَى).
وعلى هذا الوجه يكون معناها: النهي عن الاستغفار للمشركين، أي: لا تستغفروا للمشركين ولو كانوا أولى قربى من بعد ما تبين لكم أنهم من أصحاب الجحيم.
فالآية على هذا الوجه واردة على أمر اقتضاها، وهي من آيات العتاب.
والذي دعا هؤلاء العلماء إلى حمل هذه الآية الكريمة على هذا الوجه -دون الوجه الأول، وبه كانت من آيات العتاب- ورود أحاديث في صحيحي البخاري ومسلم تذكر أن سبب نزولها عرض رسول الله صلى الله عليه وسلم الإيمان على عمه أبي طالب في مرضه الذي مات فيه إذ دخل عليه رسول الله صلى الله عليه وسلم وعنده أبو جهل، وعبد الله بن أبي أمية المغيرة فقال:" أي عم قل لا إله إلا الله كلمة أحاج لك بها عند الله " فقال أبو جهل وعبد الله
ابن أبي أمية: " أترغب عن ملة عبد المطلب؟ " فلم يزل رسول الله صلى الله عليه وسلم يعرضها عليه ويعيدانه بتلك المقالة حتى قال أبو طالب آخر ما كلمهم: " على ملة عبد المطلب ". وأبى أن يقول لا إله إلا الله. قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم " والله لأستغفرن لك ما لم أنْهَ عنك " فأنزل الله عز وجل (مَا كَانَ لِلنَّبِيِّ وَالَّذِينَ آمَنُوا أَنْ يَسْتَغْفِرُوا لِلْمُشْرِكِينَ).
فهل يدل قول النبي صلى الله عليه وسلم: " لأستغفرن لك ما لم أنْهَ عنك " على وقوع الاستغفار منه لأبي طالب فعلا؟ أو يدل على وعد منه بالاستغفار له فنزلت الآية نهياً عن الاستغفار أو الوعد به؟.
فالآية على هذا مكية نزلت عند موت أبي طالب كما يدل عليه أصل استعمال الفاء في التعقيب والترتيب بغير مهملة، ولهذا لا وجه للقول " بتقدم السبب وتأخير النزول " إلى أواخر العهد بالمدينة حملاً للفاء على السببية كما ذهب إلبه بعض من أهل العلم، لما بينا من أصل استعمال الفاء، ولأن الرابط بين السبب والمسبب أمر عقلي لا يمكن أن يتأخر المسبب فيه عن السبب زمناً طويلاً كما يقولون، وقد يكون الربط عادياً فيتخلف المسبب عن السبب.
فعلى حمل معنى الآية على الوجه الأول من معنيي هذا الأسلوب- وهو النفى والتبرئة والتنزيه لرسول الله صلى الله عليه وسلم أن يكون وقع منه استغفار لأبي طالب- فلا عتاب فيها لسيدنا رسول الله صلى الله عليه وسلم، ويكون قوله " لأستغفرن