المَكتَبَةُ الشَّامِلَةُ السُّنِّيَّةُ

الرئيسية

أقسام المكتبة

المؤلفين

القرآن

البحث 📚

‌(رفع الحرج عن المجتمع المؤمن بإبطال عادة التبني) - آيات عتاب المصطفى في ضوء العصمة والإجتهاد

[عويد المطرفي]

فهرس الكتاب

- ‌خطبة الكتاب

- ‌خطر المناهج الأجنبية على المسلمين

- ‌المقدمة

- ‌من مفتريات أعداء الله ورسوله

- ‌انسياق وغفلة

- ‌أسباب كتابة هذا البحث

- ‌منهجية البحث والتناول

- ‌الباب الأولعصمة الأنبياء عليهم الصلاة والسلام

- ‌العصمة في اللغة

- ‌حاصل ما تدل عليه أقوال أهل اللغة

- ‌العصمة في الاصطلاح

- ‌نشأة التعريف الاصطلاحي

- ‌تعريف الراغب ودلالته

- ‌تعريف الحافظ ابن حجر

- ‌تعريف السعد

- ‌اتفاق التعريفين في المآل والثمرة

- ‌تعريف ابن الهمام

- ‌تعريف الحكماء

- ‌جمع اللقاني معاني التعريفات

- ‌ما تنتهي إليه تعريفات العلماء للعصمة اصطلاحاً

- ‌مواقع العصمة من حياة الأنبياء عليهم الصلاة والسلام

- ‌ عصمة الأنبياء - عليهم الصلاة والسلام - قبل البعثة

- ‌اعتراض وجوابه

- ‌الاستدلال رواية على عصمة الأنبياء قبل النبوة

- ‌الانتصار لصحة هذا الحديث

- ‌وجوه صحة هذا الحديث

- ‌عصمة الأنبياء - عليهم الصلاة والسلام - بعد البعثة

- ‌عصمة الأنبياء من الكذب

- ‌منع السهو والنسيان على الأنبياء في التبليغ

- ‌انتصار ابن تيمية للقول بعصمة الأنبياء في التبليغ

- ‌إجماع العلماء على القول بوجوب عصمة الأنبياء في التبليغ

- ‌تنوع الذنوب إلى صغائر وكبائر

- ‌مسالك التكليف

- ‌وجه القول بأن جميع الذنوب كبائر

- ‌جمع الحافظ ابن حجر بين قولي ابن عباس في الكبائر

- ‌الاستدلال بالقرآن والسنة على تنوع الذنوب إلى صغائر وكبائر

- ‌الأدلة من السنة على تنوع الذنوب إلى صغائر وكبائر

- ‌الأدلة من أقوال الصحابة والتابعبن على انقسام الذنوب إلى كبائر وصغائر

- ‌خطر القول بأن جميع الذنوب كبائر

- ‌عصمة الأنبياء عليهم الصلاة والسلام من الذنوب صغائرها وكبائرها

- ‌وجوه الاستدلال على عصمة الأنبياء من الصغائر والكبائر

- ‌توافر وسائل الرواية على عصمة النبي صلى الله عليه وسلم من جميع الذنوب

- ‌الباب الثانيالاجتهاد

- ‌تعريف الاجتهاد لغة

- ‌تعريف الاجتهاد اصطلاحاً

- ‌الفرق بين اجتهاد النبي صلى الله عليه وسلم واجتهاد علماء أمته

- ‌اجتهاد النبي صلى الله عليه وسلم

- ‌أدلة المانعين لاجتهاد الرسول صلى الله عليه وسلم

- ‌أدلة الجمهور على جواز اجتهاد الرسول صلى الله عليه وسلم

- ‌أدلتهم من السنة

- ‌أظهر أدلتهم العقلية

- ‌أدلة القائلين بجواز الاجتهاد له صلى الله عليه وسلم في الحروب فقط

- ‌الباب الثالث

- ‌معنى العتاب

- ‌تباين أسلوب الآيات المكية والمدنية في تربية الله للنبي صلى الله عليه وسلم

- ‌ما يلمح من شدة العتاب فيراد به تربية المجتمع

- ‌العتاب في اللغة

- ‌منهجي في التعرف على آيات العتاب

- ‌أنواع عتاب الله تعالى لنبيه عليه الصلاة والسلام:

