الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
(التحليل والتحريم خاص بالله)
فإذا ما حرم الله تعالى شيئاً فليس لأحد من كان أن يحله، لأن التحريم حكم الله تعالى وشرعه لعباده، وهو العليم بخفايا الأشياء والأفعال ومضارها، فيحرم منها ما يشاء، ويحل منها ما يشاء، فإذا أحل الله شيئاً فلا محرم له من بعده وإذا حرم شيئاً فلا محل له من بعده.
ومن ذلك يعلم أن النبي صلى الله عليه وسلم لم يحرم على نفسه شيئاً تحريماً شرعياً مما كان الله تعالى قد أحله له، لأنه صلى الله عليه وسلم لا يملك ذلك ولا يخالف لله تعالى أمراً ولا نهياً لعصمة الله تعالى له من ذاك كله.
فلم يبق إلا أن يتوجه التحريم المخاطب به النبي صلى الله عليه وسلم في هذه الآية إلى المعنى اللغوي -وهو الامتناع كما قال به حذاق المفسرين- إذ هو الأصل أولاً، ولامتناع صدور المعنى الشرعي منه صلى الله عليه وسلم في المراد بالتحريم في هذه الآية ثانياً.
* * *
(ما يدل عليه تصدير الآية بندائه بوصف النبوة)
فيكون معنى الآية على هذا -وقد صدرت بندائه صلى الله عليه وسلم، بوصف النبوة تشريفاً لمكانه وتعظيماً لمقامه- يا أيها النبي لم تمنع نفسك وتحرمها من الاستمتاع بما أحله الله لك مما لك فيه رغبة ومتعة ونفع بما يشق عليك من حرمان نفسك حقها مما أحللناه لك من متعة الحياة وزهرتها.
أما ما حرمه النبي صلى الله عليه وسلم على نفسه فمنعها منه فجمهور المفسرين على أنه سريته مارية القبطية أم ولده إبراهيم عليه السلام.
وهو ما صدر به ابن كثير تفسيره لهذه الآية الكريمة، واستدل بما رواه النسائي عن أنس رضي الله عنه: " أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كانت له أمة يطؤها فلم تزل به عائشة وحفصة حتى حرمها على نفسه فأنزل الله (يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ لِمَ تُحَرِّمُ مَا أَحَلَّ اللهُ لَكَ تَبْتَغِي مَرْضَاتَ أَزْوَاجِكَ وَاللهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ (1)).
وقد أورده الحافظ ابن حجر -في الفتح- فقال: " وقد أخرج النسائي بسند صحيح - فذكره ثم قال: وهذا أصح طرق هذا السبب وله شاهد مرسل أخرجه الطبري بسند صحيح عن زيد بن أسلم التابعي الشهير قال: أصاب رسول الله صلى الله عليه وسلم أم إبراهيم ولده في بيت بعض نسائه فقالت: يا رسول الله في بيتي وعلى فراشي، فجعلها عليه حراماً. فقالت: يا رسول الله كيف تحرم عليك الحلال؟ فحلف لها بالله لا يصيبها فنزلت (يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ لِمَ تُحَرِّمُ مَا أَحَلَّ اللهُ لَكَ).
ثم ساق ابن كثير تعزيزاً لهذا الرأي قول زيد بن أسلم نقلاً عن الطبري -كما نقله عنه الحافظ ابن حجر حسبما ذكرناه آنفاً- وعزز بما أخرجه الهيثم بن كليب في مسنده بسنده إلى عمر بن الخطاب رضي الله عنه قال: قال النبي صلى الله عليه وسلم لحفصة: " لا تخبري أحداً وإن أُم إبراهيم عليَّ حرام " فقالت: أتحرم ما أحل الله لك؟ قال: " فوالله لا أقربها " قال:
فلم يقربها حتى أخبرت عائشة ". قال فأنزل الله تعالى: (قَدْ فَرَضَ اللهُ لَكُمْ تَحِلَّةَ أَيْمَانِكُمْ).
قال ابن كثير تعليقاً على هذا الحديث وتعزيزاً له: " وهذا إسناد صحيح ولم يخرجه أحد من أصحاب الكتب الستة، وقد اختاره الضياء المقدسي في كتابه المستخرج ".
وقد نقله الحافظ ابن حجر -في الفتح- عن الضياء المقدسي من المختارة وأيده بما أخرجه الطبراني -في عشرة النساء- وابن مردويه عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: " دخل رسول الله صلى الله عليه وسلم بمارية بيت حفصة فجاءت فوجدتها معه فقالت: يا رسول الله في بيتي تفعل هذا معي دون نسائك " - قال ابن حجر: " فذكر نحوه " أي نحو حديث عمر المتقدم.
ثم قال الحافظ ابن حجر في ترجيحه بين الأقوال التي قيلت فيما حرمه النبي صلى الله عليه وسلم على نفسه: " والراجح صلى الله عليه وسلم من الأقوال كلها قصة مارية لاختصاص عائشة وحفصة بها بخلاف العسل فإنه اجتمع فيه جماعة منهن ".