الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
واختيارات الضياء المقدسي -التي نقل عنها كل من الحافظين ابن كثير وابن حجر حديث عمر السابق- يقول عنها الإمام ابن تيمية: " إن أحاديث المختارة أصح وأقوى من أحاديث المستدرك ".
* * *
(ما حرمه النبي صلى الله عليه وسلم على نفسه)
ثم ذكر ابن كثير حديث الطبراني - عن ابن عباس رضي الله عنهما في قوله تعالى: (يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ لِمَ تُحَرِّمُ مَا أَحَلَّ اللهُ لَكَ) قال: " حرّم رسول الله صلى الله عليه وسلم سريته ".
وظاهر الآية الكريمة يعزز هذا القول لأن " ما " في قوله تعالى: (لِمَ تُحَرِّمُ مَا أَحَلَّ اللهُ لَكَ) وتعليل التحريم بقوله عز شأنه (تَبْتَغِي مَرْضَاتَ أَزْوَاجِكَ) يدل على أن المحرم شيء من جنس ما يُبتغَى به مرضاة الزوجات ويتوصل به إلى قلوبهن في الاستمتاع، وعدم تحريمه بالامتناع عنه يثير في أنفسهن الغيرة، وإن كان المحرم ليس بداخل في الزوجات بوصف الزوجية لكنه مشارك لهن في وجود الاستمتاع به لتحققه فيه كتحققه فيهن، وذلك يناسبه أن يكون المحرم المتنع عنه سريته مارية أم ولده إبراهيم عليه السلام التي أحل الله له صلى الله عليه وسلم الاستمتاع بها، وكانت تثير في أنفس الزوجات الطاهرات الغيرة منها، وتحريمه إياها على نفسه وامتناعه عنها أشد مرضاة لهن وأدعى لسرورهن.
ويؤيد هذا أن في لفظ " لك " من قوله تعالى: (مَا أَحَلَّ اللهُ لَكَ) من معنى الخصوصية ما يدل على أن المحرم من تعلقت به هذه الخصوصية
- وهي سريته صلى الله عليه وسلم إذ لا خصوصية في غيرها من العسل ونحوه.
وهذا التعزيز مال إليه جمهور المفسرين الذين قالوا: إن الذي حرمه النبي صلى الله عليه وسلم على نفسه هو مارية القبطية أم ولده إبراهيم.
قد ذكر هذا ابن الجوزي في تفسيره -زاد المسير- وأسنده إلى بعض أئمة السلف والأكثرين من المفسرين فقال: " وإلى هذا المعنى - أي تحريم مارية على نفسه صلى الله عليه وسلم ذهب سعيد بن جبير ومجاهد وعطاء والشعبي ومسروق ومقاتل والأكثرون ".
وممن مال إلى هذا القول -أيضاً- ابن العربي في تفسيره لآيات الأحكام حين قال: " وأما ما روي أنه حرم مارية فهو. . أقرب إلى المعنى ".
ولعل ابن العريى يقصد بالأقربية إلى المعنى أن هذا التحريم قد علل في الآية الكريمة بابتغاء مرضاة الزوجات، وهذا ما صرح به الجصاص في أحكام القرآن بقوله ". . . الأظهر أنه حرم مارية، وأن الآية فيها نزلت لأنه قال (تَبْتَغِي مَرْضَاتَ أَزْوَاجِكَ) وليس في ترك شرب العسل رضا أزواجه، وفي ترك قرب مارية رضاهن ".
وإلى هذا الترجيح مال جمال الدين القاسمي في تفسيره -محاسن التأويل- حيث قال: " والذي يظهر لي هو ترجيح روايات تحريم الجارية في سبب نزولها وذلك لوجوه:
منها: أن مثله يبتغى به مرضاة الضرات (1) ويهتم به لهن.
ومنها: أن روايات شرب العسل لا تدل على أنه حرمه ابتغاء مرضاتهن بل فيه أنه حلف لا يشربه أنفة من ريحه. . . ".
