الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
تالف. هؤلاء العميان لم يكفهم أنهم عميان، بل يبذلون الجهود ليفتنوا أهل الإبصار، ويحرفوهم، بل يحاولون اضطهاد أهل الإبصار ليخرجوهم من ديارهم. وهذان هما موضوعا الفقرتين التاليتين، وهما يأتيان في معرض الكلام عن تأييد الله رسوله صلى الله عليه وسلم، وتثبيته وعصمته، وسلامته من شر الأشرار، وكيد الفجّار، وأنه تعالى هو المتولي أمره ونصره، وأنه لا يكله إلى أحد من خلقه، بل هو وليّه وحافظه وناصره ومؤيده ومظفره.
قال تعالى: وَإِنْ كادُوا أي وإنهم قاربوا لَيَفْتِنُونَكَ أي يخدعونك فاتنين عَنِ الَّذِي أَوْحَيْنا إِلَيْكَ من أوامرنا ونواهينا، ووعدنا ووعيدنا لِتَفْتَرِيَ عَلَيْنا غَيْرَهُ أي لتتقوّل علينا ما لم نقل وَإِذاً أي ولو اتبعت مرادهم لَاتَّخَذُوكَ خَلِيلًا أي: لكنت لهم وليا وخرجت من ولايتي
وَلَوْلا أَنْ ثَبَّتْناكَ لَقَدْ كِدْتَ تَرْكَنُ إِلَيْهِمْ شَيْئاً قَلِيلًا أي ولولا تثبيتنا وعصمتنا، لقاربت أن تميل إلى مكرهم ركونا قليلا
إِذاً أي لو ركنت إليهم أدنى ركون لَأَذَقْناكَ ضِعْفَ الْحَياةِ أي عذاب الحياة مضاعفا وَضِعْفَ الْمَماتِ أي وعذاب الآخرة مضاعفا والتقدير: لأذقناك عذابا ضعفا في الحياة، وعذابا ضعفا في الممات.
ثُمَّ لا تَجِدُ لَكَ عَلَيْنا نَصِيراً أي معينا لك يمنع عذابنا عنك
وَإِنْ كادُوا وإنهم قاربوا لَيَسْتَفِزُّونَكَ أي ليزعجونك بعدوانهم ومكرهم مِنَ الْأَرْضِ من أرض مكة، أو من أرض العرب لِيُخْرِجُوكَ مِنْها وَإِذاً لا يَلْبَثُونَ خِلافَكَ أي بعدك إِلَّا قَلِيلًا أي إلا زمانا قليلا، فإن الله مهلكهم
سُنَّةَ مَنْ قَدْ أَرْسَلْنا قَبْلَكَ مِنْ رُسُلِنا وَلا تَجِدُ لِسُنَّتِنا تَحْوِيلًا أي تبديلا، أي هكذا عادتنا في الذين كفروا برسلنا، وآذوهم بالإخراج من بين أظهرهم، يأتيهم العذاب، والمعنى: أن كل قوم أخرجوا رسولهم من بين ظهرانيهم فسنة الله أن يهلكهم. وقد يتساءل متسائل ألم يخرجوا رسول الله صلى الله عليه وسلم؟ والجواب: إنه هاجر وخرج بأمر ربه، ومن ثم لم يستأصلوا، أو أن ما حدث لهم يوم بدر كان عذابا يقابل فعلهم. أو أن أرض العرب واحدة، فالانتقال من مكة إلى المدينة لا يعتبر إخراجا.
كلمة في السياق:
النعمة ينبغي أن يقابلها شكر، والشكر: هو القيام بالتكليف، والقيام بالتكليف: هو
الدخول في الإسلام كله، والدخول في الإسلام كله يعني: الالتزام الكامل بوحي الله، والالتزام الكامل بوحي الله لا يقبل مساومة ولا مداهنة، فإن ساوم أهل ذلك أو داهنوا استحقوا العذاب الدنيوي مضاعفا، والعذاب الأخروي مضاعفا، كما أن الالتزام بالوحي كاملا سيقابل من أعداء الله بالإيذاء الذي قد يكون منه الإخراج من الأرض، وكل ذلك لا ينبغي أن يلتفت إليه، هذا ما ذكرته الفقرتان السابقتان. والآن لنتذكر صلة ما مرّ معنا بمحور السورة: تأمل هذه الآيات: فَهُوَ فِي الْآخِرَةِ أَعْمى وَأَضَلُّ سَبِيلًا وإِذاً لَأَذَقْناكَ ضِعْفَ الْحَياةِ وَضِعْفَ الْمَماتِ ووَ إِذاً لا يَلْبَثُونَ خِلافَكَ إِلَّا قَلِيلًا. إذا تأملت هذا وصلته بقوله تعالى في سورة البقرة: وَمَنْ يُبَدِّلْ نِعْمَةَ اللَّهِ مِنْ بَعْدِ ما جاءَتْهُ فَإِنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعِقابِ وإذا تأملت قوله تعالى:
وَلَوْلا أَنْ ثَبَّتْناكَ لَقَدْ كِدْتَ تَرْكَنُ إِلَيْهِمْ شَيْئاً قَلِيلًا وصلته بقوله تعالى:
ادْخُلُوا فِي السِّلْمِ كَافَّةً فإنك ترى كيف أن المقطع يفصّل في محوره من سورة البقرة أي تفصيل.
