المَكتَبَةُ الشَّامِلَةُ السُّنِّيَّةُ

الرئيسية

أقسام المكتبة

المؤلفين

القرآن

البحث 📚

‌(موئل العتاب من هذه الآية) - آيات عتاب المصطفى في ضوء العصمة والإجتهاد

[عويد المطرفي]

فهرس الكتاب

- ‌خطبة الكتاب

- ‌خطر المناهج الأجنبية على المسلمين

- ‌المقدمة

- ‌من مفتريات أعداء الله ورسوله

- ‌انسياق وغفلة

- ‌أسباب كتابة هذا البحث

- ‌منهجية البحث والتناول

- ‌الباب الأولعصمة الأنبياء عليهم الصلاة والسلام

- ‌العصمة في اللغة

- ‌حاصل ما تدل عليه أقوال أهل اللغة

- ‌العصمة في الاصطلاح

- ‌نشأة التعريف الاصطلاحي

- ‌تعريف الراغب ودلالته

- ‌تعريف الحافظ ابن حجر

- ‌تعريف السعد

- ‌اتفاق التعريفين في المآل والثمرة

- ‌تعريف ابن الهمام

- ‌تعريف الحكماء

- ‌جمع اللقاني معاني التعريفات

- ‌ما تنتهي إليه تعريفات العلماء للعصمة اصطلاحاً

- ‌مواقع العصمة من حياة الأنبياء عليهم الصلاة والسلام

- ‌ عصمة الأنبياء - عليهم الصلاة والسلام - قبل البعثة

- ‌اعتراض وجوابه

- ‌الاستدلال رواية على عصمة الأنبياء قبل النبوة

- ‌الانتصار لصحة هذا الحديث

- ‌وجوه صحة هذا الحديث

- ‌عصمة الأنبياء - عليهم الصلاة والسلام - بعد البعثة

- ‌عصمة الأنبياء من الكذب

- ‌منع السهو والنسيان على الأنبياء في التبليغ

- ‌انتصار ابن تيمية للقول بعصمة الأنبياء في التبليغ

- ‌إجماع العلماء على القول بوجوب عصمة الأنبياء في التبليغ

- ‌تنوع الذنوب إلى صغائر وكبائر

- ‌مسالك التكليف

- ‌وجه القول بأن جميع الذنوب كبائر

- ‌جمع الحافظ ابن حجر بين قولي ابن عباس في الكبائر

- ‌الاستدلال بالقرآن والسنة على تنوع الذنوب إلى صغائر وكبائر

- ‌الأدلة من السنة على تنوع الذنوب إلى صغائر وكبائر

- ‌الأدلة من أقوال الصحابة والتابعبن على انقسام الذنوب إلى كبائر وصغائر

- ‌خطر القول بأن جميع الذنوب كبائر

- ‌عصمة الأنبياء عليهم الصلاة والسلام من الذنوب صغائرها وكبائرها

- ‌وجوه الاستدلال على عصمة الأنبياء من الصغائر والكبائر

- ‌توافر وسائل الرواية على عصمة النبي صلى الله عليه وسلم من جميع الذنوب

- ‌الباب الثانيالاجتهاد

- ‌تعريف الاجتهاد لغة

- ‌تعريف الاجتهاد اصطلاحاً

- ‌الفرق بين اجتهاد النبي صلى الله عليه وسلم واجتهاد علماء أمته

- ‌اجتهاد النبي صلى الله عليه وسلم

- ‌أدلة المانعين لاجتهاد الرسول صلى الله عليه وسلم

- ‌أدلة الجمهور على جواز اجتهاد الرسول صلى الله عليه وسلم

- ‌أدلتهم من السنة

- ‌أظهر أدلتهم العقلية

- ‌أدلة القائلين بجواز الاجتهاد له صلى الله عليه وسلم في الحروب فقط

- ‌الباب الثالث

- ‌معنى العتاب

- ‌تباين أسلوب الآيات المكية والمدنية في تربية الله للنبي صلى الله عليه وسلم

- ‌ما يلمح من شدة العتاب فيراد به تربية المجتمع

- ‌العتاب في اللغة

- ‌منهجي في التعرف على آيات العتاب

- ‌أنواع عتاب الله تعالى لنبيه عليه الصلاة والسلام:

- ‌الذنب

- ‌اختلاف نسبة الذنب باختلاف الفعل والفاعل وقصد الفاعل

- ‌إسناد الذنب إلى ضمير خطاب رسول الله في القرآن الكريم

- ‌دلالة أمره تعالى لنبيه صلى الله عليه وسلم بالصبر

- ‌دلالة أمره صلى الله عليه وسلم بالاستغفار في سورة محمد

- ‌دلالته في آية سورة الفتح

- ‌تهنئة وتطلع

- ‌التوبة

- ‌التوبة لغة

- ‌اختلاف التوبة باختلاف التائبين

- ‌آيات عتاب المصطفى صلى الله عليه وسلم

- ‌النوع الأول

- ‌الحال الأول من عتاب التوجيه

- ‌من تَلَطُّف الله برسوله صلى الله عليه وسلم في الخطاب

- ‌الحال الأولى

- ‌الحال الثانية

- ‌حراسة فتيان بني هاشم لرسول الله صلى الله عليه وسلم

- ‌العباس أحد حراس رسول الله صلى الله عليه وسلم

- ‌(ملازمة العباس لرسول الله صلى الله عليه وسلم

- ‌(قدوم البراء وكعب ابن مالك على رسول الله صلى الله عليه وسلم

- ‌(حضور العباس بيعة العقبة الكبرى)

- ‌(أسباب حراسته صلى الله عليه وسلم بمكة)

- ‌(أسباب حراسته صلى الله عليه وسلم بالمدينة)

- ‌(حراسة أبي أيوب رسول الله صلى الله عليه وسلم ليلة بنائه بصفية)

- ‌(مشروعية حراسة ولي الأمر)

- ‌(وثوق الرسول صلى الله عليه وسلم بعصمة الله له)

- ‌ظهور القول بمكية (وَاللهُ يَعْصِمُكَ مِنَ النَّاسِ)

- ‌القسم الأول من عتاب التوجيه

- ‌(الحرج لغة)

- ‌(الغرض من النهي عن الحرج من الإنذار بالقرآن)

- ‌(من جميل التلطف في الخطاب برسول الله صلى الله عليه وسلم

- ‌(ثانية آيات العتاب التوجيهي)

- ‌ما يدل عليه التعبير بـ (لعل) في هذه الآية

- ‌(موطن العتاب في هذه الآية الكريمة)

- ‌(الآية الثالثة)

- ‌(موطن العتاب فيها)

- ‌(عتاب الدفع وتقوية العزيمة)

- ‌القسم الثاني من عتاب التوجيه

- ‌(آيات عتاب الإقصار)

- ‌(تضمُّن القرآن وجوه الخير)

- ‌(التلطف والإشفاق برسول الله صلى الله عليه وسلم في توجيه الخطاب إليه)

- ‌(موطن العتاب في الآية)

- ‌(موضع العتاب من هذه الآية)

- ‌الآية الثالثة من آيات عتاب الإقصار

- ‌(موضع العتاب منها)

- ‌(محصلة هذا النوع من العتاب التلطف به)

- ‌النوع الثاني عتاب التنبيه

- ‌(الغرض من هذا النوع)

- ‌(حصر آيات هذا النوع من العتاب)

- ‌(أولى آيات هذا النوع من العتاب)

- ‌(تهديد المتقاعسين عن الخروج إلى غزوة تبوك)

- ‌(إظهار نوايا المنافقين للتحذير منهم)

- ‌(موضع العتاب من الآية)

- ‌(بيان وجه الصواب في الإذن لهم بالقعود)

