الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
لقد جرت سنّة الله التي وضعها لامتداد الحياة بالتناسل من ذكر وأنثى في جميع الفصائل والأنواع بلا استثناء، حتى المخلوقات التي لا يوجد فيها ذكر وأنثى متميزان تتجمع في الفرد الواحد منها خلايا التذكير والتأنيث .. جرت هذه السنة أحقابا طويلة حتى استقر في تصور البشر أن هذه هي الطريقة الوحيدة، ونسوا الحادث الأول.
حادث وجود الإنسان لأنه خارج عن القياس. فأراد الله أن يضرب لهم مثل عيسى بن مريم- عليه السلام ليذكرهم بحرية القدرة وطلاقة الإرادة، وأنها لا تحبس داخل النواميس التي تختارها. ولم يتكرر حادث عيسى لأن الأصل هو أن تجري السنة التي وضعها الله، وأن ينفذ الناموس الذي اختاره. وهذه الحادثة الواحدة تكفي لتبقى أمام أنظار البشرية معلما بارزا على حرية المشيئة، وعدم احتباسها داخل حدود النواميس وَلِنَجْعَلَهُ آيَةً لِلنَّاسِ.
ونظرا لغرابة الحادث وضخامته فقد عز على فرق من الناس أن تتصوره على طبيعته، وأن تدرك الحكمة في إبرازه، فجعلت تضفي على عيسى بن مريم- عليه السلام صفات الألوهية، وتصوغ حول مولده الخرافات والأساطير، وتعكس الحكمة من خلقه على هذا النحو العجيب- وهي إثبات القدرة الإلهية التي لا تتقيد- تعكسها فتشوه عقيدة التوحيد.
والقرآن في هذه السورة يقص كيف وقعت هذه العجيبة، ويبرز دلالتها الحقيقية، وينفي تلك الخرافات والأساطير).
التفسير:
وَاذْكُرْ يا محمد فِي الْكِتابِ القرآن مَرْيَمَ أي قصة مريم إِذِ انْتَبَذَتْ أي اعتزلت. أي اذكر وقت اعتزالها مِنْ أَهْلِها مَكاناً شَرْقِيًّا أي تخلت للعبادة في مكان ما شرقي بيت المقدس، أو شرقي دارها معتزلة عن الناس
فَاتَّخَذَتْ مِنْ دُونِهِمْ حِجاباً أي جعلت بينها وبين أهلها حجابا. أي استترت منهم وتوارت فَأَرْسَلْنا المرسل هو الله إِلَيْها رُوحَنا أي جبريل عليه السلام وإضافة الروح إلى الله للتشريف. وإنما سمي روحا لأن الدين يحيا به وبوحيه فَتَمَثَّلَ لَها بَشَراً سَوِيًّا فتمثل لها جبريل على صورة إنسان تام كامل مستوى الخلق. قال النسفي: وإنما مثّل لها في صورة الإنسان لتستأنس بكلامه ولا تنفر عنه، ولو بدا لها في صورة الملائكة لنفرت ولم تقدر على الاستماع
قالَتْ إِنِّي أَعُوذُ بِالرَّحْمنِ مِنْكَ إِنْ كُنْتَ تَقِيًّا أي إن كنت
تخاف الله أي إن كان يرجى منك أن تتقي الله فإني عائذة به منك، لمّا تبدى لها الملك في صورة بشر، وهي في مكان منفرد، وبينها وبين قومها ستر، خافته وظنّت أنه يريدها على نفسها فذكّرته بالله. وهذا هو المشروع في الدفع أن يكون بالأسهل، فخوّفته أولا بالله عز وجل
