الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
أدلتهم من السنة
وأما ما استدلوا به من السنة المطهرة فوقائع من اجتهاداته صلى الله عليه وسلم وهي كثيرة جداً ذكر أمثلة منها.
فمن اجتهاداته صلى الله عليه وسلم ما صدر على صورة القياس ومن هذا النوع:
1 -
ما روى البخاري عن ابن عباس رضي الله عنهما أن امرأة جاءت إلى النبي صلى الله عليه وسلم فقالت: إن أمي نذرت أن تحج فماتت قبل أن تحج أفأحج عنها؟ قال: " نعم حجي عنها، أرأيت لو كان على أمك دين أكنت قاضيته؟ " قالت: نعم قال: " فاقضوا الذي له، فإن الله أحق بالوفاء.
ووجه الاستدلال بالحديث أنه " صلى الله عليه وسلم اعتبر دين الله بدين العباد وذلك بيان بطريق القياس " أي أنه صلى الله عليه وسلم أجابها عما سألت " وضرب لها المثل ليكون أوضح وأوقع في نفسها، وأقرب إلى سرعة فهمها ".
2 -
ومن هذا النوع أيضاً إجابته صلى الله عليه وسلم عمر بن الخطاب حين قبل عمر امرأته وهو صائم فظن أنه فعل أمراً عظيماً. قال عمر بن الخطاب رضي الله عنه: " هششت يوماً فقبلت وأنا صائم فأتيت النبي صلى الله عليه وسلم فقلت:
صنعت اليوم أمراً عظيماً فقبلت وأنا صائم فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: " أرأيت لو تمضمضت بماء وأنت صائم؟ " قلت: " لا بأس بذلك " فقال رسول الله: " ففيم؟ ".
" أي ففيم تسأل " قال الخطابي: " فإذا كان أحد الأمرين منهما غير مفطر للصائم فالآخر بمثابته "، " فقد اعتبر النبي صلى الله عليه وسلم فيه مقدمة الجماع وهى القبلة بمقدمة الشرب وهي المضمضمة في عدم فساد الصوم، وهو قياس ظاهر بل عدم الفساد في القبلة أظهر لأنها تهيج الشهوة ولا تسكنها والتمضمض يسكن شيئاً من العطش ".
وفي القول بأن " المضمضمة مقدمة الشرب " بعض التجاوز والأحسن في القياس أن يقال القبلة قيست على المضمضة في عدم الأثر على الصوم.
ومن اجتهاداته صلى الله عليه وسلم ما كان النظر فيه إلى مقاصد الشريعة وتحقيق مصالح العباد، ومن هذا النوع اجتهاداته صلى الله عليه وسلم في غزوة بدر الكبرى.
3 -
أولاً: قبل المعركة.
(أ) نزوله صلى الله عليه وسلم بالجيش في مكان رأى فيه - باجتهاده مصلحة حربية اقتضت عنده عليه صلاة والسلام النزول بالجيش فيه.
(ب) قبوله صلى الله عليه وسلم رأي الحباب بن المنذر أن هذا المكان ليس منزل رأي وحرب ومكيدة.
وذلك بعد أن سأل الحباب رسول الله صلى الله عليه وسلم عن منزله الذي هو فيه بقوله: " يا رسول الله أرأيت هذا المنزل أمنزلاً أنزلكه الله ليس لنا أن نتقدمه ولا نتأخر عنه أم هو الرأي والحرب والمكيدة؟ قال: " بل هو الرأي والحرب والمكيدة " قال: " يا رسول الله فإن هذا ليس بمنزل فامض بالناس حى نأتي أدنى ماء من القوم فننزله ثم نغوِّر ما وراءه من القُلُب ثم نبني عليه حوضاً فنملأه ماء ثم نقاتل القوم فنشرب ولا يشربون "، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: " لقد أشرت بالرأي ".
4 -
ثانياً: بعد المعركة.
