الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
فَاتَّبِعُونِي يُحْبِبْكُمُ اللهُ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ) وفي قوله تعالى: (وَمَا آتَاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَمَا نَهَاكُمْ عَنْهُ فَانْتَهُوا) إذ لو لم يحذر صلى الله عليه وسلم من التحريم على نفسه مما أحله الله له لكان قد أتانا به.
والمتابعة -في القدوة- قائمة دائمة خالدة مع دوام الرسالة وخلود شرائعها وأحكامها، فلا ينبغي لمن رفع الله شأنه فوق جميع خلقه، وجعله القدوة الحسنة لأمته أن يمنع نفسه مما أحله الله له تطلباً وابتغاء لمرضاة أزواجه، لأن ذلك مما يشق على أمته في مستقبل حياتها.
وختمت هذه الآية الكريمة -موضع البحث- بقوله تعالى: (وَاللهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ) تلطفاً به صلى الله عليه وسلم، وإشعاراً له بعلو مقامه، وأنه لا ينبغي له وقد حباه الله تعالى بفضله، ورفعه مكاناً علياً على سائر خلقه أن يكون في مستوى دون مستوى مقامه الرفيع في ترضية أزواجه.
والغفران والرحمة من باب التبشير له صلى الله عليه وسلم بكمال الطهر والنقاء على حد قوله تعالى (لِيَغْفِرَ لَكَ اللهُ مَا تَقَدَّمَ مِنْ ذَنْبِكَ وَمَا تَأَخَّرَ)، لم يقع منه صلى الله عليه وسلم ذنب يقتضي الغفران وإنما الذي وقع منه صلى الله عليه وسلم تنازل منه عن بعض فضله، ورفعة شأنه ترضية لزوجاته وإحساناً لهن ورحمة بهن.
* * *
(موئل العتاب من هذه الآية)
وبناء على ما تقدم وعلى ترجيح أن الذي حرمه النبي صلى الله عليه وسلم على نفسه هو سريته مارية القبطة أم ولده إبراهيم يكون العتاب على ما كان منه صلى الله عليه وسلم من تقديمه رضا أزواجه على ما يختص براحته النفسية ومتعته الجسدية
وسروره القلبي بمنعه نفسه مما أحله الله له لابتغاء مرضاة أزواجه. فالقيد " تَبْتَغِي مَرْضَاتَ أَزْوَاجِكَ " هو محط العتاب في الحقيقة، فكأنه قيل له: يا أيها النبي لم تمنع نفسك وتحرمها مما أحل الله لك من متعة وراحة وسرور تَبْتَغِي بذلك مَرْضَاتَ أَزْوَاجِكَ؟.
وليس مجرد منعه صلى الله عليه وسلم نفسه من المتعة بالمباح محلاً للعتاب لأنه صلى الله عليه وسلم كثيراً ما منع نفسه من بعض المباحات -التي ينعم بها الناس ولا سيما في مجال المتعة الجسدية- زهداً في الدنيا وبعداً عنها، ولم يحظر عليه ذلك، ولم يعاتبه الله تعالى على شيء من ذلك كله.
وفي ذلك تلميح إلى ما فِي طبائع النساء من قلة رضاهُنّ بما يمنحن من الفضل والعطاء والإحسان.
وفيه -أيضاً- تلميح إلى أن النبي صلى الله عليه وسلم في مكانته العليا وفضله العظيم أنه ما كان ينبغي له صلى الله عليه وسلم أن يتنزل -تفضلاً منه وإحساناً إليهن- بمقامه العظيم عند ترضية أزواجه بتحريم ما أحل الله له، ومنعه نفسه الطاهرة من المتعة والسرور لمجرد إرضائهن.
وإن رضاءهن -ولا سيما فيما يختص بأسرار الزوجية ومتعتها- عزيز المنال أن رضين مرة فقد يغضبن مرات.
ومن هنا كان في ذلك درس بالغ لتربية أزواجه الطاهرات على سنن الزوجية، وكان في ذلك -أيضاً- درس للنبي صلى الله عليه وسلم في معاملة أزواجه ومعاشرتهن معاشرة تبقى معها القدوة للنساء المؤمنات.
