الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
الصلبية أي شىء من قريب أو بعيد.
* * *
(وجه تقديم نفي الحرج عن المؤمنين على نفيه عن النبي صلى الله عليه وسلم
ونفى الله الحرج عن النبي صلى الله عليه وسلم بقوله تعالى: (مَا كَانَ عَلَى النَّبِيِّ مِنْ حَرَجٍ فِيمَا فَرَضَ اللهُ لَهُ) وإن كان متأخراً في ترتيب التلاوة عن رفع الحرج عن المؤمنين بقوله تعالى: (لِكَيْ لَا يَكُونَ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ حَرَجٌ فِي أَزْوَاجِ أَدْعِيَائِهِمْ إِذَا قَضَوْا مِنْهُنَّ وَطَرًا وَكَانَ أَمْرُ اللهِ مَفْعُولًا) إلا أنه -أي رفع الحرج عن النبي صلى الله عليه وسلم -كالمتقدم في الواقع على نفي الحرج عن المؤمنين لأن زواج النبي صلى الله عليه وسلم بمطلقة دعيه كان السابق على كل زواج بمطلقة دعي فكان التطبيق العملي لرفع الحرج عن المؤمنين في التزوج بزوجات الأدعياء.
ونفى الحرج عن النبي صلى الله عليه وسلم نفي للحرج عن أمته ما لم يدل دليل على الاختصاص، ولا دليل هنا على ذلك.
وإنما سبق نفي الحرج عن المؤمنين -في ترتيب التلاوة- نفي الحرج عن النبي صلى الله عليه وسلم لما في نفى الحرج عن المؤمنين من الإشعار بعموم الحكم الشامل لأفراد الأمة في جميع أزمانها وأجيالها.
* * *
(رفع الحرج عن المجتمع المؤمن بإبطال عادة التبني)
وفي التعبير بالحرج في قوله (لِكَيْ لَا يَكُونَ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ حَرَجٌ فِي أَزْوَاجِ أَدْعِيَائِهِمْ إِذَا قَضَوْا مِنْهُنَّ وَطَرًا) دليل على أن المجتمع المؤمن قد ضاق ذرعاً بهذه العادة الجاهلية وحرج من بقائها تُلْقى عليه جرانها وما يستتبعها من دخول الدعي على زوجة متبنيه وعلى بناته من كشف الحرمات بدخوله عليهن واختلاطه من اختلاط الابن والأخ فيرى منهن ما لا يراه غيره من العورات والمفاتن والمحاسن مما قد يكون سبباً لأفدح الأضرار وإذهاب الغيرة وفتح باب الفساد والإفساد في المجتمع.
ومما يؤيد ضيق المجتمع من ذلك أن أبا حذيفة رضي الله عنه كان قد تبنى سالماً ولكنه ضاق نفساً من دخوله على أهله لما كبر سالم وبلغ مبلغ الرجال فلما أحست زوجته سهلة بنت سهيل رضى الله عنها منه ذلك جاءت إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فيما يرويه الإمام مسلم عن عائشة رضي الله عنها فقالت: " يا رسول الله والله إني لأرى في وجه أبي حذيفة من دخول سالم " قالت عائشة: فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: " أرضعيه " فقالت: " إنه ذو لحية ". فقال: " أرضعيه يذهب ما في وجه أبي حذيفة " فقالت: " والله ما عرفته في وجه أبي حذيفة " وإرضاع الكبير كان خاصاً لسالم وليس لأحد من بعده ".
وقوله تعالى: (فِيمَا فَرَضَ اللهُ لَهُ) معناه: فيما شرع الله له و " أحله له " كما قال قتادة في رواية الطبري عنه.
وهذا الحل يشير إلى أنه كان قبله حظر ومنع. والحظر الذي كان هنا لم يكن حظراً شرعياً بل هو ما كان عليه أهل الجاهلية من تحريم لزوجة الدعي بزعمه ابناً عندهم.
فالله تعالى قال لنبيه صلى الله عليه وسلم هذا الحظر من الأباطيل التي لم تشرع في دينك ورسالتك والله تعالى شرع لك فيها ما أحله لك ولأمتك من التزوج بزوجة الدعي بعد فراقه إياها وانتهاء عدتها منه.