- ‌(نفي الإيمان عن المستأذنين)

- ‌(ظهور عداوة المنافقين توجب منعهم من الخروج مع جيش المؤمنين)

- ‌(وجوه صواب إذن رسول الله صلى الله عليه وسلم للمنافقين بالقعود عن الخروج معه)

- ‌(خطر اندساس المنافقين في المجتمع الإسلامي)

- ‌(جفوة التعبير دليل ضعف في التفكير)

- ‌(تلطف في التعبير لا عتاباً له)

- ‌(إجراء الخطاب على وجهه خير من تأويله)

- ‌(موضع العتاب في هذه الآية)

- ‌(ثانية آيات هذا النوع من العتاب)

- ‌(نفي التخيير عن دلالة هذه الآية)

- ‌(إفادة العدد سبعة)

- ‌(تقديم منطوق حديث ابن عباس على منطوق حديث ابن عمر)

- ‌(الرد على الزمخشري)

- ‌(التماس وجه القول لصلاة رسول الله صلى الله عليه وسلم على عبد الله ابن أبي)

- ‌(النهي عن الاستغفار للمشركين)

- ‌(نفي التهيؤ للفعل أبلغ من نفي الفعل)

- ‌(موقع العتاب من هذه الآية)

- ‌(إيجاب تعليق عموم الأعمال على مشيئة الله)

- ‌(وجه كون الخطاب بهذه الآية عتاباً)

- ‌النوع الثالث عتاب التحذير

- ‌(آيات عتاب التحذير)

- ‌(تفصيل القول في الموضع الأول من هذه الآيات)

- ‌(الأمر بالتزام الحق والعدل في معاملة جميع الناس)

- ‌(ما يدل عليه توسيط الأمر بالاستغفار بين النهيين)

- ‌(تصوير حال المختانين أنفسهم)

- ‌(وصفهم بسوء ما بيتوا للتحذير من الاغترار بمثل ما تجمعوا عليه)

- ‌(التمويه بالجدل الكاذب في الدنيا لا ينجي من عذاب الآخرة)

- ‌(فتح باب التوبة للتائبين)

- ‌(قطع أطماع المنافقين في حجب الحقيقة عن رسول الله صلى الله عليه وسلم

- ‌(موضع العتاب في هذه الآية)

- ‌(ثانية آيات هذا النوع من العتاب)

- ‌(تسلية رسول الله صلى الله عليه وسلم عما يلقاه من أذى المشركين)

- ‌(الرد على المستهينين بالفقراء من المؤمنين)

- ‌(ما فتن به المستكبرون عن قبول الإيمان)

- ‌(ما يكون به علو المنزلة عند الله ورسوله)

- ‌(موضع العتاب من هذه الآية)

- ‌(الربط بين آية سورة الأنعام وآية سورة الكهف الناهيتين عن طرد الذين يدعون ربهم)

- ‌(اختصاص الله بعلم الغيب وانفراده بالحكم في خلقه)

- ‌(تيئيس رسول الله صلى الله عليه وسلم من رجاء إيمان المستكبرين)

- ‌(تهديدهم بالعذاب الشديد)

- ‌(وجه العتاب في الآية)

- ‌(النهي عن استبقاء الأسرى)

- ‌(توجيه وجه الخطاب بالآية الكريمة)

- ‌(تنزيه رسول الله صلى الله عليه وسلم عن إرادة شيء من الدنيا)

- ‌(موضع العتاب من الآية)

- ‌(المعاتبون بالآية)

- ‌(إشارة إلى اختلاف العلماء في بيان الإبهام بالمراد بالكتاب الذي سبق)

- ‌(قرار الصحابة بأخذ الفداء)

- ‌(لا عتاب على الفداء ولا على أخذ الغنيمة)

- ‌(توجيه العتاب إلى من تعجلوا أخذ الغنيمة ولم يثخنوا في العدو)

- ‌(وجه القول بأن في الآية عتاباً)