قالَ جبريل إِنَّما أَنَا رَسُولُ رَبِّكِ أمّنها بهذا مما خافت، وأخبر أنه ليس بآدمي بل هو رسول من استعاذت به. ثمّ بيّن لها حكمة إرساله لِأَهَبَ لَكِ بإذن الله، أو لأكون سببا في هبة الغلام بالنفخ في الدرع أي في الثوب غُلاماً زَكِيًّا أي طاهرا من الذنوب، أو ناميا على الخير، فتعجّبت مريم من هذا
وقالَتْ أَنَّى أي كيف يَكُونُ لِي غُلامٌ أي ابن وَلَمْ يَمْسَسْنِي بَشَرٌ أي زوج بالنكاح وَلَمْ أَكُ بَغِيًّا أي زانية فاجرة تبغي الرجال، أي تطلب الشهوة من أي رجل كان، ولا يكون الولد عادة إلا من أحد هذين، أي على أي صفة يوجد هذا الغلام مني ولست بذات زوج؟ ولا يتصور مني الفجور؟
قالَ أي جبريل كَذلِكِ أي الأمر كما قلت لم يمسسك رجل نكاحا ولا سفاحا، ولكنّ الله قادر قالَ رَبُّكِ هُوَ عَلَيَّ هَيِّنٌ أي إعطاء الولد بلا أب عليّ سهل وَلِنَجْعَلَهُ آيَةً لِلنَّاسِ أي فعلنا ذلك لنبيّن لهم قدرتنا، ولنجعله للناس آية أي عبرة وبرهانا على قدرتنا. قال ابن كثير:(أي دلالة وعلامة للناس على قدرة بارئهم وخالقهم، الذي نوّع في خلقهم فخلق أباهم من غير ذكر أو أنثى، وخلق حواء من ذكر بلا أنثى، وخلق بقية الذرية من ذكر وأنثى إلا عيسى فإنه من أنثى، بلا ذكر. فتمت القسمة الرباعية الدالة على كمال قدرته وعظيم سلطانه. فلا إله غيره، ولا رب سواه) وكما هو آية فكذلك هو رحمة. ومن ثم قال: وَرَحْمَةً مِنَّا أي ونجعل هذا الغلام رحمة من الله نبيا من الأنبياء، يدعو إلى عبادة الله وتوحيده وَكانَ أي خلق عيسى أَمْراً مَقْضِيًّا أي مقدّرا مسطورا في اللوح، أي قد قضى الله هذا فليس منه بد. قال ابن كثير: (يحتمل أن هذا من تمام كلام جبريل لمريم، يخبرها أن هذا أمر مقدّر في علم الله تعالى. وقدره ومشيئته.
ويحتمل أن يكون من خبر الله تعالى لرسوله محمد صلى الله عليه وسلم وأنه كنّى بهذا عن النفخ فيها».
فَحَمَلَتْهُ أي عيسى عليه السلام فَانْتَبَذَتْ بِهِ أي اعتزلت وهو في بطنها مَكاناً قَصِيًّا أي بعيدا من أهلها.
فَأَجاءَهَا الْمَخاضُ أي فجاء بها المخاض، أو فألجأها المخاض أي الطلق إِلى جِذْعِ النَّخْلَةِ أي إلى أصلها. أي فاضطرها وألجأها الطلق إلى جذع النخلة في المكان الذي تنحّت إليه قالَتْ يا لَيْتَنِي مِتُّ قَبْلَ هذا أي قبل هذا اليوم، قالت ذلك جزعا مما أصابها، وخوفا من كلام الناس
وَكُنْتُ نَسْياً مَنْسِيًّا أي شيئا متروكا لا يعرف، ولا يذكر. والنسي هو الشئ الذي حقه أن يطرح وينسى لحقارته. قال ابن كثير:(فيه دليل على تمني الموت عند الفتنة، فإنها عرفت أنها ستبتلى وتمتحن بهذا المولود الذي لا يحمل الناس أمرها فيه على السداد، ولا يصدقونها في خبرها. وبعد ما كانت عندهم عابدة ناسكة تصبح عندهم فيما يظنون عاهرة زانية).