أما قوله تعالى: (قَدْ فَرَضَ اللهُ لَكُمْ تَحِلَّةَ أَيْمَانِكُمْ) فإن حملناه على ما جاء في الروايات من أن النبي صلى الله عليه وسلم حلف لحفصة ألا يصيب مارية فيكون معنى الآية: قد شرع الله لكم الكفارة لتتحللوا من أيمانكم في قوله تعالى -من سورة المائدة- (لَا يُؤَاخِذُكُمُ اللهُ بِاللَّغْوِ فِي أَيْمَانِكُمْ وَلَكِنْ يُؤَاخِذُكُمْ بِمَا عَقَّدْتُمُ الْأَيْمَانَ فَكَفَّارَتُهُ إِطْعَامُ عَشَرَةِ مَسَاكِينَ مِنْ أَوْسَطِ مَا تُطْعِمُونَ أَهْلِيكُمْ أَوْ كِسْوَتُهُمْ أَوْ تَحْرِيرُ رَقَبَةٍ فَمَنْ لَمْ يَجِدْ فَصِيَامُ ثَلَاثَةِ أَيَّامٍ ذَلِكَ كَفَّارَةُ أَيْمَانِكُمْ إِذَا حَلَفْتُمْ وَاحْفَظُوا أَيْمَانَكُمْ كَذَلِكَ يُبَيِّنُ اللهُ لَكُمْ آيَاتِهِ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ (89)).
وإن حملناه على غير هذه الروايات فيكون من باب المجاز بجعل عزيمة النبي صلى الله عليه وسلم المصممة على عدم إصابة سريته في قوة الحلف على ذلك.
ولا شك أن الوجه الأول أظهر لموافقته لظاهر الآية الكريمة.
وأما قوله (وَهُوَ الْعَلِيمُ الْحَكِيمُ) فهو بيان لإحاطة علم الله تعالى بما كان وما يكون، وأن ذاك جار على مقتضى الحكمة الإلهية التي تضع الأمور في مواضعها.
ثم قال تعالى: (وَإِذْ أَسَرَّ النَّبِيُّ إِلَى بَعْضِ أَزْوَاجِهِ حَدِيثًا فَلَمَّا نَبَّأَتْ بِهِ وَأَظْهَرَهُ اللهُ عَلَيْهِ عَرَّفَ بَعْضَهُ وَأَعْرَضَ عَنْ بَعْضٍ فَلَمَّا نَبَّأَهَا بِهِ قَالَتْ مَنْ أَنْبَأَكَ هَذَا قَالَ نَبَّأَنِيَ الْعَلِيمُ الْخَبِيرُ (3) إِنْ تَتُوبَا إِلَى اللهِ فَقَدْ صَغَتْ قُلُوبُكُمَا وَإِنْ تَظَاهَرَا عَلَيْهِ فَإِنَّ اللهَ هُوَ مَوْلَاهُ وَجِبْرِيلُ وَصَالِحُ الْمُؤْمِنِينَ وَالْمَلَائِكَةُ بَعْدَ ذَلِكَ ظَهِيرٌ (4) عَسَى رَبُّهُ إِنْ طَلَّقَكُنَّ أَنْ يُبْدِلَهُ أَزْوَاجًا خَيْرًا مِنْكُنَّ مُسْلِمَاتٍ مُؤْمِنَاتٍ
قَانِتَاتٍ تَائِبَاتٍ عَابِدَاتٍ سَائِحَاتٍ ثَيِّبَاتٍ وَأَبْكَارًا (5)) فهذا من الامتنان على النبي صلى الله عليه وسلم، وتذكيره بنعم الله تعالى عليه لأن قوله (وَإِذْ أَسَرَّ النَّبِيُّ) معمول لفعل محذوف تقديره واذكر إذ أسر النبي.
وإبراز النبي صلى الله عليه وسلم بالاسم الظاهر بوصف النبوة، وكان مقتضى الظاهر أن يقال: وإذا أسررت إلى بعض أزواجك حديثاً، من باب الحفاوة بالنبي صلى الله عليه وسلم وإظهاره في هذا المقام بأشرف أوصافه وهو النبوة مما يتضمن تعريضاً بمن أفشت سره صلى الله عليه وسلم منهن.
وفي قوله (إِلَى بَعْضِ أَزْوَاجِهِ) بصورة الإبهام تلطف بهن بعدم الكشف عن شخصيتهن.
وتنكير " حديثاً " للدلالة على عظمة هذا الحديث وأنه من الأسرار التي ما كان ينبغى أن تفشى، وتذاع ولو لأصدق الصديقات.
وهذا الحديث الذي أسره النبي صلى الله عليه وسلم إلى بعض أزواجه هو تحريمه مارية ومنعه نفسه صلى الله عليه وسلم من التمتع بها إرضاء للتي غضبت وتألمت مما نالها من جراء تمتع النبي صلى الله عليه وسلم بسريته في بيتها.
