الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
فشكا زيد إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم ما يلقى من زوجته وما يسود حياتهما من تباعد وتنافر فلقى رسول الله صلى الله عليه وسلم شكوى زيد بما جبل عليه صلى الله عليه وسلم من الرحمة وأدب المعاشرة " واختباراً لما عند زيد مما لم يعلمه الله به من رغبته فيها أو رغبته عنها " فقال له: " امسك عليك زوجك واتق الله ".
ورجع زيد إلى بيته ووجد من زوجته أشد مما كان يجد، ففي خبر طويل ذكره البيهقي في سننه في قصة زواجها بزيد بن حارثة وفراقه إياها قالت زينب رضى الله عنها:". . فأخذته بلساني فشكاني إلى النبي صلى الله عليه وسلم فقال له النبي من: " أَمْسِكْ عَلَيْكَ زَوْجَكَ وَاتَّقِ اللهَ " ثم أخذته بلساني فشكاني إلى النبي صلى الله عليه وسلم.
فلما أن ضاق زيد ذرعاً بحياته معها لتعاليها عليه وتناولها إياه بلسانها ولم يمكنه رأب الصدع بينهما صمم على طلاقها وذهب إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم يشكوها وهو عازم على طلاقها وكأنما أحسَّ زيد في هذه المرة حياء من النبي صلى الله عليه وسلم منعه من الإجابة على شكواه منها فقال زيد -فيما ترويه زينب رضي الله عنها كما في سنن البيهقي-: " أنا أطلقها، قالت فطلقني، فبتَّ طلاقي ".
* * *
(تزويج الله عز وجل زينب بنت جحش رسول الله صلى الله عليه وسلم
-)
فلما انقضت عدتها نزل قول الله تعالى (فَلَمَّا قَضَى زَيْدٌ مِنْهَا وَطَرًا زَوَّجْنَاكَهَا لِكَيْ لَا يَكُونَ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ حَرَجٌ فِي أَزْوَاجِ أَدْعِيَائِهِمْ إِذَا قَضَوْا مِنْهُنَّ وَطَرًا وَكَانَ أَمْرُ اللهِ مَفْعُولًا (37)). فقام رسول الله صلى الله عليه وسلم ودخل عليها وهي
مكشوفة الشعر فقالت: " هذا أمر من السماء. . يا رسول الله بلا خطبة ولا شهادة؟ قال: " الله المزوّج وجبريل الشاهد " كما في رواية البيهقي عن مذكور مولى زينب أم المؤمنين رضي الله عنها.
وفي صحيح مسلم -في قصة زواج النبي صلى الله عليه وسلم أنه حين نزل القرآن بتزويجه إياها " جاء رسول الله صلى الله عليه وسلم فدخل عليها بغير إذن ".
وفي ذلك يقول الله تعالى: (وَإِذْ تَقُولُ لِلَّذِي أَنْعَمَ اللهُ عَلَيْهِ وَأَنْعَمْتَ عَلَيْهِ أَمْسِكْ عَلَيْكَ زَوْجَكَ وَاتَّقِ اللهَ وَتُخْفِي فِي نَفْسِكَ مَا اللهُ مُبْدِيهِ وَتَخْشَى النَّاسَ وَاللهُ أَحَقُّ أَنْ تَخْشَاهُ فَلَمَّا قَضَى زَيْدٌ مِنْهَا وَطَرًا زَوَّجْنَاكَهَا لِكَيْ لَا يَكُونَ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ حَرَجٌ فِي أَزْوَاجِ أَدْعِيَائِهِمْ إِذَا قَضَوْا مِنْهُنَّ وَطَرًا وَكَانَ أَمْرُ اللهِ مَفْعُولًا (37)).
وقد افتتحت الآية بتذكر النبي صلى الله عليه وسلم بإنعام الله تعالى على مولاه زيد بن حارثة بنعمة الإسلام وإنعامه صلى الله عليه وسلم عليه بنعمة الحرية والتربية والمحبة التي خصه بها دون سائر أقربائه وأصحابه زيادة من الله تعالى في الإنعام عليه وتفضيلاً له حيث لم يذكره باسمه، وإنما ذكره بوصف الإنعام عليه من الله تعالى ومن رسول الله صلى الله عليه وسلم.
