الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
أدلة المانعين لاجتهاد الرسول صلى الله عليه وسلم
-
وقد استدل القائلون بعدم جواز الاجتهاد للرسول صلى الله عليه وسلم في بيان أحكام الحوادث التي لم ينزل عليه بها وحي بأدلة نقلية، وأخرى عقلية.
أما الأدلة النقلية فهي:
1 -
قوله تعالى: (وَمَا يَنْطِقُ عَنِ الْهَوَى (3) إِنْ هُوَ إِلَّا وَحْيٌ يُوحَى (4)).
ووجه الاستدلال به هو أن الله تعالى أخبر أن رسول الله صلى الله عليه وسلم لا ينطق إلا عن وحي، والحكم الصادر عن اجتهاد لا يكون وحياً -لاحتمال الخطأ فيه- فيكون داخلاً تحت النفي.
ورد بأن الآيتين الكريمتين رد وإبطال لما كان يزعمه الكفار من أن محمداً صلى الله عليه وسلم كان يفتري القرآن من عند نفسه، وقد حكى الله تعالى قولهم ذلك بقوله:(وَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا إِنْ هَذَا إِلَّا إِفْكٌ افْتَرَاهُ وَأَعَانَهُ عَلَيْهِ قَوْمٌ آخَرُونَ) وليس عاماً في كل ما ينطق به الرسول صلى الله عليه وسلم والتخصيص واقع قطعاً بما ينطق به النبي صلى الله عليه وسلم في غير الأحكام الشرعية فالعموم باطل.
وعلى فرض أنه عام في جميع ما ينطق به الرسول صلى الله عليه وسلم فليس فيه إثبات لدعواهم أيضاً، لأن اجتهاد الرسول صلى الله عليه وسلم وما يستند إليه كله وحي وليس
نطقاً عن الهوى، وإنما هو اتباع للوحي المأذون له فيه بالاجتهاد.
2 -
واستدلوا أيضاً بقوله تعالى: (قُلْ مَا يَكُونُ لِي أَنْ أُبَدِّلَهُ مِنْ تِلْقَاءِ نَفْسِي إِنْ أَتَّبِعُ إِلَّا مَا يُوحَى إِلَيَّ).
ووجه الاستدلال به أن هذه الآية الكريمة نفت عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يكون له حق تبديل ما يلقى إليه من ربه، ونصت على أنه صلى الله عليه وسلم لا يتبع إلا ما يوحى إليه " وهذا يدل على أنه لم يحكم قط بالاجتهاد " إذ الاجتهاد ليس وحياً، فالأخذ به تبديل لأحكام الله تعالى، واتباع لما لم يوح إليه ".
ورد هذا بأن الآية الكريمة رد على قول الكافرين لرسول الله صلى الله عليه وسلم
-على سبيل التعجيز له فيما حكاه الله تعالى عنهم وكما هو ظاهر منه سياق هذه الآية- (ائْتِ بِقُرْآنٍ غَيْرِ هَذَا أَوْ بَدِّلْهُ) فهى ليست في منع الاجتهاد بل في بيان أن ما طلبوه ليس من شأن الرسول صلى الله عليه وسلم إجابته، لأنه إن أريد بالتبديل تغيير نظام القرآن الكريم بوضع آية رحمة مكان آية عذاب أو العكس أو إسقاط عيب الآلهة، وذم عبادتها منه -كما أراده المتعنتون من المشركين- فهذا إفساد لنظام القرآن الكريم، وهو كفر معصموم منه الرسول صلى الله عليه وسلم قطعاً.
وإن أريد بالتبديل النسخ فهذا لا يكون باجتهاد الرسول صلى الله عليه وسلم، وإنما هو من الله تعالى و " الاجتهاد ليس تبديلاً بل هو اتباع للوحي.
وأيضاً ليس في قوله تعالى: (إِنْ أَتَّبِعُ إِلَّا مَا يُوحَى إِلَيَّ) دليل لهم في نفى عمله صلى الله عليه وسلم بالاجتهاد، لأن الإذن له صلى الله عليه وسلم بالاجتهاد داخل تحت ما يوحى إليه.
3 -
ومما استدلوا به قوله تعالى: (وَلَا تَقْفُ مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ)، ووجه الاستدلال به أنه صريح في نهي الرسول صلى الله عليه وسلم أن يقفو ويتبع ما ليس له به علم، والاجتهاد، يعتمد على يقين الوحى فهو لذلك قفو، واتباع لما ليس له به علم، وهذا خلاف منطوق الآية الكريمة.
ورد هذا بأن اجتهاد الرسول صلى الله عليه وسلم مأذون له فيه وما أذن له فيه
لا يكون قفوا ولا اتباعاً لما ليس له به علم.