- ‌الذنب

- ‌اختلاف نسبة الذنب باختلاف الفعل والفاعل وقصد الفاعل

- ‌إسناد الذنب إلى ضمير خطاب رسول الله في القرآن الكريم

- ‌دلالة أمره تعالى لنبيه صلى الله عليه وسلم بالصبر

- ‌دلالة أمره صلى الله عليه وسلم بالاستغفار في سورة محمد

- ‌دلالته في آية سورة الفتح

- ‌تهنئة وتطلع

- ‌التوبة

- ‌التوبة لغة

- ‌اختلاف التوبة باختلاف التائبين

- ‌آيات عتاب المصطفى صلى الله عليه وسلم

- ‌النوع الأول

- ‌الحال الأول من عتاب التوجيه

- ‌من تَلَطُّف الله برسوله صلى الله عليه وسلم في الخطاب

- ‌الحال الأولى

- ‌الحال الثانية

- ‌حراسة فتيان بني هاشم لرسول الله صلى الله عليه وسلم

- ‌العباس أحد حراس رسول الله صلى الله عليه وسلم

- ‌(ملازمة العباس لرسول الله صلى الله عليه وسلم

- ‌(قدوم البراء وكعب ابن مالك على رسول الله صلى الله عليه وسلم

- ‌(حضور العباس بيعة العقبة الكبرى)

- ‌(أسباب حراسته صلى الله عليه وسلم بمكة)

- ‌(أسباب حراسته صلى الله عليه وسلم بالمدينة)

- ‌(حراسة أبي أيوب رسول الله صلى الله عليه وسلم ليلة بنائه بصفية)

- ‌(مشروعية حراسة ولي الأمر)

- ‌(وثوق الرسول صلى الله عليه وسلم بعصمة الله له)

- ‌ظهور القول بمكية (وَاللهُ يَعْصِمُكَ مِنَ النَّاسِ)

- ‌القسم الأول من عتاب التوجيه

- ‌(الحرج لغة)

- ‌(الغرض من النهي عن الحرج من الإنذار بالقرآن)

- ‌(من جميل التلطف في الخطاب برسول الله صلى الله عليه وسلم

- ‌(ثانية آيات العتاب التوجيهي)

- ‌ما يدل عليه التعبير بـ (لعل) في هذه الآية

- ‌(موطن العتاب في هذه الآية الكريمة)

- ‌(الآية الثالثة)

- ‌(موطن العتاب فيها)

- ‌(عتاب الدفع وتقوية العزيمة)

- ‌القسم الثاني من عتاب التوجيه

- ‌(آيات عتاب الإقصار)

- ‌(تضمُّن القرآن وجوه الخير)

- ‌(التلطف والإشفاق برسول الله صلى الله عليه وسلم في توجيه الخطاب إليه)

- ‌(موطن العتاب في الآية)

- ‌(موضع العتاب من هذه الآية)

- ‌الآية الثالثة من آيات عتاب الإقصار

- ‌(موضع العتاب منها)

- ‌(محصلة هذا النوع من العتاب التلطف به)

- ‌النوع الثاني عتاب التنبيه

- ‌(الغرض من هذا النوع)

- ‌(حصر آيات هذا النوع من العتاب)

- ‌(أولى آيات هذا النوع من العتاب)

- ‌(تهديد المتقاعسين عن الخروج إلى غزوة تبوك)

- ‌(إظهار نوايا المنافقين للتحذير منهم)

- ‌(موضع العتاب من الآية)

- ‌(بيان وجه الصواب في الإذن لهم بالقعود)

- ‌(نفي الإيمان عن المستأذنين)

- ‌(ظهور عداوة المنافقين توجب منعهم من الخروج مع جيش المؤمنين)

- ‌(وجوه صواب إذن رسول الله صلى الله عليه وسلم للمنافقين بالقعود عن الخروج معه)

- ‌(خطر اندساس المنافقين في المجتمع الإسلامي)

- ‌(جفوة التعبير دليل ضعف في التفكير)

- ‌(تلطف في التعبير لا عتاباً له)

- ‌(إجراء الخطاب على وجهه خير من تأويله)

- ‌(موضع العتاب في هذه الآية)

- ‌(ثانية آيات هذا النوع من العتاب)

- ‌(نفي التخيير عن دلالة هذه الآية)

- ‌(إفادة العدد سبعة)

- ‌(تقديم منطوق حديث ابن عباس على منطوق حديث ابن عمر)

