الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
المجموعة السادسة وتمتد من الآية (56) إلى نهاية الآية (64) وهذه هي:
16/ 64 - 56
التفسير:
قال صاحب الظلال: (وَيَجْعَلُونَ لِما لا يَعْلَمُونَ نَصِيباً مِمَّا رَزَقْناهُمْ فإذا هم يحرّمون على أنفسهم بعض الأنعام لا يركبونها أو لا يذوقون لحومها. أو يبيحونها
للذكور دون الإناث- كما أسلفنا في سورة الأنعام- باسم الآلهة المدّعاة، التي لا يعلمون عنها شيئا، إنما هي أوهام موروثة من الجاهلية الأولى والله هو الذي رزقهم هذه النعمة التي يجعلون مما لا يعلمون نصيبا منها، فليست هي من رزق الآلهة المدعاة لهم ليردوها عليها، إنما هي من رزق الله، الذي يدعوهم إلى توحيده فيشركون به سواه.
وهكذا تبدو المفارقة في تصورهم وفي تصرفهم على السواء .. الرزق كله من الله.
والله يأمر ألا يعبد سواه، فهم يخالفون عن أمره فيتخذون الآلهة. وهم يأخذون من رزقه فيجعلونه لما نهاهم عنه. وبهذا تتبدّى المفارقة واضحة جاهرة عجيبة مستنكرة.
وما يزال أناس بعد أن جاءت عقيدة التوحيد وتقررت، يجعلون نصيبا من رزق الله لهم موقوفا على ما يشبه فعل الجاهلية. ما يزال بعضهم يطلق عجلا يسميه «عجل السيد البدوي» يأكل من حيث يشاء لا يمنعه أحد، ولا ينتفع به أحد، حتى يذبح على اسم السيد البدوي لا على اسم الله، وما يزال بعضهم ينذرون للأولياء ذبائح يخرجونها من ذمتهم لا لله، ولا باسم الله، ولكن باسم ذلك الولي، على ما كان أهل الجاهلية يجعلون لما لا يعلمون نصيبا مما رزقهم الله، وهو حرام نذره على هذا الوجه، حرام لحمه ولو سمي اسم الله عليه لأنه أهلّ لغير الله به.
تَاللَّهِ لَتُسْئَلُنَّ عَمَّا كُنْتُمْ تَفْتَرُونَ بالقسم والتوكيد الشديد فهو افتراء يحطم العقيدة من أساسها لأنه- يحطم فكرة التوحيد).
ونعيد تفسير هذه الآية بعد أن رأينا كلام صاحب الظلال فيها: وَيَجْعَلُونَ لِما لا يَعْلَمُونَ أي لآلهتهم أي ويجعلون لأشياء غير موصوفة بالعلم ولا تشعر نَصِيباً مِمَّا رَزَقْناهُمْ الله يرزقهم، ويجعلون قسما منه لآلهتهم الباطلة؛ تقربا إليها، بل يفضلونها على جنابه سبحانه تَاللَّهِ لَتُسْئَلُنَّ عَمَّا كُنْتُمْ تَفْتَرُونَ أي تكذبون في أنها آلهة، وأنها أهل للتقرب إليها. أقسم الله تعالى بنفسه الكريمة ليسألنهم عن ذلك الذي افتروه وائتفكوه وليجازيهم عليه أوفر الجزاء في نار جهنم. فهذا أول موقف من مواقف المستكبرين في هذه المجموعة: يسجل ويرد عليه بآن واحد، إذ يتقربون بما رزقهم الله لمن لا يشعر بفعلهم أصلا، فأي حماقة وأي ظلم وأي جهل؟ ثم يخبر تعالى عنهم أنهم جعلوا الملائكة الذين هم عباد الرحمن إناثا، وجعلوها بنات الله؛ فعبدوها معه، فأخطئوا خطأ فظيعا في كل مقام من هذه المقامات الثلاث فنسبوا إليه تعالى أن له ولدا،
