الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
فقدم الله تعالى إلى رسوله الكريم التعزية والتسلية على حزنه البالغ الذي لم يبق في نفس النبي صلى الله عليه وسلم أثراً في الأمل فيهم والرجاء في إيمانهم فقال له (قَدْ نَعْلَمُ إِنَّهُ لَيَحْزُنُكَ الَّذِي يَقُولُونَ فَإِنَّهُمْ لَا يُكَذِّبُونَكَ وَلَكِنَّ الظَّالِمِينَ بِآيَاتِ اللهِ يَجْحَدُونَ (33) وَلَقَدْ كُذِّبَتْ رُسُلٌ مِنْ قَبْلِكَ فَصَبَرُوا عَلَى مَا كُذِّبُوا وَأُوذُوا حَتَّى أَتَاهُمْ نَصْرُنَا وَلَا مُبَدِّلَ لِكَلِمَاتِ اللهِ وَلَقَدْ جَاءَكَ مِنْ نَبَإِ الْمُرْسَلِينَ (34)).
وهاتان الآيتان تضمنتا أموراً:
أولاً - إخبار الله تعالى لنبيه صلى الله عليه وسلم أنه علم ما يحزنه علماً أكده بحرف التحقيق الذي يفيد أن هذا العلم محقق ثابت وبدخول اللام على خبر إن المؤكدة، وإبهام ما يحزنه في الإتيان بصلة الموصول مبهمة غير مفسرة (يقولون).
* * *
(تسلية رسول الله صلى الله عليه وسلم عما يلقاه من أذى المشركين)
ثانياً - إخباره سبحانه وتعالى رسوله بأن تكذيب هؤلاء المشركين لم يكن قط موجهاً لذاته الشريفة صلى الله عليه وسلم بقوله (فَإِنَّهُمْ لَا يُكَذِّبُونَكَ) وفِى هذا تلطف برسول الله صلى الله عليه وسلم وتلميح إلا ما كان عليه صلى الله عليه وسلم من الصدق والأمانة ومكارم الأخلاق ورفيع الشمائل التي يعترف بها هؤلاء المشركون رغم ما يكنونه لدعوته من عداء فهذا تنزيه لذاته صلى الله عليه وسلم وتبرئة لساحته أن يتوجه إليها الكذب.
وقد روى الترمذي والحاكم والطبري عن علي رضي الله عنه: " أن أبا جهل قال للنبي صلى الله عليه وسلم: إنا لا نكذبك ولكن نكذب بما جئت به " فأنزل الله تعالى (فَإِنَّهُمْ لَا يُكَذِّبُونَكَ وَلَكِنَّ الظَّالِمِينَ بِآيَاتِ اللهِ يَجْحَدُونَ).
ثالثاً - بيان أن سبب عناد هؤلاء المشركين وتعنتهم بطلب الآيات من رسول الله صلى الله عليه وسلم إنما هو جحدهم آيات الله، وهذا كأنه موجه إلى الله سبحانه وتعالى فكأن الله تعالى قال له: إن هذا التكذيب موجه إليَّ في آياتي ولم يوجه إليك في دعوتك وصدق رسالتك.
ثم سلك الله تعالى بنبيه صلى الله عليه وسلم مسلكاًْ آخر في التلطف والتعزية ليستل من قلبه الطاهر كل أثر للحزن على عدم إيمان هؤلاء المشركين وهو مسلك التأسي بإخوانه الأنبياء والمرسلين وبيان أن ذلك العناد والتعنت من الكفرة والمشركين سبيل الأمم قبله وقبل أمته، وأن التذرع بالصبر والاحتمال سبيل حملة رسالات الله تعالى فقال له (وَلَقَدْ كُذِّبَتْ رُسُلٌ مِنْ قَبْلِكَ فَصَبَرُوا عَلَى مَا كُذِّبُوا وَأُوذُوا حَتَّى أَتَاهُمْ نَصْرُنَا وَلَا مُبَدِّلَ لِكَلِمَاتِ اللهِ وَلَقَدْ جَاءَكَ مِنْ نَبَإِ الْمُرْسَلِينَ (34)). وهو بأسلوب التأكيد المفتتح بلام القسم وحرف التحقيق ليبين له أن شأن الرسل من جميع من تقدمك منهم أن يكذبوا وشأن الأمم عامة أن تقابل رسالات الله بالكفر والجحود وإيذاء حملة رسالات الله الذين يدعونهم إلى الجنة وهم لا يريدون إلا النار إلا من عصم الله، وأن عاقبة هذا الصبر والاحتمال على التكذيب والجحود هي تنزل
نصر الله تعالى على أنبيائه ورسله وأخذ الظالمين الجاحدين بانتقامه وبطشه الشديد.