- ‌(الرد على الزمخشري)

- ‌(التماس وجه القول لصلاة رسول الله صلى الله عليه وسلم على عبد الله ابن أبي)

- ‌(النهي عن الاستغفار للمشركين)

- ‌(نفي التهيؤ للفعل أبلغ من نفي الفعل)

- ‌(موقع العتاب من هذه الآية)

- ‌(إيجاب تعليق عموم الأعمال على مشيئة الله)

- ‌(وجه كون الخطاب بهذه الآية عتاباً)

- ‌النوع الثالث عتاب التحذير

- ‌(آيات عتاب التحذير)

- ‌(تفصيل القول في الموضع الأول من هذه الآيات)

- ‌(الأمر بالتزام الحق والعدل في معاملة جميع الناس)

- ‌(ما يدل عليه توسيط الأمر بالاستغفار بين النهيين)

- ‌(تصوير حال المختانين أنفسهم)

- ‌(وصفهم بسوء ما بيتوا للتحذير من الاغترار بمثل ما تجمعوا عليه)

- ‌(التمويه بالجدل الكاذب في الدنيا لا ينجي من عذاب الآخرة)

- ‌(فتح باب التوبة للتائبين)

- ‌(قطع أطماع المنافقين في حجب الحقيقة عن رسول الله صلى الله عليه وسلم

- ‌(موضع العتاب في هذه الآية)

- ‌(ثانية آيات هذا النوع من العتاب)

- ‌(تسلية رسول الله صلى الله عليه وسلم عما يلقاه من أذى المشركين)

- ‌(الرد على المستهينين بالفقراء من المؤمنين)

- ‌(ما فتن به المستكبرون عن قبول الإيمان)

- ‌(ما يكون به علو المنزلة عند الله ورسوله)

- ‌(موضع العتاب من هذه الآية)

- ‌(الربط بين آية سورة الأنعام وآية سورة الكهف الناهيتين عن طرد الذين يدعون ربهم)

- ‌(اختصاص الله بعلم الغيب وانفراده بالحكم في خلقه)

- ‌(تيئيس رسول الله صلى الله عليه وسلم من رجاء إيمان المستكبرين)

- ‌(تهديدهم بالعذاب الشديد)

- ‌(وجه العتاب في الآية)

- ‌(النهي عن استبقاء الأسرى)

- ‌(توجيه وجه الخطاب بالآية الكريمة)

- ‌(تنزيه رسول الله صلى الله عليه وسلم عن إرادة شيء من الدنيا)

- ‌(موضع العتاب من الآية)

- ‌(المعاتبون بالآية)

- ‌(إشارة إلى اختلاف العلماء في بيان الإبهام بالمراد بالكتاب الذي سبق)

- ‌(قرار الصحابة بأخذ الفداء)

- ‌(لا عتاب على الفداء ولا على أخذ الغنيمة)

- ‌(توجيه العتاب إلى من تعجلوا أخذ الغنيمة ولم يثخنوا في العدو)

- ‌(وجه القول بأن في الآية عتاباً)

- ‌(إبطال عادة التبني على يدي رسول الله صلى الله عليه وسلم

- ‌(تزويج الله عز وجل زينب بنت جحش رسول الله صلى الله عليه وسلم

- ‌(ما أخفاه النبي صلى الله عليه وسلم في نفسه)

- ‌(احتمالات ما يدل عليه الخطاب بهذه الآية الكريمة)

- ‌(ما كان يخشاه من الناس)

- ‌(التشريع المقصود بهذه الآية الكريمة)

- ‌(التنويه بزيد بن حارثة ووجه ذلك)

- ‌(رد الله تعالى عن رسوله صلى الله عليه وسلم

- ‌(وجه تقديم نفي الحرج عن المؤمنين على نفيه عن النبي صلى الله عليه وسلم

- ‌(رفع الحرج عن المجتمع المؤمن بإبطال عادة التبني)

- ‌(تنزه كثير من أهل العلم عن أقوال القصاص)

- ‌(مذهب السلف إثبات ما أثبته القرآن الكريم)

- ‌(العمل على إبطال التعاظم بالأنساب والأحساب)

- ‌(بدء التنافر بين قلبي زينب وزيد بن حارثة)

- ‌(الله المزوِّج وجبريل الشاهد)