فَناداها جبريل أو عيسى مِنْ تَحْتِها إن كان عيسى فإنه خاطبها من تحت ذيلها، وإن كان جبريل فقد خاطبها من مكان منخفض عنها أَلَّا تَحْزَنِي أي لشدة ما لقيت، هذا تسلية لها في وحدتها وجوعها، واحتمالات كلام الناس عليها. قَدْ جَعَلَ رَبُّكِ تَحْتَكِ سَرِيًّا أي جدولا صغيرا على القول الراجح، أو سيدا كريما على القول المرجوح
وَهُزِّي إِلَيْكِ بِجِذْعِ النَّخْلَةِ أي وخذي إليك يجذع النخلة، وحرّكيه تُساقِطْ عَلَيْكِ رُطَباً أي تمرا جَنِيًّا أي طريّا
فَكُلِي من التمر وَاشْرَبِي من الجدول. دلّ هذا على مناسبة التمر للنفساء وَقَرِّي عَيْناً أي بالولد الرضي، أي وطيبي نفسا بعيسى، وارفضي عنك ما أحزنك فَإِمَّا تَرَيِنَّ مِنَ الْبَشَرِ أَحَداً. أي مهما رأيت من أحد فَقُولِي إِنِّي نَذَرْتُ لِلرَّحْمنِ صَوْماً أي صمتا وإمساكا عن الكلام. وكان صوم الصمت مشروعا عندهم، ونسخ في شريعتنا، ولنا عودة إلى هذا الموضوع فَلَنْ أُكَلِّمَ الْيَوْمَ إِنْسِيًّا أي آدميا. قال ابن كثير: المراد بهذا القول الإشارة إليه بذلك، لا أن المراد به القول اللفظي لئلا ينافي فَلَنْ أُكَلِّمَ الْيَوْمَ إِنْسِيًّا وقال النسفي: وإنما أخبرتهم بأنها نذرت الصوم بالإشارة.
وقد تسمى الإشارة كلاما وقولا. وقيل: كان وجوب الصمت بعد هذا الكلام، أو سوّغ لها هذا القدر بالنطق.
فَأَتَتْ بِهِ مريم بعيسى قَوْمَها تَحْمِلُهُ أي أقبلت نحوهم حاملة إياه. فلما رأوه معها قالُوا يا مَرْيَمُ لَقَدْ جِئْتِ شَيْئاً فَرِيًّا. أي. أمرا عظيما عجيبا، والفريّ: القطع. أي أمرا قاطعا للعادة
يا أُخْتَ هارُونَ أي في الصلاح، شبهوها بهارون في الصلاح. ولنا عودة على الموضوع ما كانَ أَبُوكِ امْرَأَ سَوْءٍ أي زانيا وَما كانَتْ أُمُّكِ بَغِيًّا أي زانية
فَأَشارَتْ إِلَيْهِ أي أشارت إليهم إلى خطاب عيسى فغضبوا أو تعجبوا وقالُوا كَيْفَ نُكَلِّمُ مَنْ كانَ فِي الْمَهْدِ صَبِيًّا أي من هو موجود في مهده حال صغره كيف يتكلم:
قالَ إِنِّي عَبْدُ اللَّهِ أول شئ تكلّم به أن نزّه جناب ربه تعالى وبرّأه عن الولد، وأثبت لنفسه العبودية لربه آتانِيَ الْكِتابَ أي قضى أنه يؤتيني الكتاب فيما قضى وَجَعَلَنِي نَبِيًّا أي فيما يأتي، جعل الآتي لا محالة كأنه وجد
وَجَعَلَنِي مُبارَكاً أَيْنَ ما كُنْتُ أي جعلني نفّاعا
حيث كنت، أو معلّما للخير حيث كنت وَأَوْصانِي بِالصَّلاةِ وَالزَّكاةِ أي أمرني بهما ما دُمْتُ حَيًّا أي مدة حياتي
وَبَرًّا بِوالِدَتِي أي بارا بها أكرمها وأعظّمها وَلَمْ يَجْعَلْنِي جَبَّاراً أي متكبرا شَقِيًّا أي عاقا
