الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
المصحف. ولكن ترتيب هذه الآيات في السور ترتيب توقيفي، فلا بد من حكمة في ترتيبها على هذا النسق.
التفسير:
لما أتم الله عز وجل ذكر الوعد والوعيد في نهاية قصة آدم عليه السلام أتبعه بقوله:
نَبِّئْ عِبادِي أي أخبر عبادي أَنِّي أَنَا الْغَفُورُ الرَّحِيمُ أي أني ذو مغفرة وذو رحمة
وَأَنَّ عَذابِي هُوَ الْعَذابُ الْأَلِيمُ أي وأني ذو عذاب أليم، وقد جاء هذا عقب ما تقدم من الوعد والوعيد في نهاية قصة آدم تقريرا لما ذكر، وتمكينا له في النفوس، وعباده هم الذين مرّ ذكرهم بقوله: إِنَّ عِبادِي لَيْسَ لَكَ عَلَيْهِمْ سُلْطانٌ وهكذا اتضح كيف يكون الموقف من الكافرين ذَرْهُمْ يَأْكُلُوا وَيَتَمَتَّعُوا وَيُلْهِهِمُ الْأَمَلُ فَسَوْفَ يَعْلَمُونَ لأنهم سَواءٌ عَلَيْهِمْ أَأَنْذَرْتَهُمْ أَمْ لَمْ تُنْذِرْهُمْ لا يُؤْمِنُونَ أما عباد الله فهؤلاء يربون على مقامي: الخوف والرجاء، وعلى معرفة سنن الله ومن ثم
وَنَبِّئْهُمْ عَنْ ضَيْفِ إِبْراهِيمَ أي وأخبر أمتك عن أضياف إبراهيم، لأن هذا الإخبار يدلهم على سنة الله في أوليائه، وعلى سنته في أعدائه في الدنيا بعد أن عرفوا من قصة آدم عليه السلام ونهايتها سنته في أوليائه وأعدائه في الآخرة، كما أن في هذا الإخبار تعريفا لهم على سنته في إنزال الملائكة الذي اقترحه الكافرون في أول السورة، فهو ينزلهم إما لتكريم رسول أو لتعذيب المكذبين، وفي المجموعة تذكير وتدليل على أنه شديد العقاب، وأنه غفور رحيم، كما أن في هذا الإخبار إعجازا إذ يتحدث عن دقائق ما كانت لتذكر لولا أن هذا القرآن من عند الله
إِذْ دَخَلُوا عَلَيْهِ أي على إبراهيم فَقالُوا سَلاماً أي نسلم سلاما قالَ إِنَّا مِنْكُمْ وَجِلُونَ أي خائفون، وقد ذكر في مكان آخر رده للسلام وتقديمه للطعام وسبب خوفه منهم وذلك عند ما رأى أيديهم لا تصل إلى ما قربه إليهم من الضيافة
قالُوا لا تَوْجَلْ أي لا تخف إِنَّا نُبَشِّرُكَ بِغُلامٍ عَلِيمٍ أي إسحاق، والمعنى إنك مبشّر آمن فلا توجل
قالَ متعجبا من أن يكون ذلك مع كبره وكبر زوجته ومتحققا للوعد أَبَشَّرْتُمُونِي عَلى أَنْ مَسَّنِيَ الْكِبَرُ فَبِمَ تُبَشِّرُونَ أي أبشرتموني مع مس الكبر بأن يولد لي؟ أي إن الولادة أمر مستنكر عادة مع الكبر فبأي أعجوبة تبشرونني، وفهمنا كلمة الأعجوبة من ما الاستفهامية بقوله فَبِمَ فأجابوه مؤكدين لما بشروه به تحقيقا وبشارة بعد بشارة
قالُوا بَشَّرْناكَ بِالْحَقِّ أي باليقين الذي لا لبس فيه فَلا تَكُنْ مِنَ الْقانِطِينَ أي من الآيسين من ذلك، فأجابهم
بأنه ليس يقنط فإنه يعلم من قدرة الله ورحمته ما هو أبلغ من ذلك