- ‌(إبطال عادة التبني على يدي رسول الله صلى الله عليه وسلم

- ‌(تزويج الله عز وجل زينب بنت جحش رسول الله صلى الله عليه وسلم

- ‌(ما أخفاه النبي صلى الله عليه وسلم في نفسه)

- ‌(احتمالات ما يدل عليه الخطاب بهذه الآية الكريمة)

- ‌(ما كان يخشاه من الناس)

- ‌(التشريع المقصود بهذه الآية الكريمة)

- ‌(التنويه بزيد بن حارثة ووجه ذلك)

- ‌(رد الله تعالى عن رسوله صلى الله عليه وسلم

- ‌(وجه تقديم نفي الحرج عن المؤمنين على نفيه عن النبي صلى الله عليه وسلم

- ‌(رفع الحرج عن المجتمع المؤمن بإبطال عادة التبني)

- ‌(تنزه كثير من أهل العلم عن أقوال القصاص)

- ‌(مذهب السلف إثبات ما أثبته القرآن الكريم)

- ‌(العمل على إبطال التعاظم بالأنساب والأحساب)

- ‌(بدء التنافر بين قلبي زينب وزيد بن حارثة)

- ‌(الله المزوِّج وجبريل الشاهد)

- ‌(الخير العام في كل من زواج زييد بن حارثة بزينب بنت جحش وطلاقه لها)

- ‌(آية آخرى في عتاب التحذير)

- ‌(المنع المحرم وغير المحرم)

- ‌(التحليل والتحريم خاص بالله)

- ‌(ما يدل عليه تصدير الآية بندائه بوصف النبوة)

- ‌(ما حرمه النبي صلى الله عليه وسلم على نفسه)

- ‌(موئل العتاب من هذه الآية)

- ‌(قصة نزول عبس وتولى)

- ‌الخاتمة

الفصل: ‌(موئل العتاب من هذه الآية)

فَاتَّبِعُونِي يُحْبِبْكُمُ اللهُ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ) وفي قوله تعالى: (وَمَا آتَاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَمَا نَهَاكُمْ عَنْهُ فَانْتَهُوا) إذ لو لم يحذر صلى الله عليه وسلم من التحريم على نفسه مما أحله الله له لكان قد أتانا به.

والمتابعة -في القدوة- قائمة دائمة خالدة مع دوام الرسالة وخلود شرائعها وأحكامها، فلا ينبغي لمن رفع الله شأنه فوق جميع خلقه، وجعله القدوة الحسنة لأمته أن يمنع نفسه مما أحله الله له تطلباً وابتغاء لمرضاة أزواجه، لأن ذلك مما يشق على أمته في مستقبل حياتها.

وختمت هذه الآية الكريمة -موضع البحث- بقوله تعالى: (وَاللهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ) تلطفاً به صلى الله عليه وسلم، وإشعاراً له بعلو مقامه، وأنه لا ينبغي له وقد حباه الله تعالى بفضله، ورفعه مكاناً علياً على سائر خلقه أن يكون في مستوى دون مستوى مقامه الرفيع في ترضية أزواجه.

والغفران والرحمة من باب التبشير له صلى الله عليه وسلم بكمال الطهر والنقاء على حد قوله تعالى (لِيَغْفِرَ لَكَ اللهُ مَا تَقَدَّمَ مِنْ ذَنْبِكَ وَمَا تَأَخَّرَ)، لم يقع منه صلى الله عليه وسلم ذنب يقتضي الغفران وإنما الذي وقع منه صلى الله عليه وسلم تنازل منه عن بعض فضله، ورفعة شأنه ترضية لزوجاته وإحساناً لهن ورحمة بهن.

