الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
أن تعيرني قريش يقولون: إنما حمله على ذلك الجزع. لأقررت بها عينك ".
وذهب بعض العلماء إلى أن هذه الآية نزلت في نهي المؤمنين عن استغفارهم لآبائهم المشركين، واستدلوا لذلك بما رواه الترمذي وحسنه والإمام أحمد في مسنده -ونقله ابن كثير في تفسيره في المسند، ولم يعقب عليه بشيء- عن علي رضي الله عنه قال: " سمعت رجلاً يستغفر لأبويه وهما مشركان فقلت له: أتستغفر لأبويك وهما مشركان؟ فقال: أو ليس استغفر إبراهيم لأبيه وهو مشرك فذكرت ذلك للنبي صلى الله عليه وسلم فنزلت (مَا كَانَ لِلنَّبِيِّ وَالَّذِينَ آمَنُوا أَنْ يَسْتَغْفِرُوا لِلْمُشْرِكِينَ).
فهذا الحديث صريح في أن هذه الآية نزلت لنهي المؤمنين عن الاستغفار لآبائهم المشركين، وإنما ذكر النبي صلى الله عليه وسلم في صدر الآية باعتباره صلى الله عليه وسلم المتلقي للوحي المبين لأحكامه.
* * *
(إيجاب تعليق عموم الأعمال على مشيئة الله)
ومما ينتظم في هذا النوع من العتاب قوله تعالى (وَلَا تَقُولَنَّ لِشَيْءٍ إِنِّي فَاعِلٌ ذَلِكَ غَدًا (23) إِلَّا أَنْ يَشَاءَ اللهُ وَاذْكُرْ رَبَّكَ إِذَا نَسِيتَ وَقُلْ عَسَى أَنْ يَهْدِيَنِ رَبِّي لِأَقْرَبَ مِنْ هَذَا رَشَدًا (24)).
وقد نزلت هاتان الآيتان في قصة تقول: إن النبي صلى الله عليه وسلم قد سئل من بعض شياطين قريش بإيعاز من أحبار اليهود بالمدينة عن ثلاثة أشياء: عن فتية ذهبوا في الدهر الأول ما كان من أمرهم؟ فإنه قد كان لهم حديث عجيب. وعن رجل طواف بلغ مشارق الأرض ومغاربها ما كان نبؤه؟ وعن الروح ما هو؟ فقال هم رسول الله صلى الله عليه وسلم " أخبركم غداً بما سألتم عنه " ولم يستثن فاحتبس عنه الوحي أياماً قيل إنها أربعون يوماً، وقيل إنها خمسة عشر يوماً، وقيل إنها ثلاثة أيام.
وهذا الأخير هو الأقرب إلى المعقول، فحزن رسول الله صلى الله عليه وسلم لإبطاء الوحي عليه وشق عليه ما يتكلم به أهل مكة.
" فأتاه جبرائيل فقال: اشتد عليك احتباسنا عنك، وتكلم في ذلك المشركون، وإنما أنا عبد الله ورسوله، إذا أمرني بأمر أطعته (وَمَا نَتَنَزَّلُ إِلَّا بِأَمْرِ رَبِّكَ).
قال بعض المفسرين: في الآيتين عتاب لرسول الله صلى الله عليه وسلم على ترك الاستثناء أي لتركه قول " إن شاء الله ".
وعبر بعضهم عن العتاب بالتأديب، ولفظ العتاب أحسن وأليق بموضعه، وقد أبدع الحافظ ابن كثير - رحمه الله تعالى - في التعبير عن هذا فقال:" هذا إرشاد من الله تعالى لرسول الله صلى الله عليه وسلم إلى الأدب فيما إذا عزم على شيء ليفعله في المستقبل أن يرد ذلك إلى مشيئة الله عز وجل علام الغيوب الذي يعلم ما كان وما يكون وما لم يكن لو كان كيف يكون ".
