الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
قال الألوسي في تقديمه لسورة مريم:
(المشهور تسميتها بذلك، ورويت عن رسول الله صلى الله عليه وسلم فقد أخرج الطبراني. وأبو نعيم. والديلمي من طريق أبي بكر بن عبد الله بن أبي مريم الغساني عن أبيه عن جده قال: أتيت رسول الله عليه الصلاة والسلام فقلت:
ولدت لي الليلة جارية فقال: «والليلة أنزلت عليّ سورة مريم» ، وجاء فيما روي عن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما تسميتها بسورة (كهيعص) وهي مكية كما روي عن عائشة وابن عباس وابن الزبير رضي الله تعالى عنهم، وقال مقاتل: هي كذلك إلا آية السجدة فإنها مدنية، نزلت بعد مهاجرة المؤمنين إلى الحبشة، وفي الإتقان استثناء قوله تعالى وَإِنْ مِنْكُمْ إِلَّا وارِدُها أيضا وهي عند العراقيين والشاميين ثمان وتسعون آية، وعند المكيين تسع وتسعون، وللمدنيين قولان.
ووجه مناسبتها لسورة الكهف: اشتمالها على نحو ما اشتملت عليه من الأعاجيب، كقصة ولادة يحيى. وقصة ولادة عيسى عليهما السلام، ولهذا ذكرت بعدها. وقدم ابن كثير للكلام عن سورة مريم بهذه الفائدة روى محمد بن إسحاق في السيرة من حديث أم سلمة. وروى الإمام أحمد عن ابن مسعود في قصة الهجرة إلى أرض الحبشة من مكة أن جعفر بن أبي طالب رضي الله عنه قرأ صدر سورة مريم على النجاشي وأصحابه).
كلمة في سورة مريم ومحورها:
لاحظنا أن القسم الأول من القرآن توجد فيه سورة الأعراف التي تبتدئ بقوله تعالى: المص ونلاحظ الآن أن سورة مريم مبدوءة ب كهيعص وسنجد في القسم الثالث سورة مبدوءة، بالحرف (ص) وحده.
ولاحظنا أن سورة (الأعراف) لم يأت بعدها في قسمها إلا سورتا (الأنفال وبراءة).
وسنرى أن سورة (طه) التي تأتي بعد سورة (مريم) بداية جديدة لمجموعة جديدة كما سنرى أن سورة (ص) هي نهاية مجموعة.
فكأن (ص) عند ما تأتي في سورة تشير إما إلى نهاية مجموعة، أو أنها قنطرة إلى معنى بعيد في سياق سورة البقرة.
وإذ كان ما بعد سورة (مريم) يشير إلى بداية مجموعة جديدة فإن (ص) الواردة فى سورة (مريم) تشير إلى نهاية مجموعة. ومن قبل كنا ذكرنا أن المجموعة الثانية من القسم الثاني من أقسام القرآن تنتهي بسورة مريم.
وقد رأينا أن هذه المجموعة مؤلفة من خمس سور: (الحجر) التي هي مقدمة لتفصيل قوله تعالى: يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا ادْخُلُوا فِي السِّلْمِ كَافَّةً .....
و(النحل) التى فصّلت الآية: هَلْ يَنْظُرُونَ إِلَّا أَنْ يَأْتِيَهُمُ اللَّهُ فِي ظُلَلٍ مِنَ الْغَمامِ .... و (الإسراء) التي فصّلت الآية سَلْ بَنِي إِسْرائِيلَ كَمْ آتَيْناهُمْ مِنْ آيَةٍ بَيِّنَةٍ.
و(الكهف) التي فصّلت الآية زُيِّنَ لِلَّذِينَ كَفَرُوا
…
* والآن تأتي سورة (مريم) لتفصل الآية كانَ النَّاسُ أُمَّةً واحِدَةً
…
وكل ذلك بما يخدم الأمر في الدخول في الإسلام كافة. وعلى هذا فالسور الأربع المتتابعة تفصّل في آيات أربع متتابعة.
…
وإذن فسورة مريم تفصّل قوله تعالى من سورة البقرة: كانَ النَّاسُ أُمَّةً واحِدَةً فَبَعَثَ اللَّهُ النَّبِيِّينَ مُبَشِّرِينَ وَمُنْذِرِينَ وَأَنْزَلَ مَعَهُمُ الْكِتابَ بِالْحَقِّ لِيَحْكُمَ بَيْنَ النَّاسِ فِيمَا
اخْتَلَفُوا فِيهِ وَمَا اخْتَلَفَ فِيهِ إِلَّا الَّذِينَ أُوتُوهُ مِنْ بَعْدِ ما جاءَتْهُمُ الْبَيِّناتُ بَغْياً بَيْنَهُمْ فَهَدَى اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا لِمَا اخْتَلَفُوا فِيهِ مِنَ الْحَقِّ بِإِذْنِهِ وَاللَّهُ يَهْدِي مَنْ يَشاءُ إِلى صِراطٍ مُسْتَقِيمٍ.