* * *

(موئل العتاب من هذه الآية)

وبناء على ما تقدم وعلى ترجيح أن الذي حرمه النبي صلى الله عليه وسلم على نفسه هو سريته مارية القبطة أم ولده إبراهيم يكون العتاب على ما كان منه صلى الله عليه وسلم من تقديمه رضا أزواجه على ما يختص براحته النفسية ومتعته الجسدية

ص: 298

وسروره القلبي بمنعه نفسه مما أحله الله له لابتغاء مرضاة أزواجه. فالقيد " تَبْتَغِي مَرْضَاتَ أَزْوَاجِكَ " هو محط العتاب في الحقيقة، فكأنه قيل له: يا أيها النبي لم تمنع نفسك وتحرمها مما أحل الله لك من متعة وراحة وسرور تَبْتَغِي بذلك مَرْضَاتَ أَزْوَاجِكَ؟.

وليس مجرد منعه صلى الله عليه وسلم نفسه من المتعة بالمباح محلاً للعتاب لأنه صلى الله عليه وسلم كثيراً ما منع نفسه من بعض المباحات -التي ينعم بها الناس ولا سيما في مجال المتعة الجسدية- زهداً في الدنيا وبعداً عنها، ولم يحظر عليه ذلك، ولم يعاتبه الله تعالى على شيء من ذلك كله.

وفي ذلك تلميح إلى ما فِي طبائع النساء من قلة رضاهُنّ بما يمنحن من الفضل والعطاء والإحسان.

وفيه -أيضاً- تلميح إلى أن النبي صلى الله عليه وسلم في مكانته العليا وفضله العظيم أنه ما كان ينبغي له صلى الله عليه وسلم أن يتنزل -تفضلاً منه وإحساناً إليهن- بمقامه العظيم عند ترضية أزواجه بتحريم ما أحل الله له، ومنعه نفسه الطاهرة من المتعة والسرور لمجرد إرضائهن.

وإن رضاءهن -ولا سيما فيما يختص بأسرار الزوجية ومتعتها- عزيز المنال أن رضين مرة فقد يغضبن مرات.

ومن هنا كان في ذلك درس بالغ لتربية أزواجه الطاهرات على سنن الزوجية، وكان في ذلك -أيضاً- درس للنبي صلى الله عليه وسلم في معاملة أزواجه ومعاشرتهن معاشرة تبقى معها القدوة للنساء المؤمنات.

ص: 299

أما قوله تعالى: (قَدْ فَرَضَ اللهُ لَكُمْ تَحِلَّةَ أَيْمَانِكُمْ) فإن حملناه على ما جاء في الروايات من أن النبي صلى الله عليه وسلم حلف لحفصة ألا يصيب مارية فيكون معنى الآية: قد شرع الله لكم الكفارة لتتحللوا من أيمانكم في قوله تعالى -من سورة المائدة- (لَا يُؤَاخِذُكُمُ اللهُ بِاللَّغْوِ فِي أَيْمَانِكُمْ وَلَكِنْ يُؤَاخِذُكُمْ بِمَا عَقَّدْتُمُ الْأَيْمَانَ فَكَفَّارَتُهُ إِطْعَامُ عَشَرَةِ مَسَاكِينَ مِنْ أَوْسَطِ مَا تُطْعِمُونَ أَهْلِيكُمْ أَوْ كِسْوَتُهُمْ أَوْ تَحْرِيرُ رَقَبَةٍ فَمَنْ لَمْ يَجِدْ فَصِيَامُ ثَلَاثَةِ أَيَّامٍ ذَلِكَ كَفَّارَةُ أَيْمَانِكُمْ إِذَا حَلَفْتُمْ وَاحْفَظُوا أَيْمَانَكُمْ كَذَلِكَ يُبَيِّنُ اللهُ لَكُمْ آيَاتِهِ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ (89)).

وإن حملناه على غير هذه الروايات فيكون من باب المجاز بجعل عزيمة النبي صلى الله عليه وسلم المصممة على عدم إصابة سريته في قوة الحلف على ذلك.

ولا شك أن الوجه الأول أظهر لموافقته لظاهر الآية الكريمة.