وبعد انتهاء المعركة وإقامته صلى الله عليه وسلم بعرصتها ثلاث ليال كما هي عادته عليه الصلاة والسلام حين يظهر على القوم، انصرف رسول الله صلى الله عليه وسلم وأصحابه مؤيدين منصورين قافلين إلى المدينة المنورة حتى إذا خرج من مضيق الصفراء نزل على كثيب بين المضيق وبين النازية يقال له -سير- إلى سرحة به فقسم هنالك النفل الذي أفاء الله على المسلمين من المشركين على السواء، وشاور رسول الله صلى الله عليه وسلم أصحابه في الأسرى فقال:" ما تقولون في هؤلاء الأسرى؟ " فقال أبو بكر: " يا رسول الله هؤلاء بنو العم والعشيرة والإخوان وإني أرى أن تأخذ منهم الفدية فيكون ما أخذناه قوة لنا على الكفار وعسى أن يهديهم الله فيكونوا
لنا عضداً "، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: " ما ترى يا ابن الخطاب؟ " فقال عمر بن الخطاب: " أخرجوك وكذبوك قربهم فاضرب أعناقهم فإنهم أئمة الكفر وهؤلاء صناديدهم وقادتهم " فدخل رسول الله صلى الله عليه وسلم ولم يرد عليهم شيئاً. . ثم خرج عليهم فقال: " إن الله ليلين قلوب رجال فيه حتى تكون ألين من اللبن وإن الله ليشد قلوب رجال فيه حتى تكون أشد من الحجارة، وإن مثلك يا أبا بكر كمثل إبراهيم قال:(فَمَنْ تَبِعَنِي فَإِنَّهُ مِنِّي وَمَنْ عَصَانِي فَإِنَّكَ غَفُورٌ رَحِيمٌ) ومثلك يا أبا بكر كمثل عيسى قال: (إِنْ تُعَذِّبْهُمْ فَإِنَّهُمْ عِبَادُكَ وَإِنْ تَغْفِرْ لَهُمْ فَإِنَّكَ أَنْتَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ) وأن مثلك يا عمر كمثل نوح قال: (وَقَالَ نُوحٌ رَبِّ لَا تَذَرْ عَلَى الْأَرْضِ مِنَ الْكَافِرِينَ دَيَّارًا) وإن مثلك يا عمر كمثل موسى قال: (رَبَّنَا اطْمِسْ عَلَى أَمْوَالِهِمْ وَاشْدُدْ عَلَى قُلُوبِهِمْ فَلَا يُؤْمِنُوا حَتَّى يَرَوُا الْعَذَابَ الْأَلِيمَ). ثم قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: " اليوم أنتم عالة فلا يفلتن أحد منهم إلا بفداء أو ضرب عنق ".
ووجه الاستدلال من الحديث على اجتهاد الرسول صلى الله عليه وسلم في موضعين:
الموضع الأول: مشاورته أصحابه في شأن الأسرى والمشاورة لا تكون إلا فيما لم ينزل فيه وحي.
الموضع الثاني: حكمه صلى الله عليه وسلم بعد استطلاع آراء أصحابه بأخذ الفداء.
والذي يدل على أن هذا الحكم باجتهاد منه صلى الله عليه وسلم نزول قوله تعالى:
(لَوْلَا كِتَابٌ مِنَ اللهِ سَبَقَ لَمَسَّكُمْ فِيمَا أَخَذْتُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ) متضمناً الإخبار بمنع العذاب عنهم لسبق الكتاب بحل الغنائم -ومنها الفداء- هم ولو كان ما أخذوه من الفداء بوحي من الله تعالى ما نزل ذلك.
على أنه لو نزل وحي -كما في حديث الترمذي وغيره- بإخبار النبي صلى الله عليه وسلم بأنَّهم مخيرون بين أخذ الفداء ويقتل منهم مثلهم من قابل أو يقتل الأسرى ويسلم المسلمون - لا يعارض الاجتهاد لأن الاجتهاد حينئذ يكون في اختيار أحد الرأيين المخير بينهما وهو أخذ الفداء أو قتل الأسرى.
