الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
التفسير:
لا تَجْعَلْ مَعَ اللَّهِ إِلهاً آخَرَ قال النسفي: الخطاب للنبي صلى الله عليه وسلم والمراد به أمته.
وقال ابن كثير: والمراد المكلفون من الأمة: لا تجعل أيها المكلف في عبادتك ربك له شريكا فَتَقْعُدَ مَذْمُوماً على إشراكك به مَخْذُولًا لأن الرب تعالى لا ينصرك.
بل يكلك إلى الذين عبدتهم معه، وهم لا يملكون لك ضرا ولا نفعا لأن مالك الضر والنفع هو الله وحده لا شريك له. دلت الآية على أن المشرك يستحق الذم والخذلان والإهانة والحرمان.
وَقَضى رَبُّكَ أي: أمر أمرا مقطوعا به أَلَّا تَعْبُدُوا إِلَّا إِيَّاهُ وَبِالْوالِدَيْنِ إِحْساناً أي وأمر بالوالدين إحسانا أي بأن تحسنوا بالوالدين إحسانا إِمَّا يَبْلُغَنَّ عِنْدَكَ الْكِبَرَ أَحَدُهُما أَوْ كِلاهُما فَلا تَقُلْ لَهُما أُفٍّ أف صوت يدل على تضجر أي لا تسمعهما قولا سيئا، حتى ولا التأفيف الذي هو أدنى مراتب القول السيئ وَلا تَنْهَرْهُما أي ولا تزجرهما عما يتعاطيانه مما لا يعجبك لا قولا ولا فعلا بأن يصدر منك إليهما فعل قبيح. ولما نهاه عن القول القبيح والفعل القبيح، أمره بالقول الحسن والفعل الحسن وَقُلْ لَهُما بدل التأفف والنّهر قَوْلًا كَرِيماً أي جميلا ليّنا طيبا حسنا بأدب وتوقير وتعظيم كما يقتضيه حسن الأدب، ومن الأدب ألا يدعوهما في وجوههما بأسمائهما فإنه من الجفاء، بل يقول يا أبتاه، يا أماه. وفي قوله تعالى (عندك) من قوله: إِمَّا يَبْلُغَنَّ عِنْدَكَ الْكِبَرَ .... نكتة لطيفة إذ تفيد في هذا المقام: أنهما إذا كانا كلّا على ولدهما، ولا كافل لهما غيره فهما عنده في بيته وكنفه، وذلك أشقّ عليه، فهو مأمور بأن يستعمل معهما لين الخلق، حتى لا يقول لهما إذا أضجره شئ منهما أف، فضلا عما يزيد عليه، وقد أوصى الله بهما في الآية أبلغ ما تكون الوصية، حيث افتتحها بأن قرن الإحسان إليهما بتوحيده، ثم ضيّق الأمر في مراعاتهما حتى لم
يرخّص في أدنى كلمة تنفلت من المتضجر مع موجبات الضجر، ومع أحوال لا يكاد يصبر الإنسان معها
ثم قال تعالى: وَاخْفِضْ لَهُما جَناحَ الذُّلِّ مِنَ الرَّحْمَةِ أي تواضع لهما بفعلك. والمعنى: واخفض لهما جناحك الذليل من الرحمة، أي من فرط رحمتك لهما، وعطفك عليهما، لكبرهما وافتقارهما اليوم إلى من كان أفقر خلق الله إليهما بالأمس، وفسّرها الزّجّاج بقوله: وألن جانبك متذللا لهما من مبالغتك في الرحمة لهما وَقُلْ أي في كبرهما وعند وفاتهما رَبِّ ارْحَمْهُما كَما رَبَّيانِي صَغِيراً أي ولا تكتف برحمتك عليهما التي لا بقاء لها وادع الله بأن يرحمهما رحمته الباقية، واجعل ذلك جزاء لرحمتهما عليك في صغرك وتربيتهما لك. قال النسفي: والمراد بالخطاب غيره عليه السلام، والدعاء مختص بالأبوين المسلمين (أي بعد الوفاة) أقول: يدعو للأبوين الكافرين وهما حيّان بالهداية. أما بعد الوفاة فلا يجوز الاستغفار لهما إلا بشرط الإيمان، كما مر معنا في سورة التوبة
رَبُّكُمْ أَعْلَمُ بِما فِي نُفُوسِكُمْ أي بما في ضمائركم، ومن ذلك ما يفيد السياق: من قصد البر إلى الوالدين، ومن النشاط والكرامة في خدمتهما إِنْ تَكُونُوا صالِحِينَ في نيّاتكم وأعمالكم، أي قاصدين الصلاح فيهما فَإِنَّهُ كانَ لِلْأَوَّابِينَ الأوّاب: الذي إذا أذنب بادر إلى التوبة غَفُوراً هو عام في كل من فرطت منه جناية ثم تاب منها، ويندرج تحته الجاني على أبويه، التائب من جنايته لوروده على أثره، كما يفهمه السياق، ومن ثمّ فسّر الآية سعيد بن جبير: أنّها في الرّجل تكون منه البادرة إلى أبويه: وفي نيته وقلبه أنه لا يؤخذ به. وفي رواية: لا يريد إلا الخير. وفي تفسير كلمة الأوّابين أكثر من رأي سنراه في الفوائد.