قالَ وَمَنْ يَقْنَطُ مِنْ رَحْمَةِ رَبِّهِ إِلَّا الضَّالُّونَ أي إلا المخطئون طريق الصواب، أي لم أستنكر ذلك قنوطا من رحمته، ولكن استبعادا له في العادة التي أجراها، ثم شرع يسألهم عما جاءوا له
قالَ فَما خَطْبُكُمْ أي فما شأنكم أَيُّهَا الْمُرْسَلُونَ أي أيها الملائكة المرسلون من الله
قالُوا إِنَّا أُرْسِلْنا إِلى قَوْمٍ مُجْرِمِينَ أي قوم لوط
إِلَّا آلَ لُوطٍ أي إلا أهله المؤمنين إِنَّا لَمُنَجُّوهُمْ أَجْمَعِينَ
إِلَّا امْرَأَتَهُ فإنها ليست من المؤمنين قَدَّرْنا إِنَّها لَمِنَ الْغابِرِينَ أي المهلكين في العذاب وإنما قالوا قدرنا، والمقدر الله لقربهم من الله، وتكليفهم منه بذلك
فَلَمَّا جاءَ آلَ لُوطٍ الْمُرْسَلُونَ* قالَ إِنَّكُمْ قَوْمٌ مُنْكَرُونَ أي لا أعرفكم
قالُوا بَلْ جِئْناكَ بِما كانُوا فِيهِ يَمْتَرُونَ أي ما جئناك بما تنكرنا لأجله بل جئناك بما فيه سرورك، وتشفّيك من أعدائك وهو العذاب الذي كنت تتوعدهم بنزوله فيمترون فيه، أي يشكون ويكذبونك
وَأَتَيْناكَ بِالْحَقِّ أي باليقين من عذابهم وَإِنَّا لَصادِقُونَ أي في الإخبار بنزوله بهم
فَأَسْرِ بِأَهْلِكَ بِقِطْعٍ مِنَ اللَّيْلِ أي في آخر الليل، أو بعد ما يمضي شئ صالح من الليل وَاتَّبِعْ أَدْبارَهُمْ وسر خلفهم وامش وراءهم يكون أحفظ لهم ولتكون مطّلعا عليهم وعلى أحوالهم وَلا يَلْتَفِتْ مِنْكُمْ أَحَدٌ أي إذا سمعتم الصيحة بالقوم فلا تلتفتوا إليهم، وذروهم فيما حلّ بهم من العذاب والنكال، والحكمة في ذلك لئلا يروا ما ينزل بقومهم من العذاب فيرقّوا لهم في موضع لا تجوز فيه الرقة، أو جعل النهي عن الالتفات من أجل مواصلة السير وترك التواني والتوقف، لأن من يلتفت لا بد له من أدنى وقفة وَامْضُوا حَيْثُ تُؤْمَرُونَ أي حيث أمركم الله بالمضي إليه. وتدعي التوراة الحالية المحرّفة أن المكان الذي ذهب إليه هو صوغر- بلد قريبة من سدوم- وعمورة قريتي قومه اللتين عذبتا
وَقَضَيْنا إِلَيْهِ أي وأوحينا إليه وحيا مبتوتا مقضيا ذلِكَ الْأَمْرَ وهو أَنَّ دابِرَ هؤُلاءِ مَقْطُوعٌ مُصْبِحِينَ أي وقت الصباح ودابرهم آخرهم أي يستأصلون عن آخرهم حتى لا يبقى منهم أحد
وَجاءَ أَهْلُ الْمَدِينَةِ تذكر التوراة الحالية أن سكن لوط كان في سدوم، وأن مجئ الملائكة إليها وأن رجالها جميعا جاءوا إلى لوط يَسْتَبْشِرُونَ أي فرحين بالملائكة طمعا منهم في ركوب الفاحشة
قالَ أي لوط إِنَّ هؤُلاءِ ضَيْفِي فَلا تَفْضَحُونِ أي بفضيحة ضيفي، لأن من أساء إلى ضيفي فقد أساء إليّ
وَاتَّقُوا اللَّهَ وَلا تُخْزُونِ أي ولا تذلوني وتهينوني بإذلال ضيفي وإهانته. قال ابن كثير: وهذا إنما قاله لهم قبل أن يعلم بأنهم رسل الله كما قال في سورة
هود، وأما هاهنا فتقدم ذكر أنهم رسل الله، وعطف بذكر مجئ قومه ومحاجته لهم، ولكن الواو لا تقتضي الترتيب ولا سيّما إذا دلّ دليل على خلافه».