وذهب جمهور المحدثين إلى أن المحرم الممتتع عنه هو العسل وحجتهم في ذلك ما رواه البخاري ومسلم وغيرهما.
والروايات عندهما متفقة على أن ما حرمه النبي صلى الله عليه وسلم على نفسه ومنع نفسه منه صلى الله عليه وسلم هو العسل، ومختلفة في التي شرب عندها العسل من زوجاته.
وأكثرها أن التي شرب عندها العسل هي زينب بنت جحش، ويليها أن التي شرب عندها هي حفصة.
وهناك روايات صحيحة الإسناد -كما يقول السيوطي في الدر- لكنها لم ترد في الصحيحين تذكر أن التي شرب عندها العسل هي سودة بنت زمعة رضي الله عنها.
(1) وهو يقصد بالضرات الزوجات وإن كانت السرية ليست ضرة بالمعنى الشرعي وإنما هي ضرة في الواقع النفسى لهن.
وعزا الحافظ ابن حجر -في الفتح- مثل هذا القول إلى الطبراني وابن مردويه في تفسيره عن ابن عباس وقال: " ورواته موثقون ".
ودعواه بأن أبا عامر -أحد رواة هذا الحديث عند الطبراني وابن مردويه- " وهْمٌ فِي قولة سودة " دعوى لم يقم عليها دليلاً، سوى أنها نحو رواية البخاري التي تذكر أنه شرب العسل عند حفصة.
ولا معنى لتوهيمه الراوي بعد توثيقه إياه، مع أن الروايات مختلفة في التي شرب رسول الله صلى الله عليه وسلم عندها العسل.
وفي رواية أسندها الحافظ ابن حجر -في الفتح- إلى السدي في تفسيره ونقلها عن الطبري تقول إن التي شرب عندها العسل هي أم سلمة رضي الله عنها وقال: إنها مرجوحة ومرسلة.
وأسند السيوطي -في الدر- مثلها إلى ابن سعد فِي الطبقات عن عبد الله بن رافع.
فهذا الاختلاف في التي شرب النبي صلى الله عليه وسلم عندها العسل من زوجاته -وهو موجود في الصحيحين في روايات أغلبها متوالية- يدل على الاضطراب مما حمل بعض حذاق العلماء على الترجيح بين هذه الروايات،
فذهب القاضي عياض والنسائي والأصيلي -فيما نقله عنهم النووي في شرح مسلم- إلى ترجيح رواية أن التي شرب النبي صلى الله عليه وسلم عندها العسل زينب. وقالوا: إنها أصح. ولم يكلموا في صحة غيرها، والأصحية لا تنافي الصحة، وحينئذ يبقى الحديث على الاحتمال فلا يصلح به القطع في الاستدلال.
ورجح الحافظ ابن حجر ما رجحه هؤلاء الأئمة بأن عائشة وحفصة كانتا متظاهرتين على النبي صلى الله عليه وسلم على ما جاء عن عمر رضي الله عنه فيما أخرجه البخاري في التفسير وفي الطلاق وسبق أن حمل القصة على التعدد جمعاً بين الروايات وبذلك يبقى الاحتمال قائماً إذ لم يمكنه رفع الاحتمال عن الحديث.
وهذا مما يؤيد ترجيح ما ذهبنا إليه من أن الذي حرمه النبي صلى الله عليه وسلم على نفسه هو سريته مارية أم ولده إبراهيم عليه السلام، ويرشح ذلك تعليل التحريم المنكر عليه بقوله (تَبْتَغِي مَرْضَاتَ أَزْوَاجِكَ).
ووجه الترشيح بهذا أن النبي صلى الله عليه وسلم في رفعة مقامه وجلال مكانته -نبياً ورسولاً- قدوة لأمته في جميع ما يقع منه قولاً أو فعلاً أو تقريراً ما لم يدل دليل على اختصاصه به صلى الله عليه وسلم، لأنهم مأمورون بمتابعته، وأن متابعته قد جعلها الله تعالى دليلاً على حبه سبحانه في قوله تعالى: (قُلْ إِنْ كُنْتُمْ تُحِبُّونَ اللهَ