ثمّ لمّا ذكر تعالى برّ الوالدين، عطف بذكر الإحسان إلى القرابة، وصلة الرحم، وإيتاء المساكين وأبناء السبيل فقال: وَآتِ ذَا الْقُرْبى حَقَّهُ أي ذا القرابة منك أيها المكلف حقّه، وحقّه المفروض هو النفقة إذا كانوا محارم فقراء والمواساة لكل ذي قربى إذا وجد الاحتياج وَالْمِسْكِينَ وَابْنَ السَّبِيلِ أي وآت هؤلاء حقوقهم وحقوقهم المفروضة إنما هي الزكاة والمواساة عند المتربة والمخمصة. ثم لما أمر بالإنفاق نهى عن الإسراف فيه بل يكون وسطا فقال: وَلا تُبَذِّرْ تَبْذِيراً أي ولا تسرف إسرافا.
ثم قال: منفّرا عن التبذير والسرف إِنَّ الْمُبَذِّرِينَ كانُوا إِخْوانَ الشَّياطِينِ أي أمثالهم وأشباههم في التبذير والسفه وترك طاعة الله وارتكاب معصيته وَكانَ الشَّيْطانُ لِرَبِّهِ كَفُوراً أي جحودا لأنه أنكر نعمة الله عليه، ولم يعمل بطاعته، بل أقبل على معصيته ومخالفته، فما ينبغي أن يتشبّه به ولا أن يطاع فإنه لا يدعو إلا إلى مثل فعله،
وَإِمَّا تُعْرِضَنَّ عَنْهُمُ ابْتِغاءَ
رَحْمَةٍ مِنْ رَبِّكَ تَرْجُوها أي إذا سألك أقاربك ومن أمرناك بإعطائهم وليس عندك شئ وأعرضت عنهم لفقد النفقة فَقُلْ لَهُمْ قَوْلًا مَيْسُوراً أي عدهم وعدا حسنا بسهولة ولين. كقولك: إذا جاء رزق الله فسنصلكم إن شاء الله، أو كقولك رزقنا الله وإياكم من فضله، على أنه دعاء لهم ييسر عليهم فقرهم، وقد سمّى الرزق رحمة.
فدلّ ذلك على أنّ الرزق الحسن نعمة إذا قوبلت بالشكر. والمعنى الدقيق للآية وإن أعرضت عن ذي القربى والمسكين وابن السبيل حياء من الرد لفقد رزق من ربك ترجو أن يفتح لك، فردّهم ردّا جميلا،
ثمّ أمر تعالى بالاقتصاد في العيش، ذامّا للبخل ناهيا عن السرف وَلا تَجْعَلْ يَدَكَ مَغْلُولَةً إِلى عُنُقِكَ أي لا تكن بخيلا منوعا لا تعطي أحدا وَلا تَبْسُطْها كُلَّ الْبَسْطِ أي ولا تسرف في الإنفاق فتعطي فوق طاقتك، وتخرج أكثر من دخلك فَتَقْعُدَ مَلُوماً إن بخلت مَحْسُوراً إن أسرفت.