وبعد ما رأيناه من المقطع تأتي الآن مجموعة أوامر موجّهة لرسول الله صلى الله عليه وسلم، ومجئ الأوامر في هذا السياق يفيد: أن تنفيذ هذه الأوامر هو الردّ على محاولات الحرف أو الإخراج، وهو التعبير العملي عن شكر النعمة، وهو الشئ الذي يستعان به في عبور سفينة الحياة بهذا الإسلام.
أَقِمِ الصَّلاةَ لِدُلُوكِ الشَّمْسِ أي لزوالها إِلى غَسَقِ اللَّيْلِ أي إلى ظلمته دخل في ذلك الظهر، والعصر، والمغرب، والعشاء وَقُرْآنَ الْفَجْرِ أي وأقم قرآن الفجر أي صلاته،
وسميت الصلاة بالقرآن لكون القراءة ركنا فيها، كما سميت ركوعا وسجودا، أو سميت قرآنا لطول ما يقرأ بها من القرآن إِنَّ قُرْآنَ الْفَجْرِ كانَ مَشْهُوداً أي إن صلاة الفجر تشهدها ملائكة الليل وملائكة النهار، كما أخرج البخاري عن أبي هريرة رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال:«فضل صلاة الجميع على صلاة الواحد خمس وعشرون درجة، وتجتمع ملائكة الليل وملائكة النهار في صلاة الفجر» يقول أبو هريرة: اقرءوا إن شئتم وَقُرْآنَ الْفَجْرِ إِنَّ قُرْآنَ الْفَجْرِ كانَ مَشْهُوداً وعلى هذا فإن الأمر في الآية يفسّر بإقامة الصلوات الخمس المكتوبة في أوقاتها. وقد ثبتت السنة عن رسول الله صلى الله عليه وسلم تواترا من أفعاله وأقواله بتفاصيل هذه الأوقات على ما عليه أهل الإسلام اليوم، مما تلقوه خلفا عن سلف. وقرنا بعد قرن.
فلا ينكره إلا كافر
وَمِنَ اللَّيْلِ فَتَهَجَّدْ بِهِ أي بالقرآن نافِلَةً لَكَ أي عبادة زائدة لك على الصلوات الخمس. والمعنى: أن التهجد زيد لك على الصلوات المفروضة غنيمة لك، أو فريضة عليك خاصة دون غيرك، لأنه تطوع لهم، والتهجد في الأصل ترك الهجود للصلاة، ومن ثم فإنه يكون عادة بعد نوم، فالآية فيها أمر لرسول الله صلى الله عليه وسلم بقيام الليل زيادة على المكتوبة. وفي صحيح مسلم عن أبي هريرة عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه سئل أي الصلاة أفضل بعد المكتوبة قال:«صلاة الليل» . ثم قال تعالى: عَسى أَنْ يَبْعَثَكَ رَبُّكَ مَقاماً مَحْمُوداً أي افعل هذا الذي أمرتك به؛ لنقيمك يوم القيامة مقاما محمودا، يحمدك فيه الخلائق كلهم، وخالقهم تبارك وتعالى. قال ابن جرير:
قال أكثر أهل التأويل: ذلك هو المقام الذي يقومه محمد صلى الله عليه وسلم يوم القيامة للشفاعة للناس؛ ليريحهم ربهم من عظيم ما هم فيه من شدة ذلك اليوم
وَقُلْ رَبِّ أَدْخِلْنِي مُدْخَلَ صِدْقٍ وَأَخْرِجْنِي مُخْرَجَ صِدْقٍ في شأني كله، وفي كل ما أدخل فيه وأخرج من أمر أو مكان، وقد نزلت حين الأمر بالهجرة كما سنرى وَاجْعَلْ لِي مِنْ لَدُنْكَ سُلْطاناً نَصِيراً أي ملكا وعزا قويا ناصرا للإسلام على الكفر، مظهرا له عليه، أو حجة بينة تنصرني بها على من خالفني، والقول الأول هو الذي رجحه ابن جرير. قال ابن كثير: وهو الأرجح لأنه لا بد مع الحق من قهر لمن عاداه وناوأه
وَقُلْ جاءَ الْحَقُّ أي الإسلام كما قال النسفي وَزَهَقَ الْباطِلُ أي وذهب وهلك، إذ الباطل لا ثبات له مع الحق ولا بقاء إِنَّ الْباطِلَ كانَ زَهُوقاً أي مضمحلا في كل أوان، فليس من لقاء ولا من مساومة، فالباطل عدم، والحق وجود، وعلى العدم أن يرحل أمام الوجود.
هذه هي الأوامر التي وجهت لرسول الله صلى الله عليه وسلم في هذا السياق: الأمر بإقامة الصلوات الخمس، والأمر بالتهجد، والأمر بالاستعانة بالله في كل شئ ودعائه، والإعلان عن مجئ الحق وزهوق الباطل. وفي هذا الإعلان ما يفيد أن الباطل كله يجب أن ينتهي. ومجئ هذه الأوامر في هذا السياق واضح الحكمة، سواء في ذلك سياق السورة، أو السياق الكلي للقرآن، وبعد هذه الأوامر تأتي هذه الآية:
وَنُنَزِّلُ مِنَ الْقُرْآنِ ما هُوَ شِفاءٌ للقلوب من أمراضها، من شك، ونفاق، وزيغ، وميل، وضعف وَرَحْمَةٌ يحصل بها الإيمان، وتوجد بها الحكمة، وتتحقق بها السعادة لِلْمُؤْمِنِينَ فهم وحدهم الذين يعتبر القرآن في حقّهم شفاء ورحمة، به