ولا ولد له، ثم أعطوه من يعتبرونه أخس القسمين من الأولاد وهم في مفاهيمهم الجاهلية لا يرضونها لأنفسهم، ثم زادوا على ذلك أن عبدوها، وهذا هو الموقف الظالم الثاني للمستكبرين في هذه المجموعة
وَيَجْعَلُونَ لِلَّهِ الْبَناتِ فيقعون بذلك كما مر بثلاثة من أفظع أنواع الكفر سُبْحانَهُ عن قولهم وإفكهم أي تنزيها لذاته من نسبة الولد إليه وَلَهُمْ ما يَشْتَهُونَ أي ويجعلون لأنفسهم ما يشتهون من الذكور، يجعلون لهم البنين، ويجعلون لله البنات سبحانه. ثم ذكر الله عز وجل نظرتهم إلى البنات، ممّا يدل على أن تصورهم عن الذات الإلهية في غاية الفساد، فهم يختارون لأنفسهم الذكور، ويأنفون لأنفسهم من البنات التي نسبوها إلى الله، لدرجة أن الواحد منهم إذا بشّر بالأنثى يكاد يهلك، أليس هذا يدل على أنهم يضعون الله في المقام الأدنى من مقام أنفسهم، تعالى الله عن ذلك علوا كبيرا
وَإِذا بُشِّرَ أَحَدُهُمْ بِالْأُنْثى ظَلَّ وَجْهُهُ مُسْوَدًّا أي كئيبا مغتمّا فهو أسود الوجه من الكآبة والحياء من الناس وَهُوَ كَظِيمٌ أي ساكت من شدة ما هو فيه من الحزن، مملوء حنقا على المرأة
يَتَوارى مِنَ الْقَوْمِ أي يكره أن يراه الناس؛ فيستخفي منهم مِنْ سُوءِ ما بُشِّرَ بِهِ أي من أجل سوء المبشّر به، ومن أجل تعييرهم أَيُمْسِكُهُ عَلى هُونٍ أَمْ يَدُسُّهُ فِي التُّرابِ أي
ويحدث نفسه وينظر أيمسك ما بشّر به على هون وذل، أم يئده، بأن يدفنها حية كما كانوا يصنعون في الجاهلية؟ أفمن يكرهونه هذه الكراهة ويأنفون لأنفسهم عنه يجعلونه لله؟! أَلا ساءَ ما يَحْكُمُونَ أي بئس ما قالوا وبئس ما قسموا، وبئس ما نسبوه إليه، حيث يجعلون الولد الذي هذا محله عندهم لله ويجعلون لأنفسهم من هو على عكس هذا الوصف فما أسوأ محاكمتهم وما أسوأ حكمهم؟.
قال صاحب الظلال بمناسبة هذه الآية:
(ومن عجب أن ينعق الناعقون بلمز العقيدة الإسلامية والشريعة الإسلامية- في مسألة المرأة، نتيجة لما يرونه في هذه المجتمعات المنحرفة ولا يكلف هؤلاء الناعقون اللامزون أنفسهم أن يراجعوا نظرة الإسلام، وما أحدثته من ثورة في التطورات والأوضاع وفي المشاعر والضمائر وهي بعد نظرة علوية لم تنشئها ضرورة واقعية ولا دعوة أرضية ولا مقتضيات اجتماعية أو اقتصادية. إنما أنشأتها العقيدة الإلهية الصادرة عن الله الذي كرم الإنسان، فاستتبع تكريمه للجنس البشري تكريمه للأنثى. ووصفها بأنها شطر النفس البشرية، فلا تفاضل بين الشطرين الكريمين على الله.).
لِلَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِالْآخِرَةِ مَثَلُ السَّوْءِ أي صفة النقص أي صفة السوء، وهي هنا الحاجة إلى الأولاد الذكور وكراهة الإناث ووأدهنّ خشية الإملاق وَلِلَّهِ الْمَثَلُ الْأَعْلى أي الكمال المطلق من كل وجه، ومن ذلك الغنى عن العالمين، والنزاهة عن صفات المخلوقين وَهُوَ الْعَزِيزُ أي الغالب في تنفيذ ما أراد الْحَكِيمُ في إمهال العباد
وَلَوْ يُؤاخِذُ اللَّهُ النَّاسَ بِظُلْمِهِمْ أي بكفرهم ومعاصيهم ما تَرَكَ عَلَيْها مِنْ دَابَّةٍ أي لأهلك جميع دواب الأرض تبعا لإهلاك بني آدم، ولكن الرب جل جلاله يحلم ويستر وينظر إلى أجل مسمى وَلكِنْ يُؤَخِّرُهُمْ إِلى أَجَلٍ مُسَمًّى أي إلى وقت مسمى عنده تقتضيه الحكمة، أو إلى يوم القيامة، وإذن فهو لا يعاجلهم بالعقوبة إذ لو فعل ذلك بهم لما أبقى أحدا، دلّت الآية على أن المستكبرين يستحقون العقوبة بسبب ظلمهم، لولا أن حكمة الله اقتضت الإنظار فَإِذا جاءَ أَجَلُهُمْ لا يَسْتَأْخِرُونَ ساعَةً وَلا يَسْتَقْدِمُونَ فهو آت مهما أنظروا، فكل آت قريب
وَيَجْعَلُونَ لِلَّهِ ما يَكْرَهُونَ يكرهون البنات ويجعلونها لله، ويكرهون أن يكون لأحدهم شريك في ماله ويجعلون لله شريكا في ملكه، ويكرهون أن يستخف أحد برسلهم وهم يستخفون برسل الله ويستهزءون بهم ويكرهون أراذل المال ويجعلونها له، ويجعلون لأصنامهم أكرمها، فقد أقاموا الله بالمقام الأدنى من أنفسهم وأصنامهم وَتَصِفُ أَلْسِنَتُهُمُ الْكَذِبَ أي ويقولون الكذب مع ذلك وهو أَنَّ لَهُمُ الْحُسْنى أي عند الله، وإن كان ثمّ معاد ففيه أيضا لهم الحسنى وهي الجنة، إن كان البعث حقا، فهم يفعلون ما يفعلون، ويظلمون ما يظلمون، ويسبّون الله ما يسبّون، وينسبون لله جل شأنه من الصفات الدنيا ما ينسبون، ومع ذلك يعتبرون أن لهم مقاما عنده يؤهلهم لخيري الدنيا والآخرة لا جَرَمَ أي حقا، أَنَّ لَهُمُ النَّارَ فهي التي يستحقونها وَأَنَّهُمْ مُفْرَطُونَ أي مقدّمون عنده، ولكن إلى النار معجّلون إليها، ثم ختم الله هذه المجموعة، وهذا المقطع كله بآيتين:
تَاللَّهِ يقسم بذاته الكريمة لَقَدْ أَرْسَلْنا إِلى أُمَمٍ مِنْ قَبْلِكَ أي أرسلنا رسلا إلى من تقدمك من الأمم فَزَيَّنَ لَهُمُ الشَّيْطانُ أَعْمالَهُمْ من الكفر والتكذيب والاستهزاء وأمثال ما مر معك، فلا تتعجب من تزيين أعمال هؤلاء لهؤلاء على سوئها فَهُوَ وَلِيُّهُمُ الْيَوْمَ أي فالشيطان قرين الكافرين في الدنيا، المتولي لإضلالهم بالغرور وَلَهُمْ عَذابٌ أَلِيمٌ في القيامة، دلت الآية على أن مواقف المستكبرين التي مرّت معنا كلها من تزيين الشيطان واتباع خطواته، ثم قال الله لرسوله صلى الله عليه وسلم
وَما أَنْزَلْنا عَلَيْكَ الْكِتابَ أي القرآن إِلَّا لِتُبَيِّنَ لَهُمُ أي للناس