والمحسور: هو الكليل المنقطع. أي ومتى بسطت يدك فوق طاقتك قعدت بلا شئ تنفقه، فتكون كالحسير الذي عجز عن السفر فوقف ضعفا وعجزا. وقد يكون اللوم والحسر بآن واحد للمسرف. فالمسرف ملوم عند الله وعند الناس يقول الفقير: أعطى فلانا وحرمني. ويقول الغني: ما يحسن تدبير أمر المعيشة، والمسرف ملوم عند نفسه فهو إذا احتاج ندم. وفي ذكر الغل والبسط في الآية تمثيل لمنع الشحيح وإعطاء المسرف. وفي الآية أمر بالاقتصاد الذي هو بين الإسراف والتقتير
إِنَّ رَبَّكَ يَبْسُطُ الرِّزْقَ لِمَنْ يَشاءُ فليس بسط الرزق إليك وَيَقْدِرُ أي وهو الذي يضيّق فلا لوم عليك، يغني من يشاء ويفقر من يشاء لما له في ذلك من الحكمة إِنَّهُ كانَ بِعِبادِهِ خَبِيراً بمصالحهم فيمضيها بَصِيراً بحوائجهم فيقضيها. وفي الآية تسلية لرسول الله صلى الله عليه وسلم ممّا يرهقه من الضيق بأن ذلك ليس لهوان منك عليه، ولا لبخل به عليك، ولكن لأن بسط الأرزاق وقدرها مفوّض إلى الله تعالى، فهو الرازق القابض الباسط المتصرف في خلقه بما يشاء. فيغني من يشاء ويفقر من يشاء لما له في ذلك
من الحكمة، فهو الخبير البصير بمن يستحق الغنى ومن يستحق الفقر، كما جاء في الحديث:«إن من عبادي لمن لا يصلحه إلا الفقر ولو أغنيته لأفسدت عليه دينه، وإن من عبادي لمن لا يصلحه إلا الغنى ولو أفقرته لأفسدت عليه دينه» وقد يكون الغني في حق بعض الناس استدراجا والفقر عقوبة- عياذا بالله من هذا وهذا- وقد يقلّب الله أقواما في هذا وهذا ليبلوهم، وقد جعل الله رسوله صلى الله عليه وسلم هو الأسوة في الأحوال كلها ليقتدي به الجميع
وَلا تَقْتُلُوا أَوْلادَكُمْ خَشْيَةَ إِمْلاقٍ
أي خوف أن تفتقروا نَحْنُ نَرْزُقُهُمْ وَإِيَّاكُمْ نهاهم عن قتلهم وضمن أرزاقهم إِنَّ قَتْلَهُمْ كانَ خِطْأً كَبِيراً أي إثما عظيما. وفي الصحيحين عن عبد الله بن مسعود «قلت: يا رسول الله أي الذنب أعظم؟ قال: أن تجعل لله ندا وهو خلقك. قلت: ثم أي؟ قال: أن تقتل ولدك خشية أن يطعم معك. قلت: ثم أي؟ قال: أن تزاني بحليلة جارك.» قال ابن كثير في الآية: هذه الآية دالة على أن الله تعالى أرحم بعباده من الوالد بولده، لأنه نهى عن قتل الأولاد، كما أوصى الآباء بالأولاد في الميراث، وكان أهل الجاهلية لا يورّثون البنات بل كان أحدهم ربما قتل ابنته لئلا تكثر عيلته فنهى الله تعالى عن ذلك
وَلا تَقْرَبُوا الزِّنى هذا نهي عن مقاربة الزنى ومخالطة أسبابه ودواعيه كالمس والقبلة والخلطة فضلا عن الزنى نفسه إِنَّهُ أي الزنى كانَ فاحِشَةً أي معصية مجاوزة حد الشرع والعقل وَساءَ سَبِيلًا أي وبئس طريقا طريقه، وبئس مسلكا مسلكه.
ثم نهى الله عن قتل النفس بغير حق شرعي وَلا تَقْتُلُوا النَّفْسَ الَّتِي حَرَّمَ اللَّهُ إِلَّا بِالْحَقِّ بأن ترتكب ما يبيح الدم، أو بأن كانت مباحة الدم أصلا كالحربي. وفي الصحيحين أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال:«لا يحل دم امرئ مسلم يشهد أن لا إله إلا الله وأن محمدا رسول الله إلا بإحدى ثلاث: النفس بالنفس، والزاني المحصن، والتارك لدينه المفارق للجماعة» . وفي السنن: «لزوال الدنيا عند الله أهون من قتل مسلم» . وَمَنْ قُتِلَ مَظْلُوماً أي غير مرتكب ما يبيح الدم فَقَدْ جَعَلْنا لِوَلِيِّهِ سُلْطاناً أي تسلطا على القاتل. فإنه بالخيار فيه إن شاء قتله قودا، وإن شاء عفا عنه على الدية، وإن شاء عفا عنه مجانا، لما ثبتت السنة بذلك فَلا يُسْرِفْ أي الولي فِي الْقَتْلِ بأن يمثل به أو يقتص من غير القاتل إِنَّهُ كانَ مَنْصُوراً أي إن الولي منصور على القاتل شرعا وعرفا وقدرا، قال النسفي وهو من الحنيفة: وظاهر الآية يدل على أن القصاص يجري بين الحر والعبد، وبين المسلم والذمي. لأن أنفس أهل الذمة داخلة في الآية لكونها محرمة. أقول: في هذا خلاف بين العلماء
وَلا تَقْرَبُوا مالَ الْيَتِيمِ إِلَّا بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ أي إلا بالخصلة والطريقة التي هي أحسن، وهي حفظه وتثميره حَتَّى يَبْلُغَ أَشُدَّهُ قال النسفي:(أي ثماني عشرة سنة). وفي أول سورة النساء تفصيل لما له علاقة بهذا وَأَوْفُوا بِالْعَهْدِ مع الله بحفظ أوامره ونواهيه، ومع الناس بما تعاهدونهم عليه، وبما تعاقدونهم عليه في المعاملات؛ فإن العهد والعقد كل منهما يسأل صاحبه عنه إِنَّ الْعَهْدَ كانَ مَسْؤُلًا أي عنه، أو مطلوبا يطلب من
المعاهد ألا يضيعه، أو إن صاحب العهد كان مسئولا عنه
وَأَوْفُوا الْكَيْلَ إِذا كِلْتُمْ أي من غير تطفيف ولا تبخسوا الناس أشياءهم وَزِنُوا بِالْقِسْطاسِ أي الميزان الْمُسْتَقِيمِ المعتدل الذي لا اعوجاج فيه ولا انحراف ولا اضطراب ذلِكَ خَيْرٌ أي لكم في معاشكم ومعادكم وَأَحْسَنُ تَأْوِيلًا أي عاقبة أي مآلا ومنقلبا. من آل، إذا رجع، قال قتادة في تفسيرها: أي خير ثواب وأحسن عاقبة
وَلا تَقْفُ ما لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ أي ولا تتبع ما لم تعلم إِنَّ السَّمْعَ وَالْبَصَرَ وَالْفُؤادَ كُلُّ أُولئِكَ أي هذه الصفات من السمع والبصر والفؤاد كانَ عَنْهُ مَسْؤُلًا قال ابن كثير: أي سيسأل العبد عنها يوم القيامة، وتسأل عنه وعما عمل فيها. وقال النسفي: يقال للإنسان لم سمعت ما لم يحل لك سماعه. ولم نظرت إلى ما لا يحل لك النظر إليه، ولم عزمت على ما لم يحل لك العزم عليه،
ثم نهى الله عباده عن التجبر والتبختر في المشية فقال: وَلا تَمْشِ فِي الْأَرْضِ مَرَحاً أي ذا مرح أي متبخترا متمايلا مشي الجبارين إِنَّكَ لَنْ تَخْرِقَ الْأَرْضَ أي لن تجعل فيها خرقا بدوسك لها، وشدة وطأتك وَلَنْ تَبْلُغَ الْجِبالَ طُولًا أي بتطاولك وتمايلك وفخرك وإعجابك بنفسك
كُلُّ ذلِكَ مما مر كانَ سَيِّئُهُ أي قبيحه كالزنا والإسراف والعقوق
…
عِنْدَ رَبِّكَ مَكْرُوهاً ثم بين الله عز وجل أن ما أمر به من الأخلاق الجميلة، ونهى عنه من الصفات الرذيلة؛ هو من الحكمة التي أوحاها الله لرسوله صلى الله عليه وسلم ليأمر بها الناس فقال:
ذلِكَ قال النسفي عنها: إشارة إلى ما تقدم من قوله لا تَجْعَلْ مَعَ اللَّهِ إِلهاً آخَرَ إلى هذه الغاية أقول أي إشارة إلى المجموعة التي نحن بصددها مِمَّا أَوْحى إِلَيْكَ رَبُّكَ مِنَ الْحِكْمَةِ قال النسفي: أي مما يحكم العقل بصحته وتصلح النفس بأسوته،.
أقول: وكل ما صدر عن الله من فعل أو أمر أو نهي أو كلام هو عين الحكمة، ومنه هذه الأوامر والنواهي وَلا تَجْعَلْ مَعَ اللَّهِ إِلهاً افتتحت هذه الأوامر والنواهي بالنهي عن الشرك، وختمت به، لأن التوحيد رأس كل حكمة وملاكها، ومن عدمه لم تنفعه حكمة، وإن حيّر الحكماء وطار في جو السماء. قال النسفي: وما أغنت عن الفلاسفة أسفار الحكم وهم عن دين الله أضل من النعم. فَتُلْقى أي إذا أشركت فِي جَهَنَّمَ مَلُوماً أي تلومك نفسك، ويلومك الله والخلق مَدْحُوراً أي مطرودا من الرحمة. قال ابن كثير: والمراد من هذا الخطاب الأمة بواسطة الرسول صلى الله عليه وسلم فإنه صلوات الله وسلامه عليه معصوم. وبعد هذه الجولة الطويلة من