- ‌(الخير العام في كل من زواج زييد بن حارثة بزينب بنت جحش وطلاقه لها)

- ‌(آية آخرى في عتاب التحذير)

- ‌(المنع المحرم وغير المحرم)

- ‌(التحليل والتحريم خاص بالله)

- ‌(ما يدل عليه تصدير الآية بندائه بوصف النبوة)

- ‌(ما حرمه النبي صلى الله عليه وسلم على نفسه)

- ‌(موئل العتاب من هذه الآية)

- ‌(قصة نزول عبس وتولى)

- ‌الخاتمة

الفصل: ‌(رفع الحرج عن المجتمع المؤمن بإبطال عادة التبني)

الصلبية أي شىء من قريب أو بعيد.

* * *

‌(وجه تقديم نفي الحرج عن المؤمنين على نفيه عن النبي صلى الله عليه وسلم

ونفى الله الحرج عن النبي صلى الله عليه وسلم بقوله تعالى: (مَا كَانَ عَلَى النَّبِيِّ مِنْ حَرَجٍ فِيمَا فَرَضَ اللهُ لَهُ) وإن كان متأخراً في ترتيب التلاوة عن رفع الحرج عن المؤمنين بقوله تعالى: (لِكَيْ لَا يَكُونَ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ حَرَجٌ فِي أَزْوَاجِ أَدْعِيَائِهِمْ إِذَا قَضَوْا مِنْهُنَّ وَطَرًا وَكَانَ أَمْرُ اللهِ مَفْعُولًا) إلا أنه -أي رفع الحرج عن النبي صلى الله عليه وسلم -كالمتقدم في الواقع على نفي الحرج عن المؤمنين لأن زواج النبي صلى الله عليه وسلم بمطلقة دعيه كان السابق على كل زواج بمطلقة دعي فكان التطبيق العملي لرفع الحرج عن المؤمنين في التزوج بزوجات الأدعياء.

ونفى الحرج عن النبي صلى الله عليه وسلم نفي للحرج عن أمته ما لم يدل دليل على الاختصاص، ولا دليل هنا على ذلك.

وإنما سبق نفي الحرج عن المؤمنين -في ترتيب التلاوة- نفي الحرج عن النبي صلى الله عليه وسلم لما في نفى الحرج عن المؤمنين من الإشعار بعموم الحكم الشامل لأفراد الأمة في جميع أزمانها وأجيالها.

* * *

(رفع الحرج عن المجتمع المؤمن بإبطال عادة التبني)

وفي التعبير بالحرج في قوله (لِكَيْ لَا يَكُونَ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ حَرَجٌ فِي أَزْوَاجِ أَدْعِيَائِهِمْ إِذَا قَضَوْا مِنْهُنَّ وَطَرًا) دليل على أن المجتمع المؤمن قد ضاق ذرعاً بهذه العادة الجاهلية وحرج من بقائها تُلْقى عليه جرانها وما يستتبعها من دخول الدعي على زوجة متبنيه وعلى بناته من كشف الحرمات بدخوله عليهن واختلاطه من اختلاط الابن والأخ فيرى منهن ما لا يراه غيره من العورات والمفاتن والمحاسن مما قد يكون سبباً لأفدح الأضرار وإذهاب الغيرة وفتح باب الفساد والإفساد في المجتمع.

ص: 274

ومما يؤيد ضيق المجتمع من ذلك أن أبا حذيفة رضي الله عنه كان قد تبنى سالماً ولكنه ضاق نفساً من دخوله على أهله لما كبر سالم وبلغ مبلغ الرجال فلما أحست زوجته سهلة بنت سهيل رضى الله عنها منه ذلك جاءت إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فيما يرويه الإمام مسلم عن عائشة رضي الله عنها فقالت: " يا رسول الله والله إني لأرى في وجه أبي حذيفة من دخول سالم " قالت عائشة: فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: " أرضعيه " فقالت: " إنه ذو لحية ". فقال: " أرضعيه يذهب ما في وجه أبي حذيفة " فقالت: " والله ما عرفته في وجه أبي حذيفة " وإرضاع الكبير كان خاصاً لسالم وليس لأحد من بعده ".

وقوله تعالى: (فِيمَا فَرَضَ اللهُ لَهُ) معناه: فيما شرع الله له و " أحله له " كما قال قتادة في رواية الطبري عنه.