وَالسَّلامُ عَلَيَّ يَوْمَ وُلِدْتُ وَيَوْمَ أَمُوتُ وَيَوْمَ أُبْعَثُ حَيًّا أي جنس السلام عليّ في هذه المواطن الثلاثة، وفيه تعريض باللعنة على متهميّ مريم وأعدائها، إذ المقام مقام مناكرة وعناد، فكان مئنة لمثل هذا التعريض، وفي كل ما قاله إثبات لعبوديته لله عز وجل، وأنه مخلوق مأمور، وهو خلق من خلق الله الذي يحيي ويميت، كما أنّه يبعث كسائر الخلائق، وفي نطقه المعجز هذا في صغره قدّم الدليل على براءة أمه
ذلِكَ أي الذي قال إنى عبد الله
…
عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ لا كما قالت النصارى إنه إله، أو ابن الله قَوْلَ الْحَقِّ أقول قول الحق، أي هو ابن مريم وليس بإله كما يدّعونه الَّذِي فِيهِ يَمْتَرُونَ أي يشكّون أو يختلفون. فقالت اليهود: ساحر كذاب ابن زانية. وقالت النصارى: ابن الله وثالث ثلاثة
ما كانَ لِلَّهِ أي ما ينبغي له أَنْ يَتَّخِذَ مِنْ وَلَدٍ سُبْحانَهُ نزّه ذاته عن اتخاذ الولد إِذا قَضى أَمْراً فَإِنَّما يَقُولُ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ أي كما قال لعيسى كن فكان من غير أب، ومن كان متّصفا بهذا كان منزها أن يكون والدا
وَإِنَّ اللَّهَ رَبِّي وَرَبُّكُمْ يعني كما أنا عبده فأنتم عبيده، وعليّ وعليكم أن نعبده، وهو من كلام عيسى فَاعْبُدُوهُ أي ولا تشركوا به شيئا هذا أي الذي ذكرته في كوني عبد الله، وأن الله ربي وربكم، وأن عليكم أن تعبدوه صِراطٌ مُسْتَقِيمٌ أي طريق لا عوج له
فَاخْتَلَفَ الْأَحْزابُ أي فاختلف الفرق مِنْ بَيْنِهِمْ من بين النصارى، أو من بين الناس، أو من بين قومه، فمنهم من قال: إنه ابن الله، ومنهم من قال: إنه الله، ومنهم من قال: ثالث ثلاثة ومنهم من قال: هو عبد الله ورسوله فَوَيْلٌ لِلَّذِينَ كَفَرُوا من الأحزاب، إذ أحدهم كان على الحق وهم الذين يعترفون أنه رسول الله مِنْ مَشْهَدِ يَوْمٍ عَظِيمٍ هو يوم القيامة، أو من شهودهم هول الحساب والجزاء في يوم القيامة، أو من شهادة ذلك اليوم عليهم، أو أن تشهد عليهم الملائكة والأنبياء وجوارحهم بالكفر، أو من مكان الشهادة أو وقتها
أَسْمِعْ بِهِمْ وَأَبْصِرْ أي إن عموا وصمّوا عن الحق في الدنيا، فما أسمعهم وما أبصرهم بالهدى يوم لا ينفعهم يَوْمَ يَأْتُونَنا أي يوم القيامة لكِنِ الظَّالِمُونَ الْيَوْمَ فِي ضَلالٍ مُبِينٍ أي في ضلال عن الحق ظاهر واضح، أي لكنهم في الحياة الدنيا- بسبب ظلمهم أنفسهم- في ضلال ظاهر، وهو اعتقادهم أن عيسى إله معبود، مع ظهور آثار