5 -
ومن اجتهاده صلى الله عليه وسلم سوقه الهدْي في حجة الوداع ورغبته أن لو لم يكن ساقه ليرفع المشقة عن أصحابه حين علم ما حل بهم من مشقة الاستمرار على الإحرام حتى انتهاء مناسك الحج. روى البخاري وغيره أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: " لو استقبلت من أمري ما استدبرت ما أهديت ".
ووجه الاستدلال منه على اجتهاده صلى الله عليه وسلم في موضعين:
الموضع الأول: سوقه الهدي وهو قربة من القرب وأقل درجات القربة:
الندب فهو حكم شرعى فعله باجتهاده إذ لم يعلم له نص يدل على طلبه.
الموضع الثاني: رغبته صلى الله عليه وسلم حين علم ما حل بأصحابه من مشقة استمرارهم على الإحرام حتى انتهائهم من مناسك الحج أن لو لم يكن ساقه فيتمتع ليقتدي به أصحابه لتزول عنهم المشقة.
6 -
ما رواه البخاري ومسلم وغيرهما عن عائشة أم المؤمنين رضي الله تعالى عنها أن رسول الله صلى الله عليه وسلم صلى ذات ليلة في المسجد فصلى بصلاته ناس ثم صلى من القابلة فكثر الناس ثم اجتمعوا من الليلة الثالثة أو الرابعة فلم يخرج إليهم رسول الله صلى الله عليه وسلم فلما أصبحوا قال: " قد رأيت الذي صنعتم ولم يمنعني من الخروج إليكم إلا أني خشيت أن تفرض عليكم " وذلك في رمضان.
ووجه الاستدلال منه على اجتهاده صلى الله عليه وسلم أنه " توقع أن يترتب على المواظبة على صلاة الليل جماعة فرضها عليهم " كما هي واجبة عليه صلى الله عليه وسلم " لأن الأصل في الشرع المساواة بين النبي صلى الله عليه وسلم وبين أمته في العبادة " كما قال ابن بطال ما لم يدل دليل على الخصوصية فأداه اجتهاده عليه
الصلاة والسلام بسبب رحمته بهم إلى عدم الخروج إليهم والصلاة بهم خشية أن تفرض عليهم فيعجزوا عنها.
7 -
ما رواه البخاري عن أبي هريرة رضي الله عنه أنه قال: " بعثنا رسول الله صلى الله عليه وسلم في بعث فقال: " إن وجدتم فلانا وفلانا فأحرقوهما بالنار " ثم قال رسول الله صلى الله عليه وسلم حين أردنا الخروج: " إني أمرتكم أن تحرقوا فلانا وفلانا وإن النار لا يعذب بها إلا الله فإن وجدتموهما فاقتلوهما ".
ووجه الاستدلال منه أنه صلى الله عليه وسلم أمرهم أولاً بحرق الرجلين الكافرين ثم عدل عن الأمر بحرقهما إلى الأمر بقتلهما معللاً عدوله عن حرقهما بأن النار لا يعذب بها إلا الله ولو كان ما أمر به أولاً عن وحي لما رجع عنه، ومما يدل على أن أمره الأول كان باجتهاد منه. ما جاء في رواية أخرى بلفظ " ثم رأيت أنه لا ينبغى أن يعذب بالنار إلا الله ".
وقد استدل به الحافظ ابن حجر على " جواز الحكم بالشيء اجتهاداً ثم الرجوع عنه ".
وقد جمع بعض الأفاضل من العلماء اجتهادات الرسول صلى الله عليه وسلم في مؤلف خاص بها، فذكر من اجتهاداته صلى الله عليه وسلم ما ينوف على ثلاثين موضعاً.