وهذا الحل يشير إلى أنه كان قبله حظر ومنع. والحظر الذي كان هنا لم يكن حظراً شرعياً بل هو ما كان عليه أهل الجاهلية من تحريم لزوجة الدعي بزعمه ابناً عندهم.

فالله تعالى قال لنبيه صلى الله عليه وسلم هذا الحظر من الأباطيل التي لم تشرع في دينك ورسالتك والله تعالى شرع لك فيها ما أحله لك ولأمتك من التزوج بزوجة الدعي بعد فراقه إياها وانتهاء عدتها منه.

ص: 275

وهذا على خلاف قوله " فرض عليك " فإنه مشعر بالإلزام والإيجاب.

ثم قال تعالى: (سُنَّةَ اللهِ فِي الَّذِينَ خَلَوْا مِنْ قَبْلُ) ويعني بسنة الله: طرائقه في شرائعه لأنبيائه ورسله السابقين من كل ما أحله لهم ولأممهم عموماً، ويدخل فيه ما حظرته أباطيل الجاهلية وهو حلال في شرائع الله تعالى.

ثم بيّن تعالى أن تشريع الله وأوامره ونواهيه القضائية في قدره حق واقع لا يتخلف فقال (وَكَانَ أَمْرُ اللهِ قَدَرًا مَقْدُورًا).

ثم بيّن تعالى أن (الَّذِينَ خَلَوْا مِنْ قَبْلُ) -أي الرسل الذين سبقوا الرسول محمداً صلى الله عليه وسلم برسالاتهم وأنه شرع لهم في شرائعهم ما أحله الله لهم ولأممهم فكانوا يبلغونه إلى أممهم، لأنه من رسالات الله التي أوجب الله عليهم تبليغها لهم- لم يخافوا أحداً غير الله في تبليغ ما أنزل إليهم مهما كان فيه من حرج جاهلي وشدة في التبليغ وإبطال لعادات ألفها الجاهليون وقاموا عليها حياتهم. فقال تعالى في وصفهم (الَّذِينَ يُبَلِّغُونَ رِسَالَاتِ اللهِ وَيَخْشَوْنَهُ وَلَا يَخْشَوْنَ أَحَدًا إِلَّا اللهَ).

وهذا معناه: أنهم القدوة في سنن الله وشرائعه وتبليغها إلى أممهم دون خوف أو خشية من أحد كما قال تعالى (أُولَئِكَ الَّذِينَ هَدَى اللهُ فَبِهُدَاهُمُ اقْتَدِهْ).

ص: 276

فهو من قبيل الإرشاد والتربية لرسول الله صلى الله عليه وسلم في أن يكون في تبليغ أوامر الله تعالى وشريعته إلى أمته على سنن إخوانه الأنبياء والمرسلين لا يخشى في التبليغ أحداً إلا الله.

وليس في هذا إشارة من قريب أو بعيد تفيد أن النبي صلى الله عليه وسلم خشي - في تبليغه رسالات الله أحداً غير الله.

ثم قال الله لرسوله صلى الله عليه وسلم إن الله تعالى هو المختص بمحاسبة الضمائر والقلوب على ما تضمر وتُكِن، والجوارح على ما تعمل فقال (وَكَفَى بِاللهِ حَسِيبًا) ومعناه: أن الخوف والرجاء لا يكونان إلا من الله ولله تعالى وليس لأحد من الخلق دخل في رجاء أو خوف، لأنَّهم لا يملكون لأنفسهم ضراً ولا نفعاً.

فالذي قاله المنافقون وخبثاء اليهود، ونفايات الناس أهل الوثنية - من قالة السوء، وإشاعة الأباطيل عن رسول الله صلى الله عليه وسلم في زواجه بزينب التي كانت زوجاً لزيد بن حارثة: قد تزوج زوجة ابنه وكان يحرمها - باطل.

وقد رد الله عليهم قالتهم وأكاذيبهم وجهالتهم وقولهم على الله غير الحق بقوله (مَا كَانَ مُحَمَّدٌ أَبَا أَحَدٍ مِنْ رِجَالِكُمْ وَلَكِنْ رَسُولَ اللهِ وَخَاتَمَ النَّبِيِّينَ وَكَانَ اللهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمًا) بياناً لأن التحريم الذي كان ينادي به رسول الله صلى الله عليه وسلم وما زال، وأنزله الله عليه في شريعته إنما هو في زوجة الابن الصلبي النسبي الذي جاء في قوله تعالى:(وَحَلَائِلُ أَبْنَائِكُمُ الَّذِينَ مِنْ أَصْلَابِكُمْ) وليس الدعي ابناً صلبياً نسبياً، وإنما كان ابناً ادعائياً، فالنبي صلى الله عليه وسلم لم يكن أباً

ص: 277

لأحد من رجالهم أبوة صلبية نسبية حتى يحتج بها في تحريم زوجة الابن الدعي.