وأما قوله (وَهُوَ الْعَلِيمُ الْحَكِيمُ) فهو بيان لإحاطة علم الله تعالى بما كان وما يكون، وأن ذاك جار على مقتضى الحكمة الإلهية التي تضع الأمور في مواضعها.

ثم قال تعالى: (وَإِذْ أَسَرَّ النَّبِيُّ إِلَى بَعْضِ أَزْوَاجِهِ حَدِيثًا فَلَمَّا نَبَّأَتْ بِهِ وَأَظْهَرَهُ اللهُ عَلَيْهِ عَرَّفَ بَعْضَهُ وَأَعْرَضَ عَنْ بَعْضٍ فَلَمَّا نَبَّأَهَا بِهِ قَالَتْ مَنْ أَنْبَأَكَ هَذَا قَالَ نَبَّأَنِيَ الْعَلِيمُ الْخَبِيرُ (3) إِنْ تَتُوبَا إِلَى اللهِ فَقَدْ صَغَتْ قُلُوبُكُمَا وَإِنْ تَظَاهَرَا عَلَيْهِ فَإِنَّ اللهَ هُوَ مَوْلَاهُ وَجِبْرِيلُ وَصَالِحُ الْمُؤْمِنِينَ وَالْمَلَائِكَةُ بَعْدَ ذَلِكَ ظَهِيرٌ (4) عَسَى رَبُّهُ إِنْ طَلَّقَكُنَّ أَنْ يُبْدِلَهُ أَزْوَاجًا خَيْرًا مِنْكُنَّ مُسْلِمَاتٍ مُؤْمِنَاتٍ

ص: 300

قَانِتَاتٍ تَائِبَاتٍ عَابِدَاتٍ سَائِحَاتٍ ثَيِّبَاتٍ وَأَبْكَارًا (5)) فهذا من الامتنان على النبي صلى الله عليه وسلم، وتذكيره بنعم الله تعالى عليه لأن قوله (وَإِذْ أَسَرَّ النَّبِيُّ) معمول لفعل محذوف تقديره واذكر إذ أسر النبي.

وإبراز النبي صلى الله عليه وسلم بالاسم الظاهر بوصف النبوة، وكان مقتضى الظاهر أن يقال: وإذا أسررت إلى بعض أزواجك حديثاً، من باب الحفاوة بالنبي صلى الله عليه وسلم وإظهاره في هذا المقام بأشرف أوصافه وهو النبوة مما يتضمن تعريضاً بمن أفشت سره صلى الله عليه وسلم منهن.

وفي قوله (إِلَى بَعْضِ أَزْوَاجِهِ) بصورة الإبهام تلطف بهن بعدم الكشف عن شخصيتهن.

وتنكير " حديثاً " للدلالة على عظمة هذا الحديث وأنه من الأسرار التي ما كان ينبغى أن تفشى، وتذاع ولو لأصدق الصديقات.

وهذا الحديث الذي أسره النبي صلى الله عليه وسلم إلى بعض أزواجه هو تحريمه مارية ومنعه نفسه صلى الله عليه وسلم من التمتع بها إرضاء للتي غضبت وتألمت مما نالها من جراء تمتع النبي صلى الله عليه وسلم بسريته في بيتها.

ْويحتمل أن يكون الحديث الذي أسره النبي صلى الله عليه وسلم إلى بعض أزواجه -عند من يقول بغير ما رجحنا- هو منعه نفسه صلى الله عليه وسلم من شرب العسل كما ورد في بعض الروايات.

ْويحتمل أن يكون إخبار النبي صلى الله عليه وسلم حفصة أن أباها عمر بن الخطاب رضي الله عنه سيلي أمر أمته صلى الله عليه وسلم بعد أبي بكر رضي الله عنه.

ص: 301

وتحتمل الآية العموم الشامل لتحريم السرية والإنباء بالخلافة أو لتحريم العسل والإنباء بالخلافة.

