الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
أقول: ومن الثناء عليهم ما قصّه الله لنا عنهم، ومن الثناء عليهم أننا ندعو في الصلاة لإبراهيم وآل إبراهيم، وكل ذلك ببركة اعتزال إبراهيم أباه وقومه في الله.
كلمة في السياق:
دلّت قصة إبراهيم عليه السلام على أن المواقف الراقية عند الله اعتزال الكافرين قولا وفعلا بعد استنفاد الوسع. وأن من فعل ذلك يكافئه الله المكافآت الكبيرة الكثيرة دنيا وأخرى، كما دلّتنا على أن الهداية إلى الصراط المستقيم إنما هي بالهداية إلى عبادة الله وحده، كما أعطتنا نموذجا على دعوة الرسل إلى الله بالتبشير والإنذار. في ذلك كله نوع تفصيل لمعان في الآية التي هي محور سورة مريم من البقرة، وخدمة للحيّز الذي وردت فيه وهو الدخول في الإسلام كله بالاقتداء بإبراهيم عليه السلام في دعوته، واعتزاله قومه وما يعبدون.
وبعد أن قصّ الله علينا قصة إبراهيم عليه السلام مع أبيه يذكر لنا موسى عليه السلام، وفي ذكر موسى في هذا السياق تذكير برسالته، وأنه من سلسلة الرسل المبشرين والمنذرين، وتذكير بشأنه وحاله، فقد كان يدعو إلى عبادة الله وحده، وهو شئ يعرفه العام والخاص من بني إسرائيل وغيرهم، فكيف يزعم من يزعم أن لله ولدا هو عيسى فيعبده، إن التذكير بموسى في هذا السياق وبصفاته تعريض بمن ينتسب إليه، ولا يوحد الله كما وحده، كأن يجعل المسيح ابنا لله، وموسى لا يعلم ذلك ولا يعرفه، ولا يدعو إليه، كما في ذكر موسى وما وهبه الله له من نبوة هارون المؤيدة له إشارة إلى ما يعطيه الله لعباده المخلصين من مؤيدات وإنعامات هي فوق كل ما يطمح إليه أهل الدنيا وأتباع الشيطان، وذكر موسى الذي هو من ذرية إبراهيم، ثم ذكر إسماعيل بعد ذلك، إشارة إلى أن ما أعطيه إبراهيم بسبب موقفه لم يكن إسحاق ويعقوب فقط، بل هو أكثر من ذلك. فيا عباد الله إلى الله.
…
وَاذْكُرْ يا محمد فِي الْكِتابِ أي في القرآن مُوسى فإنه كذلك ممّن بعث الله من النبيين مبشرين ومنذرين، وأنزل معهم الكتاب بالحق ليحكم بين الناس فيما اختلفوا فيه، فلست أنت بدعا من الرسل، وليس إرسالك إلا جزءا من سنة الله في إرسال الرسل، وليس إنزال الكتب عليك إلا جزءا من سنة الله في إنزال الكتب، لتحكم بين الناس فيما اختلفوا فيه، وأي حال من الاختلاف هي أشد من الحال التي بعثت والناس عليها من الاختلاف، حتى أصحاب الكتاب إِنَّهُ أي موسى كانَ مُخْلَصاً أي أخلصه الله واصطفاه بماله من السعادة بأصل الفطرة
وَكانَ رَسُولًا نَبِيًّا قال النسفي: الرسول: الذي معه كتاب من الأنبياء. والنبي:
الذي ينبئ عن الله عز وجل وإن لم يكن معه كتاب
…
(وقد عرّف غيره الرسول والنبي بغير ذلك) وقد جمع الله لموسى الوصفين، فإنه كان من المرسلين الكبار أولي العزم الخمسة. وهم: نوح وإبراهيم وموسى وعيسى ومحمد صلى الله عليه وسلم فهو رسول نبي مخلص، كما كان إبراهيم. وكما كان عيسى، فأين يذهب بالنصارى، إذ يقولون على الله ما لا يليق بجلاله، أفلا يكفي أن يوصف عيسى بأنه رسول نبي مخلص، وقد وصف من هو أرقى منه وأفضل كذلك وإنما فهمنا هذا المعنى من السياق لأننا نلاحظ أن السورة في بدايتها ونهايتها تركز على نقض أن يكون عيسى ابنا لله عز وجل، وهي مع هذا تؤكد في سياقاتها موضوع ربوبية الله وحده، ووجوب معرفته، والإخلاص في العبادة له وحده، كما تتعرض لقضايا أخرى مما خالف فيه الناس الحق
وَنادَيْناهُ أي ودعوناه وكلّمناه مِنْ جانِبِ الطُّورِ الْأَيْمَنِ الطور معروف وهو جبل في سيناء، والجمهور على أن المراد بجانبه الأيمن بالنسبة لموسى عليه السلام، لأن الجبل لا يمين له، والمعنى أنه حين أقبل من مدين يريد مصر نودي من الشجرة وكانت في جانب الجبل على يمين موسى وَقَرَّبْناهُ تقريب منزلة ومكانة نَجِيًّا أي مناجيا، فهذا موسى الذي هذا شأنه، وصفه الله أنه رسول نبي، وذلك إبراهيم وصفه أنه صدّيق نبيّ، فلم تغلون بعيسى فتصفونه بغير ما يوصف به إبراهيم وقد أعطاه الله ما أعطاه، وبغير ما يوصف به موسى وقد أعطاه الله ما أعطاه، ألا إنها الضلالة العمياء
وَوَهَبْنا لَهُ أي لموسى مِنْ رَحْمَتِنا أي من رحمتنا له وترؤفنا عليه أَخاهُ هارُونَ نَبِيًّا أي أجبنا سؤاله وشفاعته في أخيه، فجعلناه نبيا. قال بعض السلف: ما شفع أحد في أحد شفاعة في الدنيا أعظم من شفاعة موسى في هارون أن يكون نبيا، وإذن فإن يستجاب لموسى فيهب الله لهارون النبوة بشفاعته فذلك دليل على أن موسى في المكان العظيم عند الله، ومع هذا فإنه نبي رسول، فلماذا تغلون في عيسى وتصفونه بالألوهية.