وفي أسلوب الآية ما يشعر بالعموم الشمولي الذي ينفي كل أبوة صلبية للنبي صلى الله عليه وسلم عن أي فرد من أفرادهم، وذلك بدلالة التنكير في قوله (أبا) و (أحد) والإضافة في قوله (من رجالكم).

ثم أثبت للنبي صلى الله عليه وسلم ما يثبت له أبوة التقديس والاحترام والتوقير -كإثبات الأمومة لأمهات المؤمنين في قوله تعالى: (وَأَزْوَاجُهُ أُمَّهَاتُهُمْ) - فقال تعالى مستدركاً على العموم السابق: " وَلَكِنْ رَسُولَ اللهِ " فكل رسول أب لأمته في الاحترام والتقديس والتوقير، وإلى هذا يشير قوله تعالى (النَّبِيُّ أَوْلَى بِالْمُؤْمِنِينَ مِنْ أَنْفُسِهِمْ) وقد قيل في بعض التفاسير وكتب الحديث إنه قرئ " وهو أبٌ لهم " وهذا محمول على أنه تفسير الأولوية في قوله (أَوْلَى بِالْمُؤْمِنِينَ).

والرسالة إذ يلزمها ذلك فهي عامة الترابط لكل مؤمن برسول الله صلى الله عليه وسلم، فالاستدراك جيء به لإثبات هذه الرابطة العامة بكل مؤمن وهى في حقيقتها أعظم وأجل من رابطة الأبوة لأن الله تعالى قال في حق رسول الله صلى الله عليه وسلم بالنسبة للمؤمنين (بِالْمُؤْمِنِينَ رَءُوفٌ رَحِيمٌ) فخصه صلى الله عليه وسلم بذلك، بعد وصفه بالرسالة في هذه الآية نفسها بقوله (لَقَدْ جَاءَكُمْ رَسُولٌ مِنْ أَنْفُسِكُمْ)

ص: 278

ليحقق هذا الترابط الشامل للأمة في حاضرها، ومستقبلها إلى يوم القيامة، لأن النبي صلى الله عليه وسلم أسوة دائمة لأمته، وقدوة لها في جميع ما تأتي به من خير أو تذر من شر، وهذا إنما كان مستمداً من رسالته وشريعته في عمومها وخلودها.

ثم قال تعالى: (وَخَاتَمَ النَّبِيِّينَ) ليبين أن هذه الرابطة بينه صلى الله عليه وسلم وبين جميع المؤمنين لا تقتضي وراثة في النبوة ليقطع جذور إدعاء أحد من أمته النبوة من بعده اعتماداً على رابطة الأبوة بالرسالة وبياناً لأنه صلى الله عليه وسلم لا نبي بعده يستدرك عليه وعلى شريعته شيئاً من الأحكام والتشريع، لأن ختم النبوة يستلزم حتماً ختم التشريع.

وهذا يقتضي باعتبار عموم رسالته وخلودها أن تكون كاملة في أصولها وجميع ما يتفرع عن تلك الأصول لتؤدي إلى الأمة المسلمة وإلى الحياة عامة ما تتطلبه احتياجاتها في سائر الأزمنة والأمكنة والأجيال فتشمل الحاضر والمستقبل إلى أن يرث الله الأرض ومن عليها.

ثم ختم الآية الكريمة بقوله تعالى: (وَكَانَ اللهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمًا) بياناً لعموم إحاطة علمه تعالى بأحوال عباده، وما يشرعه لهم من شرائع الخير والهدى وجعل رسول الله صلى الله عليه وسلم هو النبراس الذي يضيء لأمته طريق السير في هدايتها.

بعد هذا العرض للقصة كما تفيدها الآيات الكريمة وسياقاتها نرى أن نعرض في إجمال وإيجاز -ما قيل فيها من اختلاف أقوال العلماء- فأقول:

ص: 279