ولما أفشت من أسر إليها هذا الحديث إلى صديقتها وكان النبي صلى الله عليه وسلم قد أخذ عليها أن تكتمه ولا تخبر به أحداً عرفه الله تعالى إفشاءها سره وأظهره عليه، فذهب عن الحديث وصف سريته وعرف النبي صلى الله عليه وسلم بعضه وأعرض عن بعض.

والذي عرف به هو تحريم سريته صلى الله عليه وسلم أو شربه العسل، والذي أعرض عنه هو الإنباء بالخلافة لما يترتب على إذاعته والتحدث فيه من أضرار وفتنة قد تؤثر على أنفس بعض المؤمنين الذين قد يكونون يتطلعون -في صمت- إلى منصب الخلافة بعد رسول الله صلى الله عليه وسلم.

فلما نبأ النبي صلى الله عليه وسلم صاحبة إذاعة السر وإفشائه بما أفشته من سره دهشت وقالت: " من أنبأك هذا؟ " ولعلها ظنت أن صاحبتها هي التي أخبرته فقالت له: " من أنبأك هذا؟ " فقال لها -كما حكى الله تعالى ذلك- " نَبَّأَنِيَ الْعَلِيمُ الْخَبِيرُ ".

ثم توجه الخطاب في قوله تعالى (إِنْ تَتُوبَا إِلَى اللهِ فَقَدْ صَغَتْ قُلُوبُكُمَا) -من باب الحفاوة بالنبي صلى الله عليه وسلم، والتأديب لمن أفشت سره بهذا الأسلوب المشعر بالزجر والتهديد- إلى اللتين تظاهرتا عليه صلى الله عليه وسلم بالإذاية والغيرة وإفشاء سره بأنهما إن يتوبا إلى الله تعالى مما أزعجا به النبي صلى الله عليه وسلم فإن التوبة حق واجب عليكما لأن قلوبكما قد مالت عن الحق كما تدل عليه قراءة ابن مسعود رضي الله عنه " زاغت قلوبكما ".

ص: 302

وعلى هذا فإن قوله (فَقَدْ صَغَتْ قُلُوبُكُمَا) ليس جواب الشرط وإنما هو دليله وتعليله.

والمعنى على هذا: إن تتوبا إلى الله، وترجعا عن مغاضبة رسول الله صلى الله عليه وسلم، وإيذائه بالتظاهر عليه وإفشاء سره فالتوبة حق واجب عليكما، لأن قلوبكما قد زاغت ومالت عن الحق في مغاضبة رسول الله صلى الله عليه وسلم وإيذائه.

ويمكن أن تحمل الآية على فهم آخر يأتي من حمل قوله تعالى: (فَقَدْ صَغَتْ قُلُوبُكُمَا) على معنى أنها مالت " إلى الحق وهو ما وجب من مجانبة ما يسخط رسوله صلى الله عليه وسلم وندمت على ما كان منها من مغاضبة النبي صلى الله عليه وسلم وإيذاه.

والمعنى على هذا: إن تتوبا إلى الله وترجعا عن مغاضبة النبي صلى الله عليه وسلم وتندما على ما كان منكما، فقد مالت قلوبكما إلى الحق ومصالحة النبي صلى الله عليه وسلم ومراضاته، وأن ما كان منكما من مغاضبة وإيذاء لم يكن صادراً عن قلوبكما وإنما هو فورة غضب ونار غيرة.

ويؤيد هذا قوله (وَإِنْ تَظَاهَرَا عَلَيْهِ) أي استمررتما على المغاضبة والإيذاء وتعاونتما عليها فإن الله تعالى ناصر رسوله بقوته القاهرة وخواص ملائكته وعامتهم وصالح المؤمنين، وهذا كالمقابل لقوله (إِنْ تَتُوبَا إِلَى اللهِ فَقَدْ صَغَتْ قُلُوبُكُمَا).

ص: 303