الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
التفسير:
أَتى أَمْرُ اللَّهِ هذا إخبار منه تعالى عن اقتراب الساعة ودنوّها معبّرا بصيغة الماضي الدالّ على التحقيق والوقوع لا محالة، والمراد بأمره: أمره بقيام الساعة، والتعبير بالماضي عن المستقبل مستعمل عند العرب ويفيد بلاغيا التحقيق. فقوله تعالى هنا أَتى أَمْرُ اللَّهِ يفيد أن أمره بمنزلة الآتي الواقع لقرب وقوعه فَلا تَسْتَعْجِلُوهُ أي فلا تستعجلوا الله فإن الله لا يعجل لعجلة أحد، أو فلا تستعجلوا عذاب الله إذا جاء أمره، والخطاب للكافرين لأنهم هم الذين يستعجلون قرب ما تباعد فإنه آت وكأن قد.
ثم إنه تعالى نزّه نفسه عن إشراكهم به غيره، وعبادتهم معه ما سواه من الأوثان والأنداد فقال: سُبْحانَهُ وَتَعالى عَمَّا يُشْرِكُونَ تبرّأ جلّ وعزّ عن أن يكون له شريك وعن إشراكهم، واتصال هذا المعنى باستعجالهم النابع عن استهزائهم وتكذيبهم يدل على أن ذلك من الشرك، فلو عرفوا الله ووحّدوه لأسلموا له، ولم يستعجلوا ويستهزءوا ويكذّبوا، ومن هنا نفهم أن التوحيد أوسع بكثير مما يظنّه الجاهلون، كما سنرى
يُنَزِّلُ الْمَلائِكَةَ بِالرُّوحِ أي بالوحي أو بالقرآن وهو من الوحي، وسمي الوحي والقرآن روحا لأنه يقوم في الدين مقام الروح في الجسد، أو لأنه يحيي القلوب
الميتة مِنْ أَمْرِهِ عَلى مَنْ يَشاءُ مِنْ عِبادِهِ وهم الأنبياء أَنْ أَنْذِرُوا أي لينذروا أَنَّهُ لا إِلهَ إِلَّا أَنَا هذه هي محور دعوة الأنبياء والرسل، وهذا محور الوحي كله التوحيد، فكل وحي أنزله الله إنما هو من أجل تقرير التوحيد وتأكيده وتفهيمه وتعليمه، فدعوة الرسل من بدايتها إلى نهايتها، وكل ما شرع الله لعباده إنما هو من أجل تقرير هذه الحقيقة وتوكيدها، والقرآن الكريم الذي هو أعظم كتاب منزل إنما هو من أوله لآخره شرح لهذه الحقيقة، وتعليم لها، وتذكير بها، وحماية لها فَاتَّقُونِ أي فاتقوا عقوبتي لمن خالف أمري وعبد غيري، وإذ كان الوحي كله من أجل التوحيد، فقد بدأت الآيات تعرّفنا على الله، وتؤكّد وحدانيته، وتدلّنا عليه وعلى أنّه واحد
خَلَقَ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ بِالْحَقِّ لا للعبث، ومن كان هذا فعله الذي هو آثار صفاته يتعالى عن أن يشرك به غيره لذلك قال: تَعالى عَمَّا يُشْرِكُونَ هو المستقل بخلق السموات والأرض. وحده، فلهذا يستحق أن يعبد وحده فكيف يشركون به غيره، وهو خالقهم، وخالق كل ما يحتاجون إليه، مما ستأتي تفصيلاته، ألا إنها الخصومة لله رب العالمين، ومن ثم نجد السياق يقرّر:
خَلَقَ الْإِنْسانَ مِنْ نُطْفَةٍ أي مهينة ضعيفة، فلما استقل ودرج فَإِذا هُوَ خَصِيمٌ مُبِينٌ أي إذا هو يخاصم ربه تعالى، ويكذّبه، ويحارب رسله، وهو إنما خلق ليكون عبدا لا ضدا، وهو وصف للإنسان بالوقاحة والتمادي في كفران النعمة، ومن رأى آلاف الكتب التي تطرح يوميا في عصرنا، وكلها خصومة لله، وإنكار لوجوده، أدرك الوصف، والآية كما هي إنكار على الإنسان، فإن فيها تدليلا على الله، فإن هذا الإنسان الذي أصله هذه النطفة في حقارتها وصغرها، هو هذا المنطيق المجادل المخاصم ليس لبني البشر فحسب بل لله رب العالمين.
ولقد قال صاحب الظلال عند هذه الآية خَلَقَ الْإِنْسانَ مِنْ نُطْفَةٍ فَإِذا هُوَ خَصِيمٌ مُبِينٌ: (ويا لها من نقلة ضخمة بين المبدأ والمصير، بين النطفة الساذجة والإنسان المخاصم، الذي يخاصم خالقه فيكفر به، ويجادل في وجوده، أو في وحدانيته. وليس بين مبدئه من نطفة وصيرورته إلى الجدل والخصومة فارق ولا مهلة، فهكذا يصوره التعبير، ويختصر المسافة بين المبدأ والمصير، لتبدو المفارقة كاملة، والنقلة بعيدة، ويقف الإنسان بين مشهدين وعهدين متواجهين: مشهد النطفة المهينة الساذجة، ومشهد الإنسان الخصيم المبين وهو إيجاز مقصود في التصوير).