وهذا على خلاف قوله " فرض عليك " فإنه مشعر بالإلزام والإيجاب.
ثم قال تعالى: (سُنَّةَ اللهِ فِي الَّذِينَ خَلَوْا مِنْ قَبْلُ) ويعني بسنة الله: طرائقه في شرائعه لأنبيائه ورسله السابقين من كل ما أحله لهم ولأممهم عموماً، ويدخل فيه ما حظرته أباطيل الجاهلية وهو حلال في شرائع الله تعالى.
ثم بيّن تعالى أن تشريع الله وأوامره ونواهيه القضائية في قدره حق واقع لا يتخلف فقال (وَكَانَ أَمْرُ اللهِ قَدَرًا مَقْدُورًا).
ثم بيّن تعالى أن (الَّذِينَ خَلَوْا مِنْ قَبْلُ) -أي الرسل الذين سبقوا الرسول محمداً صلى الله عليه وسلم برسالاتهم وأنه شرع لهم في شرائعهم ما أحله الله لهم ولأممهم فكانوا يبلغونه إلى أممهم، لأنه من رسالات الله التي أوجب الله عليهم تبليغها لهم- لم يخافوا أحداً غير الله في تبليغ ما أنزل إليهم مهما كان فيه من حرج جاهلي وشدة في التبليغ وإبطال لعادات ألفها الجاهليون وقاموا عليها حياتهم. فقال تعالى في وصفهم (الَّذِينَ يُبَلِّغُونَ رِسَالَاتِ اللهِ وَيَخْشَوْنَهُ وَلَا يَخْشَوْنَ أَحَدًا إِلَّا اللهَ).
وهذا معناه: أنهم القدوة في سنن الله وشرائعه وتبليغها إلى أممهم دون خوف أو خشية من أحد كما قال تعالى (أُولَئِكَ الَّذِينَ هَدَى اللهُ فَبِهُدَاهُمُ اقْتَدِهْ).
فهو من قبيل الإرشاد والتربية لرسول الله صلى الله عليه وسلم في أن يكون في تبليغ أوامر الله تعالى وشريعته إلى أمته على سنن إخوانه الأنبياء والمرسلين لا يخشى في التبليغ أحداً إلا الله.
وليس في هذا إشارة من قريب أو بعيد تفيد أن النبي صلى الله عليه وسلم خشي - في تبليغه رسالات الله أحداً غير الله.
ثم قال الله لرسوله صلى الله عليه وسلم إن الله تعالى هو المختص بمحاسبة الضمائر والقلوب على ما تضمر وتُكِن، والجوارح على ما تعمل فقال (وَكَفَى بِاللهِ حَسِيبًا) ومعناه: أن الخوف والرجاء لا يكونان إلا من الله ولله تعالى وليس لأحد من الخلق دخل في رجاء أو خوف، لأنَّهم لا يملكون لأنفسهم ضراً ولا نفعاً.
فالذي قاله المنافقون وخبثاء اليهود، ونفايات الناس أهل الوثنية - من قالة السوء، وإشاعة الأباطيل عن رسول الله صلى الله عليه وسلم في زواجه بزينب التي كانت زوجاً لزيد بن حارثة: قد تزوج زوجة ابنه وكان يحرمها - باطل.
وقد رد الله عليهم قالتهم وأكاذيبهم وجهالتهم وقولهم على الله غير الحق بقوله (مَا كَانَ مُحَمَّدٌ أَبَا أَحَدٍ مِنْ رِجَالِكُمْ وَلَكِنْ رَسُولَ اللهِ وَخَاتَمَ النَّبِيِّينَ وَكَانَ اللهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمًا) بياناً لأن التحريم الذي كان ينادي به رسول الله صلى الله عليه وسلم وما زال، وأنزله الله عليه في شريعته إنما هو في زوجة الابن الصلبي النسبي الذي جاء في قوله تعالى:(وَحَلَائِلُ أَبْنَائِكُمُ الَّذِينَ مِنْ أَصْلَابِكُمْ) وليس الدعي ابناً صلبياً نسبياً، وإنما كان ابناً ادعائياً، فالنبي صلى الله عليه وسلم لم يكن أباً
لأحد من رجالهم أبوة صلبية نسبية حتى يحتج بها في تحريم زوجة الابن الدعي.