وإنما دلنا على أن سورة مريم تفصّل هذه الآية، أو بعض معانيها، ما سبقها من سور تفصل الآيات التي قبل هذه الآية وكونها تكمل هذه السور والمعاني الواردة فيها، كما دلنا على ذلك المعاني.
…
إن آية البقرة تبين أن الناس قد أصبحوا في لحظة ما كافرين جميعا. فاقتضى ذلك إرسال الرسل مبشّرين ومنذرين، وأنزل الله معهم الوحي حاكما في كل خلاف، ولكن الكتاب الذي جاء حاسما لكل خلاف أصبح محل اختلاف بسبب بغي الناس.
ولكن جرت سنة الله أنه رغم الاختلاف فإنه يهدي بالكتاب المؤمنين الخالصين إلى الصراط المستقيم، فالآية تبيّن حكمة بعثة الرسل، وتبيّن حكمة إنزال الكتاب، وتبيّن رحمة الله بأهل الإيمان الذين لا بغي عندهم. وهي بهذا تخدم الأمر بالدخول في الإسلام كله: فإذ بعث الله محمدا صلى الله عليه وسلم بشيرا ونذيرا، أنزل معه الكتاب حاسما لكل خلاف، فالدخول في الإسلام الذي بعث به محمد صلى الله عليه وسلم هو الطريق الوحيد للبشرية لتحسم خلافاتها بالحق وبالوحي وبالكتاب.
لقد اختلف اليهود والنصارى حول المسيح. قال اليهود عليهم اللعنة إنه ابن زنى وقالت النصارى إنه ابن الله وغير ذلك. فجاءت سورة مريم تحسم هذا الخلاف.
واختلف العرب واليهود والنصارى في دين إبراهيم. فجاءت السورة تحسم هذا الخلاف. وتحدثت السورة عن مجموعة من الرسل وعن عبوديتهم لله.
وعما خلفهم أقوامهم به من المخالفة. وعن كون الملائكة لا تنزل إلا بأمر الله.
وعن موقف الكافرين من اليوم الآخر. وعن ادّعائهم أن لله ولدا.
وختمت السورة بقوله تعالى: فَإِنَّما يَسَّرْناهُ بِلِسانِكَ لِتُبَشِّرَ بِهِ الْمُتَّقِينَ وَتُنْذِرَ بِهِ قَوْماً لُدًّا* وَكَمْ أَهْلَكْنا
…
فمحمد صلى الله عليه وسلم يبشر وينذر بهذا القرآن ككل رسول، والقرآن ككل كتاب أنزله الله، يحكم بين الناس فيما اختلفوا فيه.
فسورة مريم نموذج على التبشير والإنذار، والحكم بين الناس فيما اختلفوا فيه بغيا.
وعند ما تحدث الاختلافات فإن الله يهدي أهل الإيمان بواسطة الرسل، وفي ذلك رحمة لهم. ومن ثمّ يذكّر الله في سورة مريم برحمة الله للخلق بإرساله الرسل؛ فتجد السورة تقول:
ذِكْرُ رَحْمَتِ رَبِّكَ عَبْدَهُ زَكَرِيَّا. وَاذْكُرْ فِي الْكِتابِ مَرْيَمَ. وَاذْكُرْ فِي الْكِتابِ إِبْراهِيمَ. وَاذْكُرْ فِي الْكِتابِ مُوسى. وَاذْكُرْ فِي الْكِتابِ إِسْماعِيلَ. وَاذْكُرْ فِي الْكِتابِ إِدْرِيسَ. فهؤلاء رسل مبشرون ومنذرون، وهؤلاء مؤمنون هداهم الله لما اختلف فيه من الحق بإذنه، وهدى الخلق بهم. وهؤلاء اختلف قومهم من بعدهم بغيا.
ومن ثم أرسل الله محمدا صلى الله عليه وسلم بالقرآن ليحكم بين الناس فيما اختلفوا فيه.
هذا مظهر من مظاهر صلة سورة مريم- عليها السلام بمحورها من سورة البقرة، ويمكن أن نعرض المسألة بشكل آخر: أصبح العرب كلهم كفارا. وهذا يقتضي أن يبعث فيهم رسول يبشر وينذر ومعه كتاب يحسم كل خلاف، كما فعل الله للبشرية يوم صارت كلها كفارا.
واختلف أهل الكتاب في الكتاب، وهذا يقتضي أن يبعث الله رسولا بكتاب يحسم الخلاف.
فكان هذا القرآن. إلا أن الخالصين من البغي وحدهم هم الذين يهتدون بهذا القرآن.