ْويحتمل أن يكون الحديث الذي أسره النبي صلى الله عليه وسلم إلى بعض أزواجه -عند من يقول بغير ما رجحنا- هو منعه نفسه صلى الله عليه وسلم من شرب العسل كما ورد في بعض الروايات.
ْويحتمل أن يكون إخبار النبي صلى الله عليه وسلم حفصة أن أباها عمر بن الخطاب رضي الله عنه سيلي أمر أمته صلى الله عليه وسلم بعد أبي بكر رضي الله عنه.
وتحتمل الآية العموم الشامل لتحريم السرية والإنباء بالخلافة أو لتحريم العسل والإنباء بالخلافة.
ولما أفشت من أسر إليها هذا الحديث إلى صديقتها وكان النبي صلى الله عليه وسلم قد أخذ عليها أن تكتمه ولا تخبر به أحداً عرفه الله تعالى إفشاءها سره وأظهره عليه، فذهب عن الحديث وصف سريته وعرف النبي صلى الله عليه وسلم بعضه وأعرض عن بعض.
والذي عرف به هو تحريم سريته صلى الله عليه وسلم أو شربه العسل، والذي أعرض عنه هو الإنباء بالخلافة لما يترتب على إذاعته والتحدث فيه من أضرار وفتنة قد تؤثر على أنفس بعض المؤمنين الذين قد يكونون يتطلعون -في صمت- إلى منصب الخلافة بعد رسول الله صلى الله عليه وسلم.
فلما نبأ النبي صلى الله عليه وسلم صاحبة إذاعة السر وإفشائه بما أفشته من سره دهشت وقالت: " من أنبأك هذا؟ " ولعلها ظنت أن صاحبتها هي التي أخبرته فقالت له: " من أنبأك هذا؟ " فقال لها -كما حكى الله تعالى ذلك- " نَبَّأَنِيَ الْعَلِيمُ الْخَبِيرُ ".
ثم توجه الخطاب في قوله تعالى (إِنْ تَتُوبَا إِلَى اللهِ فَقَدْ صَغَتْ قُلُوبُكُمَا) -من باب الحفاوة بالنبي صلى الله عليه وسلم، والتأديب لمن أفشت سره بهذا الأسلوب المشعر بالزجر والتهديد- إلى اللتين تظاهرتا عليه صلى الله عليه وسلم بالإذاية والغيرة وإفشاء سره بأنهما إن يتوبا إلى الله تعالى مما أزعجا به النبي صلى الله عليه وسلم فإن التوبة حق واجب عليكما لأن قلوبكما قد مالت عن الحق كما تدل عليه قراءة ابن مسعود رضي الله عنه " زاغت قلوبكما ".
وعلى هذا فإن قوله (فَقَدْ صَغَتْ قُلُوبُكُمَا) ليس جواب الشرط وإنما هو دليله وتعليله.
والمعنى على هذا: إن تتوبا إلى الله، وترجعا عن مغاضبة رسول الله صلى الله عليه وسلم، وإيذائه بالتظاهر عليه وإفشاء سره فالتوبة حق واجب عليكما، لأن قلوبكما قد زاغت ومالت عن الحق في مغاضبة رسول الله صلى الله عليه وسلم وإيذائه.
ويمكن أن تحمل الآية على فهم آخر يأتي من حمل قوله تعالى: (فَقَدْ صَغَتْ قُلُوبُكُمَا) على معنى أنها مالت " إلى الحق وهو ما وجب من مجانبة ما يسخط رسوله صلى الله عليه وسلم وندمت على ما كان منها من مغاضبة النبي صلى الله عليه وسلم وإيذاه.
والمعنى على هذا: إن تتوبا إلى الله وترجعا عن مغاضبة النبي صلى الله عليه وسلم وتندما على ما كان منكما، فقد مالت قلوبكما إلى الحق ومصالحة النبي صلى الله عليه وسلم ومراضاته، وأن ما كان منكما من مغاضبة وإيذاء لم يكن صادراً عن قلوبكما وإنما هو فورة غضب ونار غيرة.
ويؤيد هذا قوله (وَإِنْ تَظَاهَرَا عَلَيْهِ) أي استمررتما على المغاضبة والإيذاء وتعاونتما عليها فإن الله تعالى ناصر رسوله بقوته القاهرة وخواص ملائكته وعامتهم وصالح المؤمنين، وهذا كالمقابل لقوله (إِنْ تَتُوبَا إِلَى اللهِ فَقَدْ صَغَتْ قُلُوبُكُمَا).