وفي أسلوب الآية ما يشعر بالعموم الشمولي الذي ينفي كل أبوة صلبية للنبي صلى الله عليه وسلم عن أي فرد من أفرادهم، وذلك بدلالة التنكير في قوله (أبا) و (أحد) والإضافة في قوله (من رجالكم).
ثم أثبت للنبي صلى الله عليه وسلم ما يثبت له أبوة التقديس والاحترام والتوقير -كإثبات الأمومة لأمهات المؤمنين في قوله تعالى: (وَأَزْوَاجُهُ أُمَّهَاتُهُمْ) - فقال تعالى مستدركاً على العموم السابق: " وَلَكِنْ رَسُولَ اللهِ " فكل رسول أب لأمته في الاحترام والتقديس والتوقير، وإلى هذا يشير قوله تعالى (النَّبِيُّ أَوْلَى بِالْمُؤْمِنِينَ مِنْ أَنْفُسِهِمْ) وقد قيل في بعض التفاسير وكتب الحديث إنه قرئ " وهو أبٌ لهم " وهذا محمول على أنه تفسير الأولوية في قوله (أَوْلَى بِالْمُؤْمِنِينَ).
والرسالة إذ يلزمها ذلك فهي عامة الترابط لكل مؤمن برسول الله صلى الله عليه وسلم، فالاستدراك جيء به لإثبات هذه الرابطة العامة بكل مؤمن وهى في حقيقتها أعظم وأجل من رابطة الأبوة لأن الله تعالى قال في حق رسول الله صلى الله عليه وسلم بالنسبة للمؤمنين (بِالْمُؤْمِنِينَ رَءُوفٌ رَحِيمٌ) فخصه صلى الله عليه وسلم بذلك، بعد وصفه بالرسالة في هذه الآية نفسها بقوله (لَقَدْ جَاءَكُمْ رَسُولٌ مِنْ أَنْفُسِكُمْ)
ليحقق هذا الترابط الشامل للأمة في حاضرها، ومستقبلها إلى يوم القيامة، لأن النبي صلى الله عليه وسلم أسوة دائمة لأمته، وقدوة لها في جميع ما تأتي به من خير أو تذر من شر، وهذا إنما كان مستمداً من رسالته وشريعته في عمومها وخلودها.
ثم قال تعالى: (وَخَاتَمَ النَّبِيِّينَ) ليبين أن هذه الرابطة بينه صلى الله عليه وسلم وبين جميع المؤمنين لا تقتضي وراثة في النبوة ليقطع جذور إدعاء أحد من أمته النبوة من بعده اعتماداً على رابطة الأبوة بالرسالة وبياناً لأنه صلى الله عليه وسلم لا نبي بعده يستدرك عليه وعلى شريعته شيئاً من الأحكام والتشريع، لأن ختم النبوة يستلزم حتماً ختم التشريع.
وهذا يقتضي باعتبار عموم رسالته وخلودها أن تكون كاملة في أصولها وجميع ما يتفرع عن تلك الأصول لتؤدي إلى الأمة المسلمة وإلى الحياة عامة ما تتطلبه احتياجاتها في سائر الأزمنة والأمكنة والأجيال فتشمل الحاضر والمستقبل إلى أن يرث الله الأرض ومن عليها.
ثم ختم الآية الكريمة بقوله تعالى: (وَكَانَ اللهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمًا) بياناً لعموم إحاطة علمه تعالى بأحوال عباده، وما يشرعه لهم من شرائع الخير والهدى وجعل رسول الله صلى الله عليه وسلم هو النبراس الذي يضيء لأمته طريق السير في هدايتها.
بعد هذا العرض للقصة كما تفيدها الآيات الكريمة وسياقاتها نرى أن نعرض في إجمال وإيجاز -ما قيل فيها من اختلاف أقوال العلماء- فأقول: