الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
التفسير:
وَلَقَدْ صَرَّفْنا أي ردّدنا وكرّرنا لِلنَّاسِ فِي هذَا الْقُرْآنِ مِنْ كُلِّ مَثَلٍ أي من كل معنى هو كالمثل في الحسن والتقريب والإقناع، مبينين لهم الحجج والبراهين القاطعة، موضّحين لمهم الحق، ومبسّطين لهم إياه بصيغة وبأخرى وبأخرى، ومع هذا فَأَبى أَكْثَرُ النَّاسِ إِلَّا كُفُوراً أي جحودا للحق وردا للصواب، الموضوع الواحد كرّر عليهم بشكل ثم بشكل ثم بشكل، وفي كل مرّة تقوم الحجة، وتتضح المحجة، وينقطع الجدل بالحق الواضح، ومع ذلك يقابل هذا كله بالجحود، وبدلا من الإسلام والاستسلام للحق الواضح يقترحون الآيات، وما هم بمؤمنين ولو جاءت. ومن ثم عرض الله علينا في هذا السياق ما اقترحه الكافرون- في زعمهم- ليؤمنوا، بعد أن تبيّن إعجاز القرآن، وانضمّت إليه معجزات كثيرة، ولزمتهم الحجة، وغلبوا فعل المبهوت المحجوج المتحير المتكبر، يفر من حجة طالبا غيرها تعجيزا
وَقالُوا لَنْ نُؤْمِنَ لَكَ حَتَّى تَفْجُرَ لَنا مِنَ الْأَرْضِ يَنْبُوعاً أي عينا غزيرة من شأنها أن تنبع بالماء لا تنقطع
أَوْ تَكُونَ لَكَ جَنَّةٌ مِنْ نَخِيلٍ وَعِنَبٍ فَتُفَجِّرَ الْأَنْهارَ خِلالَها أي وسطها تَفْجِيراً
* أَوْ تُسْقِطَ السَّماءَ كَما زَعَمْتَ عَلَيْنا كِسَفاً أي قطعا أَوْ تَأْتِيَ بِاللَّهِ وَالْمَلائِكَةِ قَبِيلًا أي كفيلا بما تقول، شاهدا بصحته، أو مقابلا نراهم ليشهدوا لك، أو جماعة ليشهدوا لك، لم يكتفوا هنا بطلب الملائكة بل يطلبون رؤية الله والملائكة، وأن يسمعوا شهادتهم وشهادته سبحانه وتعالى مباشرة
أَوْ يَكُونَ لَكَ بَيْتٌ مِنْ زُخْرُفٍ أي من ذهب أَوْ تَرْقى فِي السَّماءِ أي تصعد إليها وَلَنْ نُؤْمِنَ لِرُقِيِّكَ أي ومجرد الصعود لا يكفي لإيماننا، بل لا بد من شئ آخر وهو: حَتَّى تُنَزِّلَ عَلَيْنا كِتاباً نَقْرَؤُهُ أي كتابا من السماء فيه تصديقك. قال مجاهد فيها: أي مكتوب فيه إلى كل واحد واحد صحيفة (هذا كتاب من الله لفلان بن فلان) تصبح
عند رأسه. أرأيت نمط الذين يرفضون الاهتداء بهذا القرآن ما هو؟ هل تشم منه رائحة منطق أو عقل أو رغبة في حق، ومن ثم أمر الله رسوله صلى الله عليه وسلم أن يقول: قُلْ سُبْحانَ رَبِّي تعجبا من اقتراحاتهم هَلْ كُنْتُ إِلَّا بَشَراً رَسُولًا أي أنا رسول كسائر الرسل، بشر مثلهم، والرسل لا يأتون قومهم إلا بما يظهره الله على أيديهم من المعجزات، فليس أمر الآيات إليّ، إنما هو إلى الله، فما بالكم تطلبونها مني وتقترحونها عليّ. وقال ابن كثير في تفسير ما أمر الله رسوله صلى الله عليه وسلم أن يقوله (أي سبحانه وتعالى وتقدس أن يتقدم أحد بين يديه في أمر من أمور سلطانه وملكوته، بل هو الفعّال لما يشاء، إن شاء أجابكم إلى ما سألتم، وإن شاء لم يجبكم، وما أنا إلا رسول إليكم، أبلغكم رسالات ربي، وأنصح لكم، وقد فعلت ذلك، وأمركم فيما سألتم إلى الله).
وهكذا نرى أن الموانع من الدخول في الإسلام ليست لقصور الحجة ولا لسبب عقلي وإنما هي التعنّت، ومن ثم قال تعالى:
وَما مَنَعَ النَّاسَ أي أكثرهم أَنْ يُؤْمِنُوا أي يصدقوا ويتابعوا الرسل إِذْ جاءَهُمُ الْهُدى هدى الله إِلَّا أَنْ قالُوا أَبَعَثَ اللَّهُ بَشَراً رَسُولًا أي وما منعهم من الإيمان بوحي الله، ونبوة أنبيائه، إلا شبهة أو عقدة تمكنت في صدورهم، وهي إنكارهم أن يرسل الله البشر، مع أن هذا لا ينبغي أن يكون مثار اشتباه أو اعتراض، ومن ثم نبّه الله عز وجل على أنه من لطفه ورحمته بعباده أنه يبعث إليهم الرسول من جنسهم؛ ليفقهوا عنه، ويفهموا منه، ويقتدوا به، ويتمكنوا من مخاطبته ومكالمته، ولو بعث إلى البشر رسولا من الملائكة لما استطاعوا مواجهته ضمن قوانين هذا العالم التي جعلها الله هكذا لحكمة، ولا الأخذ عنه، ولكانت لهم حجة أن هذا ليس مثلنا، وليس تركيبه كتركيبنا حتى يعالج مشكلاتنا، أو نستطيع فعل ما يفعل.
قال تعالى: قُلْ لَوْ كانَ فِي الْأَرْضِ مَلائِكَةٌ يَمْشُونَ أي على أقدامهم كما يمشي الإنس، ولا يطيرون بأجنحتهم إلى السماء؛ فيسمعوا من أهلها، ويعلموا ما يجب علمه مُطْمَئِنِّينَ أي ساكنين في الأرض قارّين كما أنتم فيها لَنَزَّلْنا عَلَيْهِمْ مِنَ السَّماءِ مَلَكاً رَسُولًا أي من جنسهم، أي يعلّمهم الخير ويهديهم إلى الرشد، ولمّا كنتم أنتم بشرا بعثنا فيكم رسلنا منكم لطفا ورحمة. دلّت الآية على أن سكان الأرض يحتاجون إلى الرسالة، ويحتاجون إلى رسول من جنسهم؛ به تقوم الحجة عليهم، وبه يرتقون. تلك سنته
وفيها غاية الحكمة.
ثم هذا هو الواقع الذي ابتلى الله به عباده، فليس لأحد إلا التسليم بعد العلم وقد وجد العلم قُلْ كَفى بِاللَّهِ شَهِيداً بَيْنِي وَبَيْنَكُمْ على أني رسوله، وعلى أنّي بلّغت ما أرسلت به إليكم، وأنكم كذبتم
وعاندتم، ولو لم أكن رسوله لانتقم مني أشد الانتقام. فالتأييد الذي أنا فيه، والقرآن الذي أنزله عليّ دليل إِنَّهُ كانَ بِعِبادِهِ خَبِيراً بَصِيراً أي إنه كان بكل عباده المنذرين والمنذرين خبيرا أي عالما بأحوالهم، بصيرا بأفعالهم؛ فهو مجازيهم بها، أو إنه كان عليما بالعباد علما كاملا منكشفا فيه كل شئ، مرئيا أصحابه، ومن ثم فهو الأعلم بمن يستحق الإنعام والإحسان والهداية، ممّن يستحق الشقاء والإضلال والإزاغة، ولهذا قال:
مَنْ يَهْدِ اللَّهُ فَهُوَ الْمُهْتَدِ أى من يوفّقه الله لقبول ما كان من الهدى فهو المهتدي عند الله وَمَنْ يُضْلِلْ أي ومن يخذله ولم يعصمه حتى قبل وساوس الشيطان ورفض الهدى فَلَنْ تَجِدَ لَهُمْ أَوْلِياءَ أي أنصارا مِنْ دُونِهِ والكافرون فى صلفهم وغرورهم وكبريائهم مصرون على الكفر، ومن ثم فهم لا يبالون ألا يهديهم الله، ومن ثم ذكر الله في هذا المقام بما أعد لهم في الآخرة فقال: وَنَحْشُرُهُمْ يَوْمَ الْقِيامَةِ عَلى وُجُوهِهِمْ في الصحيحين ومسند الإمام أحمد: قيل يا رسول الله: كيف يحشر الناس على وجوههم؟ قال: «الذي أمشاهم على أرجلهم قادر على أن يمشيهم على وجوههم» . عُمْياً أي لا يبصرون وَبُكْماً أي لا ينطقون وَصُمًّا أي لا يسمعون. قال ابن كثير: وهذا يكون في حال دون حال جزاء لهم كما كانوا في الدنيا بكما وعميا وصمّا عن الحق، فجوزوا في محشرهم بذلك أحوج ما يحتاجون إليه مَأْواهُمْ جَهَنَّمُ أي منقلبهم ومصيرهم إليها كُلَّما خَبَتْ أي طفئ لهبها.
وقال ابن عباس: أي سكنت. زِدْناهُمْ سَعِيراً أي توقّدا ولهبا ووهجا
ذلِكَ أي العذاب من حشرهم على العمى والبكم والصمم ودخول النار جَزاؤُهُمْ بِأَنَّهُمْ كَفَرُوا أي بسبب كفرهم بِآياتِنا أي بأدلتنا وحجتنا واستبعادهم البعث وَقالُوا أَإِذا كُنَّا عِظاماً وَرُفاتاً أي بالية نخرة أَإِنَّا لَمَبْعُوثُونَ خَلْقاً جَدِيداً أي بعد ما صرنا إلى ما صرنا إليه من البلى والتفرق والذهاب في الأرض نعاد مرة ثانية؟ فاحتج تعالى عليهم ونبّههم على قدرته على ذلك بأنه خلق السموات والأرض، فقدرته على إعادتهم أسهل من ذلك
أَوَلَمْ يَرَوْا أي أولم يعلموا أَنَّ اللَّهَ الَّذِي خَلَقَ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ قادِرٌ عَلى أَنْ يَخْلُقَ مِثْلَهُمْ أي من الإنس، أو يوم القيامة يعيد أبدانهم وينشئهم نشأة أخرى وَجَعَلَ لَهُمْ أَجَلًا أي جعل لإعادتهم وإقامتهم من قبورهم أجلا مضروبا ومدّة مقدرة. لا بد من انقضائها، ومن ثم قال:
لا رَيْبَ فِيهِ فَأَبَى الظَّالِمُونَ أي بعد قيام الحجة عليهم إِلَّا كُفُوراً أي جحودا مع وضوح الدليل، وإلا تماديا في باطلهم وضلالهم، وإذا تذكرنا أن أول المقطع
وَلَقَدْ صَرَّفْنا لِلنَّاسِ فِي هذَا الْقُرْآنِ مِنْ كُلِّ مَثَلٍ فَأَبى أَكْثَرُ النَّاسِ إِلَّا كُفُوراً وتذكرنا آخر آية مرت فَأَبَى الظَّالِمُونَ إِلَّا كُفُوراً علمنا أن الذين أبوا الاهتداء هم الظالمون، وأنهم أكثر الناس، ورأينا أن المقطع مرتبطة نهاياته ببداياته. والآن ولم يبق عندنا من هذا المقطع إلا آية.
فلنتذكر معانيه:
هذا القرآن فيه ما تقوم به الحجة، ومع ذلك فإن أكثر الناس يظلمون ويكفرون، ويظهر ظلمهم برفضهم الحجة، وباقتراحاتهم المتعنّتة التي ذكر الله نموذجا عنها، وأمر رسوله صلى الله عليه وسلم أن يردّ عليها:
بإعلانه أنّه بشر رسول، إلا أن الله عز وجل ذكر أن هذا الإعلان لا ينفعهم، مع أن في هذا الإعلان وحده حجة، وسبب عدم انتفاعهم فيه أنهم- حتى في موضوع بشرية الرسول صلى الله عليه وسلم متعنتون، ويعتبرون بشرية الرسول صلى الله عليه وسلم دليلا على بطلان الرسالة، مع أنهم في هذا غير منطقيين مع عقولهم وغير حكماء، وأمام هذا الوضع أمر الله رسوله صلى الله عليه وسلم أن يعلن كفاية شهادة الله على رسالته، وأن الهدى هدى الله، وأن الإضلال إضلاله، وإذ كان هذا الإعلان كذلك لا ينفعهم، ذكّرهم بالمصير الذي أمامهم، الحشر على الوجوه وهم في حالة العمى والبكم والصمم، ثم المقر النار بسبب كفرهم بالآيات- أي بالرسول الذي أنزل عليه الآيات- وبسبب كفرهم باليوم الآخر، ثم أقام عليهم الحجة باليوم الآخر، ومع هذا كله يقرر الله أن الظالمين يأبون إلا الكفور والجحود لنعم الله. والآن تأتي آية أخيرة بها يأمر الله رسوله صلى الله عليه وسلم أن يقول لهم قولا فلنره، ولنر محله في إقامة الحجة وحكمة وروده في هذا السياق:
قُلْ لَوْ أَنْتُمْ تَمْلِكُونَ خَزائِنَ رَحْمَةِ رَبِّي أي رزقه وسائر نعمه على خلقه إِذاً لَأَمْسَكْتُمْ خَشْيَةَ الْإِنْفاقِ أي لبخلتم خشية أن يفنيه الإنفاق وَكانَ الْإِنْسانُ قَتُوراً أي بخيلا. والمعنى: قل يا محمد: لو أنكم أيها الناس تملكون التصرف في خزائن الله لأمسكتم خشية أن تذهبوها، مع أنها لا تفرغ ولا تنفد أبدا، ولكن لأن التقتير من طباعكم وسجاياكم، فإن من طبيعتكم البخل والمنع.
هذه آخر آية في المقطع، فما محلها في إقامة الحجة وما حكمة مجيئها هنا؟
1 -
الآية أضافت إلى صفة الكفر والظلم صفة أخرى للإنسان وهي البخل الذي هو في