…
إن سورة مريم تذكّر برحمة الله لزكريا ولمريم ولإبراهيم ولموسى ولإسماعيل ولإدريس ولكل الأنبياء عليهم الصلاة والسلام. وفي هذا التذكير تفصيل لموضوع بعثة الأنبياء، وموقف الناس منهم، واختلاف الناس بعدهم.
وتذكّر بالحال الذي عليه العرب والناس بعد الرسل، وتبشّر وتنذر.
…
فلنتأمل بدقة ما سنذكره من ارتباط معاني سورة مريم بمحورها:
كانَ النَّاسُ أُمَّةً واحِدَةً فَبَعَثَ اللَّهُ النَّبِيِّينَ مُبَشِّرِينَ وَمُنْذِرِينَ آية البقرة، وسورة مريم تعرض لمجموعة من الرسل بعثوا.
وَمَا اخْتَلَفَ فِيهِ إِلَّا الَّذِينَ أُوتُوهُ مِنْ بَعْدِ ما جاءَتْهُمُ الْبَيِّناتُ بَغْياً بَيْنَهُمْ آية البقرة، والسورة تعرض لاختلاف الناس في شأن المسيح عليه السلام. وهي القضية التي ضل بها أكبر قطاع من البشر، ولإنكار الناس لليوم الآخر وهي القضية التي ضل بها أكثر البشر.
فَهَدَى اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا لِمَا اخْتَلَفُوا فِيهِ مِنَ الْحَقِّ بِإِذْنِهِ آية البقرة، بأن أنزل هذا القرآن ومنه سورة مريم التي هدت الناس لبعض ما اختلف فيه الناس.
وَاللَّهُ يَهْدِي مَنْ يَشاءُ إِلى صِراطٍ مُسْتَقِيمٍ* آية سورة البقرة. وسورة مريم تتعرض لموضوع الهداية إلى الصراط المستقيم
…
إن الدخول في الإسلام هو الذي يحقق حكمة بعثة الرسل، وبه يرتفع الخلاف، وكل خلاف بعد الإسلام سببه البغي، ومهما ضل الناس فإن سنة الله أن يهتدي أهل الإيمان إلى الصراط المستقيم، الذي هو الإسلام. وسورة مريم تذكّر بهذه المعاني، ومن ثم فهي تفصيل لمحورها من سورة البقرة، الآتي في خدمة الأمر بالدخول في الإسلام كله.
تتألف السورة من مقطعين، كل مقطع يتألف من مجموعات، وسنعرض السورة، وأثناء العرض نتحدّث عن سياقها، ونسأل الله أن يجيرنا من الزلل، والتكلف والتعسّف في فهم كتابه، وأن يفتح علينا، وأن يحفظنا، وأن يختم لنا بالإيمان، إنه على ما يشاء قدير.
كهيعص كنا ذكرنا من قبل أن أحدا لا يستطيع الجزم بمراد الله من هذه الأحرف. وذكرنا أن كل من تكلّم في هذه الأحرف إنما يسجّل ملاحظات حولها. وذكرنا إحدى هذه الملاحظات وهي أن هذه الأحرف تعين على فهم الوحدة القرآنية العامة من خلال كونها تشير إلى بداية مجموعة أو نهايتها، أو تشير إلى محل سورة ضمن مجموعة، أو إلى صلة سورة ضمن السياق الكلي، وأمثال هذا.
وهذه سورة مريم مبدوءة بما رأينا. وقد استفدنا من كون آخر حرف في بدايتها (ص) أنها نهاية مجموعة. ومما نلاحظه أنها مبدوءة بالحرف (ك) وهو الحرف نفسه المبدوءة به الآية التي ذكرنا أنها محور سورة مريم من البقرة كانَ النَّاسُ أُمَّةً واحِدَةً.
ونلاحظ أن الحرف (ها) آت في السورة بعدها (طه). ثم لا يرد مرة أخرى، فهل فيه إشارة إلى أن سورته بداية مجموعة لورود الهاء في (كهيعص) كأول حرف بعد الهاء. ثم نلاحظ أن الحرف (يا) يأتي مرة واحدة في سورة (يس) وأن الحرف (عين) يرد بعد ذلك مرة واحدة في سورة الشورى حم عسق والملاحظ: أن ها، يا، عين، جاءت على هذا التسلسل.
كما أن طه، وياسين، وحم عسق، جاءت على نفس التسلسل.
إن (كهيعص) كبقية الأحرف من مفاتيح فهم الوحدة الكلية للقرآن، ومن ثم فإن في هذه الأحرف في القرآن سرا هو وحده آية على أن هذا القرآن من عند الله المحيط علما بكل شئ.
وقد سجّل المفسّرون كثيرا من الأقوال حول هذه الأحرف أشرنا إليها من قبل، ولا يخرج كلامهم عن كونه محاولات للعثور على تفسير أو تسجيلا لملاحظة فلا نعيده.
***