وفي إبهام الفاعل في قوله (وَلَقَدْ كُذِّبَتْ رُسُلٌ مِنْ قَبْلِكَ) والتصريح بالمكذَّبين -بفتح الذال المشددة- من الرسل إعظام لرسل الله ورسالاته وتحقير لمن كذبهم وجحد آيات الله التي جاءوا بها لهدايتهم.
وقد بيّن الله سبحانه وتعالى أن هذا سنة من سننه التي لا تتبدل ولا تتغير وأن نصره آتٍ لا يتخلف فقال (وَلَا مُبَدِّلَ لِكَلِمَاتِ اللهِ) وكلمات الله هي الآيات التي أنزلها على رسله ووعدهم النصر فيها كقوله تعالى: (كَتَبَ اللهُ لَأَغْلِبَنَّ أَنَا وَرُسُلِي). وقوله تعالى: (وَلَقَدْ سَبَقَتْ كَلِمَتُنَا لِعِبَادِنَا الْمُرْسَلِينَ (171) إِنَّهُمْ لَهُمُ الْمَنْصُورُونَ (172) وَإِنَّ جُنْدَنَا لَهُمُ الْغَالِبُونَ (173)). وقوله (إِنَّا لَنَنْصُرُ رُسُلَنَا وَالَّذِينَ آمَنُوا فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَيَوْمَ يَقُومُ الْأَشْهَادُ (51)). وهذا سنة من سنن الله تعالى في خلقه.
ثم أخبر الله رسوله صلى الله عليه وسلم بأسلوب التأكيد الموثق بأن هذا مما أخبره الله به فقال له (وَلَقَدْ جَاءَكَ مِنْ نَبَإِ الْمُرْسَلِينَ).
فلما بلغت التسلية لرسول الله صلى الله عليه وسلم مبلغها -وكان ما طبع عليه رسول الله صلى الله عليه وسلم من الرأفة والرحمة وحب إيمان قومه وحرصه الشديد عليهم أن يجنبهم انتقام الله وبأس عذابه- وجه الله تعالى الخطاب إلى رسوله عليه
الصلاة والسلام في نوع من الحسم ليفصم عرى هذا الحرص ويقطع رجاء رسوله في هؤلاء المتعنتين وبيانه: أنه لا أمل في إيمانهم لأن الإيمان إنما يتعلق بمشيئة الله تعالى وإرادته ولو شاء الله هدايتهم لهداهم أجمعين - فقال (وَإِنْ كَانَ كَبُرَ عَلَيْكَ إِعْرَاضُهُمْ فَإِنِ اسْتَطَعْتَ أَنْ تَبْتَغِيَ نَفَقًا فِي الْأَرْضِ أَوْ سُلَّمًا فِي السَّمَاءِ فَتَأْتِيَهُمْ بِآيَةٍ وَلَوْ شَاءَ اللهُ لَجَمَعَهُمْ عَلَى الْهُدَى فَلَا تَكُونَنَّ مِنَ الْجَاهِلِينَ (35)). أي أنك قد استنفدت كل طرائق موجبات دلائل الإيمان وآتيتهم من الآيات ما فية الغنية عن طلب المزيد وتحقق لهم أنك صادق فيما جئتهم به من عند ربك ومع ذلك لم يؤمنوا مكابرة وإعناتاً واستهزاء ولم يبق إلا أن تأتيهم بالمستحيلات وما ليس فِي استطاعتك الإتيان به فقد شق عليك إعراضهم وعظم عليك صدودهم عن الإيمان وبلغ بك الحرص على إيمانهم إلى أن لو استطعت أن تدخل سرباً في الأرض أو ترقى سلماً في السماء فتأتيهم بما اقترحوا من الآيات توصلاً إلى إيمانهم وتطلعاً إلى نجاتهم من عذاب الله بدخولهم حظيرة الإيمان لفعلت ذلك.
ولكنهم بما طبعوا عليه من سوء الاستعداد لقبول الإيمان لن يؤمنوا ولو فعلت معهم ما تستطيع وما لا تستطيع، فتخفف من الحزن عليهم إذ لو شاء الله هدايتهم واستقامتهم على الدين لوفقهم لذلك بلطفه ورحمته ولكنه لم يشأ لهم ذلك بعدله وسابق علمه بحالهم فلا تذهب نفسك عليهم حسرات، ولا تكن في رجائك إيمانهم -بعد ما تضافرت لك البراهين على عتوهم وإصرارهم على الكفر- ممن يغفل عن واقعهم ويطمع في إيمانهم لأن هذا شأن الجاهلين الذين ينساقون مع عواطف الرحمة والشفقة فيطمعون في غير مطمع، وهذا ليس من شأنك ولا مما يتعلق برسالتك.