وكيفما يكن الأمر من العتاب أو التأديب أو التعليم والإرشاد، فإن النظر في الآيتين يكون أولاً في تركيبهما، وموضع الاستثناء من الآية الأولى وبأي ألفاظها يرتبط، وثانياً في بيان ما فيها من عتاب ووجهه، وثالثاً في بيان كون هذا العتاب من عتاب التنبيه وهو النوع الثاني من أنواع العتاب فيما ذهبنا إليه من تنويع.
وقد اختلف في تعلق الاستثناء في الآية الثانية وارتباطه بالآية الأولى.
فقيل إن الاستثناء مرتبط بالنهي لا بقوله " إني فاعل ذلك " لأن تعلقه بقوله " إني فاعل " يجعل المعنى: إني فاعل كذا إلا أن تمنعني مشيئة الله من الفعل.
وهذا المعنى لا مدخل له في النهي، والنهي هو المقصود في الآية لورردها من أجله.
وارتباط الاستثناء بالنهي محتمل لوجهين:
الوجه الأول: يصير المعنى به: " ولا تقولن ذلك القول إلا أن يشاء الله أن تقول بأن يأذن لك فيه ".
وهذا معنى صحيح في ذاته ولكنه غير مراد هنا، لأن المراد هنا النهي عن القول إلا مرتبطاً بقوله " إن شاء الله " وهو الوجه الثاني في الاحتمال، إذ المراد في هذا الوجه الثاني: ولا تقولن قولاً تعد فيه أحداً بوعد أو تعزم على فعل شيء في المستقبل إلا أن تربط وعدك أو عزمك على الفعل بقولك " إن شاء الله ".
هذا ملخص كلام الزمخشري في المراد بتركيب الآيتين، وقد أوضح الوجه المراد هنا فيهما الناصر ابن المنير في انتصافه على الكشاف فقال:" .. إنما الغرض النهي عن هذا القول إلا مقروناً بقول المشيئة " أي بقول " إن شاء الله ".
وعبارة القاسمي -في تفسيره- أوضح هنا في بيان المراد من عبارة ابن المنير حيث قال: " ولا تقولن لما عزمت عليه من فعل إني فاعل ذلك غداً إلا قائلاً معه: إن شاء الله ".
وقد نهي عليه الصلاة والسلام عن أن يقول قولاً إلا مقرناً بقوله (إن شاء الله " تعليماً له صلى الله عليه وسلم وتشريعاً لأمته كلها في مستقبل حياتها حتى يتحقق كل قائل لقول أو فاعل لفعل يفعله في مستقبل الأيام بأن قوله أو فعله
لا يقع إلا بمشيئة الله تعالى على حد قوله عز وجل (وَمَا تَشَاءُونَ إِلَّا أَنْ يَشَاءَ اللهُ).
فالآيتان على هذا تعليم لرسول الله صلى الله عليه وسلم -ولأمته عامة- لما ينبغي له التزامه حين يسأل عن أمر، يعلمه ألا يعد بالجواب أحداً وألا يقول بأنه سيفعل كذا غداً " إلا أن يصله بمشيئة الله تعالى لأنه لا يكون شيء إلا بمشيئته " ابتعاداً عما يظن بذلك من لزوم التحكم على الله تعالى وتبرؤا مما يشعر أنه قام بالفعل بإرادته ".
قال ابن كثير في اعتراض هاتين الآيتين وسط قصة أصحاب الكهف " واعترض في الوسط بتعليمه الاستثناء تحقيقاً لا تعليقاً ".
وهذا هو الأوجه بمعنى الآيتين الكريمتين، لأنه رد للمشيئة إلى الله تعالى وحده، وإبعاد للمسلم عن الكذب فيما لو لم يتمكن من الوفاء بوعده أو القيام بما عزم عليه من فعل لعارض من عوارض الدنيا اعترضه أو لموت أصابه، لأنه (وَمَا تَدْرِي نَفْسٌ مَاذَا تَكْسِبُ غَدًا).