الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
أَلَمْ أَقُلْ إِنَّكَ لَنْ تَسْتَطِيعَ مَعِيَ صَبْراً* قالَ لا تُؤاخِذْنِي بِما نَسِيتُ وَلا تُرْهِقْنِي مِنْ أَمْرِي عُسْراً قال: وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «فكانت الأولى من موسى نسيانا» قال: جاء عصفور فوقع على حرف السفينة فنقر في البحر نقرة أو نقرتين فقال له الخضر: ما علمي وعلمك في علم الله إلا مثل ما نقص هذا العصفور من هذا البحر. ثم خرجا من السفينة فبينما هما يمشيان على الساحل، إذ أبصر الخضر غلاما بلعب مع الغلمان فأخذ الخضر رأسه فاقتلعه بيده فقتله فقال له موسى أَقَتَلْتَ نَفْساً زَكِيَّةً بِغَيْرِ نَفْسٍ لَقَدْ جِئْتَ شَيْئاً نُكْراً* قالَ: أَلَمْ أَقُلْ لَكَ إِنَّكَ لَنْ تَسْتَطِيعَ مَعِيَ صَبْراً قال وهذه أشد من الأولى قالَ إِنْ سَأَلْتُكَ عَنْ شَيْءٍ بَعْدَها فَلا تُصاحِبْنِي قَدْ بَلَغْتَ مِنْ لَدُنِّي عُذْراً، فَانْطَلَقا حَتَّى إِذا أَتَيا أَهْلَ قَرْيَةٍ اسْتَطْعَما أَهْلَها فَأَبَوْا أَنْ يُضَيِّفُوهُما فَوَجَدا فِيها جِداراً يُرِيدُ أَنْ يَنْقَضَّ أي مائلا فقام الخضر بيده فَأَقامَهُ. فقال موسى: قوم أتيناهم فلم يطعمونا ولم يضيفونا لَوْ شِئْتَ لَاتَّخَذْتَ عَلَيْهِ أَجْراً* قالَ هذا فِراقُ بَيْنِي وَبَيْنِكَ سَأُنَبِّئُكَ بِتَأْوِيلِ ما لَمْ تَسْتَطِعْ عَلَيْهِ صَبْراً فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «وددنا أن موسى كان صبر حتى يقص الله علينا من خبرهما» .
تفسير المقطع:
وَإِذْ قالَ مُوسى لِفَتاهُ أي واذكر إذ قال موسى لفتاه، وفتاه هو: يوشع بن نون الذي أصبح خليفة موسى على قومه بعد وفاته، وسماه فتاه لأنه كان يخدمه ويتبعه، ويأخذ منه العلم، وفي ذلك درس للمعلمين والمتعلمين، أن يختار المعلمون أكفأ وأجود وأرضى تلاميذهم لصحبتهم وتأهيلهم، وألا يستنكف المتعلمون عن الصحبة والخدمة لا أَبْرَحُ أي لا أزال أسير حَتَّى أَبْلُغَ مَجْمَعَ الْبَحْرَيْنِ أي حيث يلتقي البحران أَوْ أَمْضِيَ حُقُباً أي ولو أني أسير زمانا طويلا. وقد فسر محمد بن كعب القرظي مجمع البحرين
بأنه: مضيق جبل طارق الحالي، حيث يلتقي البحر الأبيض المتوسط بالمحيط الأطلسي. وفسره قتادة بغير ذلك، ولا يترتب على معرفة ذلك كثير أمر، ومن ثم أجمله القرآن
فَلَمَّا بَلَغا مَجْمَعَ بَيْنِهِما ظاهر النص أن مجمعا من المجامع وصلا إليه، ويبدو أنه ليس المجمع الذي كان في تصور موسى عليه السلام. والمجامع كثيرة.
فعندك مجمع البحر الأحمر بالمحيط الهندي، ومجمع النيل مع البحر الأبيض، ولا ندري بالضبط إذا كان المجمع واحدا من هذه. أو مجمعا آخر يلتقي فيه ماء خليج بماء بحر، أو ماء نهر كبير كشط العرب ببحر كالخليج، والمهم أنه في مجمع من مجامع بحرين حدث
الحدث الآتي وهو نسيان الحوت. قال تعالى: نَسِيا حُوتَهُما أي نسي أحدهما وهو يوشع الحوت، لأنه كان صاحب الزاد، ونسب النسيان للاثنين لأن آثار النسيان تعود عليهما فَاتَّخَذَ سَبِيلَهُ أي طريقه فِي الْبَحْرِ سَرَباً أي دخل فيه واستتر
فَلَمَّا جاوَزا أي مجمع البحرين. وسارا ما شاء الله أن يسيرا قالَ أي موسى لِفَتاهُ آتِنا غَداءَنا لَقَدْ لَقِينا مِنْ سَفَرِنا هذا نَصَباً أي تعبا، لم يتعب ولا جاع قبل ذلك، قبل مجاوزة المكان الذي هو الموعد للقاء الخضر عليه السلام
قالَ أَرَأَيْتَ إِذْ أَوَيْنا إِلَى الصَّخْرَةِ فَإِنِّي نَسِيتُ الْحُوتَ وَما أَنْسانِيهُ وما أنساني أن أذكر لك أمره إِلَّا الشَّيْطانُ أَنْ أَذْكُرَهُ أي بإلقاء الخواطر الشاغلة في القلب وَاتَّخَذَ سَبِيلَهُ فِي الْبَحْرِ عَجَباً وهو أن أثره بقي إلى حيث سار
قالَ موسى ذلِكَ ما كُنَّا نَبْغِ أي ذلك ما كنا نريد ونطلب فَارْتَدَّا أي رجعا عَلى آثارِهِما أي طريقهما قَصَصاً أي يقصان آثار مشيهما ويقفوان أثرهما، لأن ذهاب الحوت كان علما على لقاء الخضر عليه السلام
فَوَجَدا عَبْداً مِنْ عِبادِنا أي الخضر مسجّى بثوب كما مر معنا في رواية البخاري آتَيْناهُ رَحْمَةً مِنْ عِنْدِنا هي الوحي والنبوة أو الولاية وَعَلَّمْناهُ مِنْ لَدُنَّا عِلْماً أي بدون واسطة أي بالإلهام
قالَ لَهُ مُوسى هَلْ أَتَّبِعُكَ عَلى أَنْ تُعَلِّمَنِ مِمَّا عُلِّمْتَ رُشْداً أي علما ذا رشد، أرشد به في ديني، وفيه دليل على أنه لا ينبغي لأحد أن يترك طلب العلم وإن كان قد بلغ نهايته، وأن يتواضع لمن يتعلم منه
قالَ إِنَّكَ لَنْ تَسْتَطِيعَ مَعِيَ صَبْراً أي إنك لا تقدر على مصاحبتي لما ترى مني من الأفعال التي قد تخالف شريعتك، لأني على علم من علم الله ما علمكه الله، وأنت على علم من الله ما علمنيه الله، فكل منا مكلف بأمور من الله دون صاحبه، فأنت لا تقدر على صحبتي
وَكَيْفَ تَصْبِرُ عَلى ما لَمْ تُحِطْ بِهِ خُبْراً نفى استطاعة الصبر معه على وجه التأكيد، وعلّل ذلك بأنه يتولى أمورا هي في ظاهرها مناكير، والرجل الصالح لا يتمالك إلا أن يجزع إذا رأى ذلك، فكيف إذا كان نبيا! فكأنه قال له: أنا أعرف أنك ستنكر عليّ ما أنت معذور فيه على ما لم تطّلع حكمته ومصلحته الباطنة، التي اطلعت أنا عليها دونك.
قالَ أي موسى سَتَجِدُنِي إِنْ شاءَ اللَّهُ صابِراً أي على ما أرى من أمورك فلا أنكر ولا أعترض وَلا أَعْصِي لَكَ أَمْراً أي ولا أخالفك في شئ، فعندئذ شارطه الخضر عليه السلام:
قالَ فَإِنِ اتَّبَعْتَنِي فَلا تَسْئَلْنِي عَنْ شَيْءٍ حَتَّى أُحْدِثَ لَكَ مِنْهُ ذِكْراً أي فإن اتبعتني فلا تسألني عن شئ ابتداء، حتى أبدأك أنا قبل أن تبدأني، أي
فمن شرط اتباعك لي أنك إذا رأيت مني شيئا، وقد علمت أنه صحيح، إلا أنه خفي عليك وجه صحته، فأنكرت في نفسك، ألا تفاتحني بالسؤال، ولا تراجعني فيه، حتى أكون أنا الفاتح عليك. قال النسفي: وهذا من أدب المتعلم مع العالم، والمتبوع مع التابع
فَانْطَلَقا حَتَّى إِذا رَكِبا فِي السَّفِينَةِ خَرَقَها قالَ أَخَرَقْتَها لِتُغْرِقَ أَهْلَها لَقَدْ جِئْتَ شَيْئاً إِمْراً أي لقد أتيت شيئا كبيرا فظيعا. قال ابن كثير: يقول تعالى مخبرا عن موسى وصاحبه- وهو الخضر- أنهما انطلقا لما توافقا واصطحبا، واشترط عليه أن لا يسأله عن شئ أنكره حتى يكون هو الذي يبتدئه من تلقاء نفسه بشرحه وبيانه، فركبا في السفينة، وقد تقدم في الحديث كيف ركبا في السفينة، وأنهم عرفوا الخضر، فحملوهما بغير نول يعني: بغير أجرة تكرمة للخضر، فلما استقلت بهم السفينة في البحر، ولجّجت أي: دخلت اللجة، قام الخضر فخرقها، واستخرج لوحا من ألواحها، ثم رفعها فلم يملك موسى عليه السلام إلا أن قال منكرا عليه أَخَرَقْتَها .... فعند ما قال له الخضر مذكّرا بما تقدم من الشرط
قالَ أَلَمْ أَقُلْ إِنَّكَ لَنْ تَسْتَطِيعَ مَعِيَ صَبْراً يعني وهذا الصنيع فعلته قصدا، وهو من الأمور التي اشترطت معك ألا تنكر عليّ فيها، لأنك لم تحط بها خبرا، ولها وجه هو مصلحة ولم تعلمه أنت
قالَ أي موسى لا تُؤاخِذْنِي بِما نَسِيتُ أي لا تؤاخذني بالذي نسيته، أو بشيء نسيته، أو بنسياني، أراد أنه نسي وصيّته ولا مؤاخذة على الناسي وَلا تُرْهِقْنِي مِنْ أَمْرِي عُسْراً أي ولا تغشني عسرا من أمري، أي ولا تعسّر عليّ متابعتك، ويسّرها علي بالإغضاء وترك المناقشة، أي لا تضيّق عليّ ولا تشدّد. قال ابن كثير: ولهذا تقدم في الحديث عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال: «كانت الأولى من موسى نسيانا» .
فَانْطَلَقا أي بعد ذلك حَتَّى إِذا لَقِيا غُلاماً فَقَتَلَهُ قال ابن كثير:
وقد تقدم أنه كان يلعب مع الغلمان في قرية، من القرى وأنه عمد إليه من بينهم، وكان أحسنهم وأجملهم وأضوأهم فقتله، وقيل: إنه احتز رأسه. وقيل: رضخه بحجر. وفي رواية اقتلعه بيده، والله أعلم. فلمّا شاهد موسى عليه السلام هذا أنكره أشد من الأول، وبادر وقال: أَقَتَلْتَ نَفْساً زَكِيَّةً أي طاهرة من الذنوب، قال هذا؛ إما لأنها طاهرة عنده، أو لأنه لم يرها قد أذنبت، أو لأنها صغيرة لم تبلغ الحنث بِغَيْرِ نَفْسٍ بغير أن تقتل هي نفسا فيقتص منها لَقَدْ جِئْتَ شَيْئاً نُكْراً أي ظاهر النكارة
قالَ أَلَمْ أَقُلْ لَكَ إِنَّكَ لَنْ تَسْتَطِيعَ مَعِيَ صَبْراً ذكّره بشرطه الأول
قالَ أي موسى إِنْ سَأَلْتُكَ عَنْ شَيْءٍ بَعْدَها. أي بعد هذه الكرة أو المسألة
فَلا تُصاحِبْنِي قَدْ بَلَغْتَ مِنْ لَدُنِّي عُذْراً أي إن اعترضت عليك بشيء بعد هذه المرة، فلا تصاحبني فقد أعذرت إليّ مرّة بعد مرّة، ومن ثم أعذرت فيما بيني وبينك في الفراق
فَانْطَلَقا أي بعد المرتين الأوليين حَتَّى إِذا أَتَيا أَهْلَ قَرْيَةٍ اسْتَطْعَما أَهْلَها أي استضافاهم وكان أهل القرية لئاما نجلا، كما ورد في الحديث:«حتى إذا أتيا أهل قرية لئاما» . فَأَبَوْا أَنْ يُضَيِّفُوهُما فَوَجَدا فِيها أي في القرية جِداراً يُرِيدُ أَنْ يَنْقَضَّ أي يكاد أن يسقط فَأَقامَهُ أي فردّه إلى حال الاستقامة. قال ابن كثير: وقد تقدم في الحديث أنه رده بيديه ودعمه حتى ردّ ميله، وهذا خارق قالَ لَوْ شِئْتَ لَاتَّخَذْتَ عَلَيْهِ أَجْراً أي لأجل أنهم لم يضيّفونا كان ينبغي ألا تعمل لهم مجانا. قال النسفي: كانت الحال حال اضطرار وافتقار إلى المطعم، وقد ألزمتهما الحاجة إلى آخر كسب المرء وهو المسألة، فلم يجدوا مواسيا، فلما أقام الجدار لم يتمالك موسى لما رأى من الحرمان ومساس الحاجة أن قال: لَوْ شِئْتَ لَاتَّخَذْتَ عَلَيْهِ أَجْراً أي لطلبت على عملك جعلك حتى تستدفع به الضرورة
قالَ أي الخضر هذا إشارة إلى السؤال الثالث، أي هذا الاعتراض سبب الفراق، أي لأنك شرطت عند قتل الغلام أنك إن سألتني عن شئ بعدها فلا تصاحبني فهو فِراقُ بَيْنِي وَبَيْنِكَ. سَأُنَبِّئُكَ بِتَأْوِيلِ أي بتفسير ما لَمْ تَسْتَطِعْ عَلَيْهِ صَبْراً
ثم بدأ يفسّر له ما خفي عليه من حكم الواقعات الثلاث: أَمَّا السَّفِينَةُ فَكانَتْ لِمَساكِينَ يَعْمَلُونَ فِي الْبَحْرِ فَأَرَدْتُ أَنْ أَعِيبَها وَكانَ وَراءَهُمْ أي أمامهم مَلِكٌ أي من الظلمة سيمرون عليه يَأْخُذُ كُلَّ سَفِينَةٍ أي صالحة جيدة لا عيب فيها غَصْباً أي مصادرة، فأردت أن أعيبها لأرده عنها لعيبها، فينتفع بها أصحابها المساكين الذين لم يكن لهم شئ ينتفعون به غيرها
وَأَمَّا الْغُلامُ فَكانَ أَبَواهُ مُؤْمِنَيْنِ فَخَشِينا أَنْ يُرْهِقَهُما أي أن يغشي الوالدين المؤمنين طُغْياناً وَكُفْراً أي يعديهما بدائه، ويضلهما بضلاله، فيرتدا بسببه. وفي الحديث:«الغلام الذي قتله الخضر طبع يوم طبع كافرا» ومن ثم خشي الخضر أن يحملهما حبه على متابعته. قال قتادة: (قد فرحا به حين ولد، وحزنا عليه حين قتل، ولو بقي لكان فيه هلاكهما فليرض امرؤ بقضاء الله، فإن قضاء الله للمؤمن فيما يكره خير).
فَأَرَدْنا أَنْ يُبْدِلَهُما رَبُّهُما خَيْراً مِنْهُ زَكاةً أي طهارة ونقاء من الذنوب وَأَقْرَبَ رُحْماً أي أقرب رحمة وعطفا أي أبر بوالديه
وَأَمَّا الْجِدارُ فَكانَ لِغُلامَيْنِ يَتِيمَيْنِ فِي الْمَدِينَةِ وَكانَ تَحْتَهُ كَنْزٌ لَهُما أي إن هذا الجدار إنما أصلحته لأنه كان لغلامين يتيمين في