وَاذْكُرْ يا محمد فِي الْكِتابِ أي القرآن إِسْماعِيلَ ابن إبراهيم الأكبر عليهما السلام إِنَّهُ كانَ صادِقَ الْوَعْدِ أي وافيه وَكانَ رَسُولًا نَبِيًّا قال ابن كثير: (في هذا دلالة على شرف إسماعيل على أخيه، لأنه إنما وصف بالنبوة فقط، وإسماعيل وصف بالنبوة والرسالة، وقد ثبت في صحيح مسلم أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال:
«إن الله اصطفى من ولد إبراهيم إسماعيل
…
». وذكر تمام الحديث فدل على صحة ما قلناه)
وَكانَ يَأْمُرُ أَهْلَهُ بِالصَّلاةِ وَالزَّكاةِ يحتمل أنه إنما خصت هاتان العبادتان
لأنهما أمّا العبادات البدنية والمالية، وهل المراد بأهله أمته كلها، لأن النبي أب لأمته، أو المراد بذلك أهل بيته فقط؟ قولان، والثاني أقوى. قال النسفي:(وفيه دليل على أنه لم يداهن). وصفه الله بالنبوة، والرسالة، وصدق الوعد، وأمر الأهل بالصلاة والزكاة، وتلك أمهات من الأخلاق العظيمة ثم قال وَكانَ عِنْدَ رَبِّهِ مَرْضِيًّا إذ اجتمع له جمال العمل وقبوله، والاجتباء والاصطفاء.
ذكرت هاتان الآيتان رسالة جديدة، ونبيا مبعوثا قائما بالعبودية لله، فهذا منتهى غاية كل رسول أن يكون عبدا لله.
وبعد أن ذكرت السورة من ذكرتهم من الرسل، ممن هم من ذرية إبراهيم، يأتي ذكر رسول قديم سابق في الزمان على إبراهيم ونوح: وَاذْكُرْ يا محمد فِي الْكِتابِ القرآن إِدْرِيسَ هو الذي يسميه أهل الكتاب أخنوخ، ويذكرون أنه أول مرسل بعد آدم عليه السلام إِنَّهُ كانَ صِدِّيقاً نَبِيًّا وصفه بالصدّيقية والنبوة، كما وصف إبراهيم عليه السلام
وَرَفَعْناهُ مَكاناً عَلِيًّا قال النسفي: هو شرف النبوة، الزلفى عند الله. ولنا عودة على هذا الموضوع في الفوائد.
وبعد أن ذكر الله عز وجل هؤلاء الرسل عليهم السلام قال: أُولئِكَ إشارة إلى المذكورين في السورة من زكريا إلى إدريس الَّذِينَ أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ مِنَ النَّبِيِّينَ وكل النبيين منعم عليهم وتخصيص هؤلاء بالذكر لا ينفي الإنعام على غيرهم، وإنما ذكرهم هنا وحدهم لحكمة يقتضيها سياق السورة ومكانها من القرآن عامة مِنْ ذُرِّيَّةِ آدَمَ فكلهم من ذرية آدم وَمِمَّنْ حَمَلْنا مَعَ نُوحٍ وكل مذكور في هذه السورة منهم ما عدا إدريس وَمِنْ ذُرِّيَّةِ إِبْراهِيمَ دخل في ذلك بشكل مباشر إسماعيل وإسحاق وَإِسْرائِيلَ هو يعقوب وهو ابن إسحاق، فهو من ذرية إبراهيم، ومن ذرية إسرائيل: موسى، وهارون، وزكريا، وعيسى، ويحيى وغيرهم وَمِمَّنْ هَدَيْنا أي للمحاسن وَاجْتَبَيْنا من الأنام كل هؤلاء إِذا تُتْلى عَلَيْهِمْ آياتُ الرَّحْمنِ خَرُّوا سُجَّداً وَبُكِيًّا أي سقطوا على وجوههم ساجدين رغبة باكين رهبة، أي إذا سمعوا كلام الله المتضمن حججه ودلائله وبراهينه سجدوا لربهم؛ خضوعا واستكانة حمدا وشكرا على ما هم فيه من النعم العظيمة. والبكي جمع باك، وقد أجمع العلماء على شرعية السجود هاهنا اقتداء بهم واتباعا لمنوالهم. قال سفيان الثوري .... عن أبي معمر قال: قرأ عمر بن الخطاب رضي الله عنه سورة مريم فسجد وقال: هذا السجود فأين البكى يريد البكاء رواه ابن أبي حاتم.