واستدلوا لما ذهبوا إليه عقلاً فقالوا:
1 -
أن الاجتهاد عمل بالظن، والنبي صلى الله عليه وسلم قادر على تحصيل اليقين من الوحى في الأحكام، ومن كان قادراً على اليقين لا يجوز له المصير إلى الظن.
ورد هذا بأن الادعاء أن الرسول صلى الله عليه وسلم قادر على تحصيل اليقين بالوحي ممنوع لأنه صلى الله عليه وسلم، لا يستطع أن يتحكم في الوحي " باستدعائه " -الذي يكون به اليقين- متى شاء.
2 -
لو كان الرسول صلى الله عليه وسلم عاملاً بالاجتهاد لما أخَّر جواباً احتاج الناس إليه، ولما انتظر الوحي، لكنه انتظر الوحي في بعض الوقائع، كما في الظهار، واللعان فدل على أن ليس له صلى الله عليه وسلم الاجتهاد.
ورد هذا بعدم تسليم أن النبي صلى الله عليه وسلم أخَّر جواباً سئل عنه.
والاستدلال على هذا بدعوى تأخير الجواب في مسألتي اللعان والظهار مردود بما ثبت أنه عليه الصلاة والسلام أجاب على الفور في مسألة الظهار فقال لخولة بنت ثعلبة " ما أراك إلا قد حرمت عليه ولم أومر في شأنك بشيء ". وفي رواية " ما أعلمك إلا قد حرمت عليه ".
وقال في مسألة اللعان لهلال بن أمية - كما في الصحيح: " البينة أو حد في ظهرك " فنزل القرآن الكريم بحكمي اللعان والظهار فكان حكم الظهار ناسخاً لحكم الاجتهاد النبوي الشريف في قوله صلى الله عليه وسلم: " ما أراك إلا قد حرمت عَليه ولم أومر في شأنك بشيء ".
وكان حكم اللعان مخصصاً لعموم آية حد قذف المحصن الذي جاء في قوله تعالى (وَالَّذِينَ يَرْمُونَ الْمُحْصَنَاتِ ثُمَّ لَمْ يَأْتُوا بِأَرْبَعَةِ شُهَدَاءَ فَاجْلِدُوهُمْ ثَمَانِينَ جَلْدَةً وَلَا تَقْبَلُوا لَهُمْ شَهَادَةً أَبَدًا) بمن عدا رمي الزوج لزوجته الذي شَرع له اللعان.
قال ابن قدامة في المغني: " أنه لا لعان بين غير الزوجين. . وذلك لأن الله تعالى قال (وَالَّذِينَ يَرْمُونَ الْمُحْصَنَاتِ ثُمَّ لَمْ يَأْتُوا بِأَرْبَعَةِ شُهَدَاءَ فَاجْلِدُوهُمْ ثَمَانِينَ جَلْدَةً) ثم خص الزوجات من عموم هذه الآية بقوله (وَالَّذِينَ يَرْمُونَ أَزْوَاجَهُمْ) ففيما عداهن يبقى على قضية العموم ".
ودعوى أن الرسول صلى الله عليه وسلم قال لخولة ما قال " تقريراً لما كان عليه أمر الجاهلية دعوى باطلة لا يليق أن تذكر في اجتهاد رسول الله صلى الله عليه وسلم.
على أنه لو ثبت -جدلاً- أنه عليه الصلاة والسلام أخر الجواب في بعض ما شئل عنه لكان تأخيره من باب الترقب للوحي وجزئيات يرى صلى الله عليه وسلم باجتهاده - أن تأخير الاجتهاد فيها لا يفوت مصلحة كما في مسألتي الظهار واللعان لو صح أنه أخر الجواب فيهما.
وقال جمهور العلماء: يجوز للرسول صلى الله عليه وسلم أن يحكم باجتهاده فيما لم يوح إليه فيه، بمعنى أن الله تعالى قد أذن للرسول صلى الله عليه وسلم في بيان بعض الأحكام
الشرعية والأمور الدينية وغيرها من المصالح التي لم ينزل عليه بها وحي.
بيد أن جمهور الحنفية قيدوا هذا الجواز بانتظار الوحي ما لم يخش فوت الحادثة على غير الوجه الشرعي فإن خاف الفوت فله الاجتهاد فيها وقال الإمام أبو يوسف من الحنفية بقول الجمهور دون اشتراط القيد المذكور في قول الحنفية.
والإطلاق في جواز الاجتهاد للرسول عليه الصلاة: السلام بمعنى الإذن له في بيان حكم بعض الحوادث -التي لم يوح إليه فيها شَيء- باجتهاده صلى الله عليه وسلم هو مذهب عامة الأصوليين والفقهاء الإمام مالك والشافعي وأحمد ْوأتباعهم - رحمهم الله تعالى - ومذهب جمهور أهل الحديث.