قالُوا أَوَلَمْ نَنْهَكَ عَنِ الْعالَمِينَ أي: أو ما نهيناك أن تضيف أحدا، أو أوما نهيناك عن أن تجير أحدا أو تدفع عنه، فأرشدهم إلى نسائهم وما خلق لهم ربهم منهن من الفروج المباحة
قالَ هؤُلاءِ بَناتِي أي أزواجكم فالنّبي أب لقومه، أو أنه عرض عليهم أن يزوجهم بناته، وكان نكاح المؤمنات من الكفار جائزا إِنْ كُنْتُمْ فاعِلِينَ أي إن كنتم تريدون قضاء الشهوة، فلتكن فيما أحلّ الله دون ما حرّم، هذا كله وهم غافلون عما يراد بهم وما قد أحاط بهم من البلاء، وماذا سيصبحهم من العذاب المستقر- نعوذ بالله من الغفلة- ولهذا قال الله تعالى لمحمد صلى الله عليه وسلم:
لَعَمْرُكَ إِنَّهُمْ لَفِي سَكْرَتِهِمْ أي في غوايتهم التي أذهبت عقولهم وتمييزهم بين الخطأ الذي هم عليه، والصواب الذي يدعون إليه يَعْمَهُونَ أي يتحيرون ويترددون
فَأَخَذَتْهُمُ الصَّيْحَةُ وهي ما جاءهم من الصوت القاصف مُشْرِقِينَ أي داخلين في الشروق وهو بزوغ الشمس. قال ابن كثير: وذلك مع رفع بلادهم إلى عنان السماء، ثم قلبها وجعل عاليها سافلها، وإرسال حجارة السجيل عليهم، وقد تقدم الكلام عن السجيل في سورة هود بما فيه كفاية
فَجَعَلْنا عالِيَها أي عالي قرى قوم لوط سافِلَها وَأَمْطَرْنا عَلَيْهِمْ حِجارَةً مِنْ سِجِّيلٍ أي حجارة من طين مستحجرة قوية شديدة
إِنَّ فِي ذلِكَ لَآياتٍ لِلْمُتَوَسِّمِينَ أي المتفرسين المتأملين، وسمي المتفرس المتأمل متوسما لأنه كأنه يعرف باطن الشئ بسمة ظاهرة، والمعنى: إن آثار هذه النقم الظاهرة على تلك البلاد لمن تأمل ذلك وتوسّمه بعين بصره وبصيرته فيه معجزات كثيرة
وَإِنَّها أي هذه القرى يعني آثارها لَبِسَبِيلٍ مُقِيمٍ أي ثابت يسلكه الناس لم يندرس بعد وهم يبصرون تلك الآثار، قال ابن كثير:«أي وإن قرية سدوم التي أصابها ما أصابها من القلب الصوري والمعنوي والقذف بالحجارة حتى صارت بحيرة منتنة خبيثة بطريق مهيع مسالكه مستمرة إلى اليوم» أي من أراد التوسم فإنه ميسر له
إِنَّ فِي ذلِكَ لَآيَةً لِلْمُؤْمِنِينَ هي للمتوسمين آيات وللمؤمنين آية، والمعنى: إن الذي صنعنا بقوم لوط من الهلاك والدمار وإنجائنا لوطا وأهله لدلالة واضحة جلية للمؤمنين بالله ورسله. وحتى لا يفهم فاهم أن هذه حادثة مفردة وليست سنة مطردة.