ويحتمل أنه ذكر بوصف الإنعام عليه ولم يذكر باسمه -في مفتتح الآية تمهيداً لبيان إنعام الله بالإيمان وإنعام رسول الله صلى الله عليه وسلم عليه بالحرية والتربية اللذين كان لهما أثر عند عرض زيد طلاق زينب التي ضاق ذرعاً بالعيش معها لشدة لسانها عليه- " لرفع استحياء النبي صلى الله عليه وسلم منه في موافقته على طلاقها ".
وتذكير الله تعالى رسوله. صلى الله عليه وسلم بقوله لهذا المنعم عليه (أَمْسِكْ عَلَيْكَ زَوْجَكَ وَاتَّقِ اللهَ) لبيان إعظام حياء رسول الله صلى الله عليه وسلم حتى أنه استحيا ممن لا يستحيا من مثله في علاقته به ومكانته منه.
وفي قوله (أَمْسِكْ عَلَيْكَ زَوْجَكَ وَاتَّقِ اللهَ) احتمالان:
الأول: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال ذلك وقد " أعلمه الله أنَّهَا ستكون من أزواجه قبل أن يتزوجها " بعد طلاق زيد لها وانقضاء عدتها منه.
فلما عرض عليه زيد طلاقها -وعنده العلم بأنَّهَا ستكون زوجة له- أراد صلى الله عليه وسلم أن يتعرف ما عند زيد من بقاء رغبة فيها وميل إليها، وأن ما وقع إنما هو ثورة غضب قد تذهب فيما بعد، أو أن إرادة طلاقها كانت عزيمة صارمة تشعر بعدم بقاء أي رغبة فيها وميل إليها.
الثاني: إنما قال رسول الله صلى الله عليه وسلم ذلك - وزيد يعرض عليه طلاق زوجه زينب لتعاليها عليه بنسبها وحسبها وشدة لسانها - من باب الرأفة والرحمة اللتين جُبل عليهما رسول الله صلى الله عليه وسلم والنصح لهما وتقديم الأمر بالمعروف إذ لم يحدد الله تعالى له وقت طلاق زيد لها وزواجه بها فما تزال الفرصة قائمة في اجتهاده صلى الله عليه وسلم.
فكان هذا القول (أَمْسِكْ عَلَيْكَ زَوْجَكَ) من قبيل الاجتهاد في عدم التوقيت.
والاحتمال الأول أرجح -عندنا- لأن تعرف ما في نفس زيد يكشف عن حقيقة ما في عزيمته، فإن كان له فيها بقية رغبة وميل إليها وأن الذي حدث فورة غضب قد تذهب بالتراضى وإحسان العشرة فعندئذ يكون -لو وافقه النبي صلى الله عليه وسلم على طلاقها- كالمكره على طلاقها، ومن ثم كان هذا التعرف ضرورياً ليكون زيداً مختاراً في الطلاق راغباً فيه فلا تتبعها نفسه بعد ذلك، وقد يؤكد هذا إبراز زينب في هذه الجملة (أَمْسِكْ عَلَيْكَ زَوْجَكَ) بعنوان الزوجية المقتضي للمودة والرحمة والسكون والرغبة.
أما قوله " واتق الله " فإنما جاء لأمر زيد بعدم التجاوز في تناولها عند رسول الله صلى الله عليه وسلم بنحو قوله فيها " إن زينب اشتد عليَّ لسانها: أنا أريد أن أطلقها " فيما رواه قتادة.
ثم قال تعالى (وَتُخْفِي فِي نَفْسِكَ مَا اللهُ مُبْدِيهِ) وهي جملة حالية من فاعل " تقول " في (وَإِذْ تَقُولُ لِلَّذِي أَنْعَمَ اللهُ عَلَيْهِ وَأَنْعَمْتَ عَلَيْهِ. . .).
والذي أبداه الله تعالى إنما هو زواجه بها بعد انقضاء عدتها من زيد، وهذا لا يكون موضع عتاب إلا إذا كان قد سبقه إعلام به حتى يصلح التقييد به وقت قوله لزيد " أَمْسِكْ عَلَيْكَ زَوْجَكَ " فالذي أخفاه رسول الله صلى الله عليه وسلم في الحقيقة هو إعلامه أنها ستكون زوجة له بدليل إظهار هذه الزوجية عملاً واقعاً بعد طلاق زيد لها وانقضاء عدتها منه.
وهذا القدر -أي إخفاء الإعلام بتزويجها منه صلى الله عليه وسلم وهي ما زالت تحت زيد- كافٍ في توجيه العتاب لرسول الله صلى الله عليه وسلم، لكن رسول الله صلى الله عليه وسلم لم يخف