قال تعالى: وَإِنْ كانَ أي وإنه كان أَصْحابُ الْأَيْكَةِ أي قوم شعيب،
والأيكة: الشجر الملتف لَظالِمِينَ بشركهم بالله، وقطعهم الطريق، ونقصهم المكيال والميزان
فَانْتَقَمْنا مِنْهُمْ بالصيحة والرجفة وعذاب يوم الظلة وَإِنَّهُما أي قرى قوم لوط، وقرية شعيب. قال ابن كثير: وقد كانوا قريبا من قوم لوط، بعدهم في الزمان ومسامتين
لهم بالمكان، ولهذا قال: وإنهما لَبِإِمامٍ مُبِينٍ أي لبطريق واضح مسلوك مطروق، وقد مرّ معنا في سورة الأعراف تحقيق مكان قوم شعيب
وَلَقَدْ كَذَّبَ أَصْحابُ الْحِجْرِ هم ثمود، والحجر واديهم وهو بين المدينة والشام، وآثارهم لا زالت قائمة مدهشة الْمُرْسَلِينَ كذبوا صالحا نبيهم عليه السلام، ومن كذّب برسول فقد كذّب بجميع المرسلين
وَآتَيْناهُمْ آياتِنا كالناقة التي أخرجها الله لهم بدعاء صالح من صخرة صماء، وكانت تسرح في بلادهم لها شرب ولهم شرب يوم معلوم. وفي ذلك آيات تدل على صدق صالح عليه السلام فَكانُوا عَنْها أي عن الآيات مُعْرِضِينَ أي أعرضوا عنها ولم يؤمنوا بها
وَكانُوا يَنْحِتُونَ مِنَ الْجِبالِ بُيُوتاً آمِنِينَ أي ينقبون في الجبال بيوتا آمن، لوثاقة البيوت واستحكامها من أن تنهدم، ومن نقب اللصوص، أو كانوا ينحتونها من غير خوف ولا احتياج إليها، بل أشرا وبطرا وعبثا، أو آمنين من عذاب الله يحسبون أن الجبال تحميهم
فَأَخَذَتْهُمُ الصَّيْحَةُ أي بالعذاب مُصْبِحِينَ أي وقت الصباح من اليوم الرابع من قول صالح لهم تمتعوا في داركم ثلاثة أيام ذلك وعد غير مكذوب
فَما أَغْنى عَنْهُمْ ما كانُوا يَكْسِبُونَ من بناء البيوت الوثيقة، واقتناء الأموال النفيسة، وما كانوا يستقبلونه من زروعهم وثمارهم التي ضنّوا بمائها عن الناقة، حتى عقروها لئلا تضيّق عليهم في المياه.
فسنة الله إذن جارية في إهلاك من كذّب رسله، ولكن لكل شئ أجل عنده، وقد ذكرنا في مقدمة تفسير هذه المجموعة صلتها بما قبلها، ولنذكر هنا صلة هذه المجموعة بالمجموعة الأولى من السورة.
في أول السورة نجد ذَرْهُمْ يَأْكُلُوا وَيَتَمَتَّعُوا وَيُلْهِهِمُ الْأَمَلُ فَسَوْفَ يَعْلَمُونَ ثم وَما أَهْلَكْنا مِنْ قَرْيَةٍ إِلَّا وَلَها كِتابٌ مَعْلُومٌ* ما تَسْبِقُ مِنْ أُمَّةٍ أَجَلَها وَما يَسْتَأْخِرُونَ وهذه المجموعة التي مرّت معنا فيها تمثيل على هذا الإهلاك التمتع والأمل.
وكنا قد ذكرنا إلى ما يشير إلى عمق الصلة بين أواسط السورة وبدايتها ونهايتها، وكل ذلك ضمن محور السورة، وبما يحقق كون السورة مرتبطة بما بعدها من السور، ولعلّ